لماذا لا يمكننا تذكر طفولتنا المُبكرة؟!
إنّ معظم الأشخاص لا يملكون ذكرياتٍ لأعوامهم الثلاثة أو الأربعة الأولى، في الواقع نحن نتذكر القليل جدًا عن السنوات السبع الأولى في حياتنا. وعندما نحاول أن نسترجع بعض هذه الذكريات ففي أغلب الأحيان لا تكون الذكريات واضحة، سواءً كانت ذكرياتٍ حقيقية أو أنها فقط مجرد خيالاتٍ مبنيّةٍ على بعضِ القصصِ والصورِ القديمة. هذه الظاهرة والتي تُسمَّى (فقدان ذاكرة الطفولة-childhood amnesia)، كانت لغزًا مُحيرًا لعلماء النفس لأكثر من قرن وما زلنا لا نفهمها بالشكل الكامل إلى الآن.
قد تعتقد للوهلةِ الأولى أن السبب في ذلك أن الأطفال الصغار والرُّضَّع ليس لديهم ذاكرةً ناضجة، ولكن الأطفال في عمر ستة أشهر يمتلكون بالفعل كلًا من: ذاكرة(قصيرة المدى- short-term memory) والتي تمتد لعدة دقائق، و(ذاكرة طويلة المدى-long-term memory) تمتد لأسابيع إن لم يكن لأشهر. ففي إحدى الدراسات والتي تمّ فيها تدريب عددٍ من الأطفال (ذوي ستة أشهر) على كيفية الضغط على ذراعٍ لتحريك لعبة القطار، وعند اختبارهم بعدها بثلاثة أسابيع تمكّنوا من تذكر آلية تحريك هذا القطار! ومن ناحيةٍ أخرى فإن الأطفال في عمر ما قبل المدرسة يمكنهم تَذكُّر أحداثٍ ترجع إلى العديد من السنوات. نحن لا نعلم يقينًا إذا ما كانت هذه الذكريات تَخصُّهم بالفعل، ولكنها -وعلى الرغم من ذلك- أحداث ذات صلة شخصية وقعت في مكانٍ وزمانٍ محدّديْن. بالتأكيد قدرات الذاكرة في هذه المرحلة أقل مما في الكِبَر، فهي تستمر في النضج حتى مرحلة المراهقة.
وفي الواقع، فإن التغيرات الحادثة في العمليات الأساسية للذاكرة تُعد واحدةً من أفضل التفسيرات المطروحة حتى الآن لفقدان ذاكرة الطفولة، هذه العمليات الأساسية تضم عدة مناطقٍ في الدماغ وتشمل تَشكُّل الذكريات، وحفظها وبعد ذلك استرجاعها. على سبيل المثال، يُعتقد أنّ (الحُصَين-hippocampus) -وهو المسؤول عن تكوين الذكريات- يستمر في النمو حتى سن السابعة على الأقل. نحن نعرف أن الحد النموذجي الذي يتوقف عنده فقدان ذاكرة الطفولة – ثلاث سنوات ونصف- يزداد بتقدم العمر، فالأطفال والمراهقون لديهم ذكريات أقدم من تلك التي يمتلكها البالغون، لذلك فإن المشكلة تكمُن في كيفية الحفاظ على هذه الذكريات أكثر من تكوينها.
ولكن ذلك لا يبدو هو السبب الوحيد، هناك سبب آخر يلعب دورًا هامًا وهو (اللغة).من سنِّ عامٍ إلى ستة أعوام يُطُّور الأطفال قدرتهم على التحدث من مرحلة الكلمة الواحدة إلى التحدث بطلاقةٍ بلغتهم الأم، لذلك فهناك تَغيُرات كبيرة تحدث في قدرتهم الكلامية والتي تتزامن مع فترة فقدان ذاكرة الطفولة. ومنها استخدام الأفعال في زمن الماضي وكلمات مرتبطة بالذاكرة مثل (يتذكر) و(ينسى) والضمائر الشخصية وبخاصة (مِلْكِي-mine). إن قدرة الطفل على نطق حدث ما في وقت حدوثه يتنبأ بتذكر الطفل لهذا الحدث فيما بعد لشهور أو سنوات. وعندما تم تجربة ذلك على عدة أطفال بعد تعرضهم لحادث، فإن الأطفال أكبر من ستة وعشرين شهرًا والذين تمكنوا من قصّ هذا الحادث استطاعوا تذكره بعدها بخمسِ سنوات على عكس الأطفال الأقل من ذلك العمر الذين لم يتمكنوا من سرد الحادث وبالتالي لم يتذكروا شيئَا عنه أو تذكروا القليل فقط، وهذا يبين أن الذكريات قبل عمر التحدُث تُنسى إذا لم يتم تحويلها إلى لغة.
تأثير المجتمع والثقافة:
وبالرغم من أن معظم الأبحاث حول دور اللغة تركز على شكل معين من أشكال التعبير يُسمى السرد، بالإضافة إلى وظيفته الاجتماعية، إلّا أنه عندما يقوم الآباء باسْتِذْكَار أحداث الماضي مع أطفالهم، فإنهم يقومون بتعليمهم مهارات السرد ضمنيًا، بالإضافة إلى أنواع الأحداث المهمة للتذكر وكيفية بلورتها بحيث يفهمها الآخرون. وعلى خلاف تذكر المعلومات لأسباب عملية، فإن الاستذكار يتمحور حول الأهمية الاجتماعية من مشاركة الخبرات مع الآخرين. بهذه الطريقة فإن القصص العائلية تُحافظ على إمكانية الوصول إلى الذاكرة بمرور الوقت، وأيضًا تزيد من ترابط السرد من خلال التسلسل الزمني للأحداث، وطبيعة الموضوع وقوة العاطفة المسيطرة، فالأحداث المترابطة أفضل في التذكر. وكمثالٍ على أهمية اللغة للذاكرة يتم ذِكْر (الماوري-Maori)-وهم السكان الأصليون لنيوزيلاندا- فهم يمتلكون أقدم ذاكرة طفولة (بداية من سن عامين ونصف)من بين جميع المجتمعات حتى الآن، وذلك بفضل إفاضة الآباء في سرد القصص العائلية.
إن الاستذكار له أدوار اجتماعية عديدة في مختلف الثقافات، فهو يساهم في الاختلاف الثقافي كمًّا وكيفًا، وأيضًا -كما أشرنا- في تحديد توقيت بداية تكوّن الذكريات الشخصية. إن الأفراد في الثقافات التي تعتمد على الاستقلالية (أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية) لديهم ذكرياتٍ أكثر وأقدم من هؤلاء الذين يعتمدون على الطابع الأسري (أسيا وأفريقيا).ويمكن التنبؤ بذلك من خلال الاختلاف الثقافي لطريقة الآباء في تدريب أبنائهم على الاستذكار، فنجد أن الثقافات التي تُحفز مفاهيم الاستقلالية تركز أثناء الاستذكار على التجارب الشخصية للأطفال بالإضافة إلى الأشياء المفضلة لديهم ومشاعرهم، بينما لا تهتم بعلاقتهم مع الآخرين، الروتين الاجتماعي أو المعايير السلوكية. على سبيل المثال الطفل الأمريكي يستطيع تذكر حصوله على نجمة ذهبية في مرحلة ما قبل الدراسة، في حين أن الطفل الصيني يتذكر تعلم الفصل لأغنية معينة.
بالرغم من أن هناك أشياءً لازالت مُبهمة حول فقدان ذاكرة الطفولة، إلّا أن الباحثين أبرزوا تقدمًا ملحوظًا. فقد بدأ العلماء في المزيد من الدراسات المستقبلية التي تُتابع الأفراد منذ طفولتهم وأثناء السنوات التالية، الشيء الذي يُمكِّنُنا من الحصول على حساباتٍ دقيقةٍ للأحداث، بدلًا من سؤال الأشخاص العودة بذاكرتهم إلى الماضي لاسترجاع أحداثٍ غير مُوثّقَة. وأيضًا مع تقدم علم الأعصاب سيكون هناك العديد من الدراسات التي تربط تطور الدماغ بتطور الذاكرة، والذي من ناحيته سيعمل على تطوير قدرتنا على وضع قياساتٍ أخرى للذاكرة بالإضافة إلى التقارير الشفهية الموجودة الآن. وفي هذه الأثناء يجب أن نعرف أنه بالرغم من عدم مقدرتنا على تذكر أحداثٍ معينة بدقة في صغرنا، إلا أنها بكل تأكيد تترك آثارًا دائمة، مؤثرةً بذلك في سلوكنا. إن السنوات الأولى في حياتنا على الرغم من كونها منسيّةً إلّا أنها ذات أهميةٍ كبيرةٍ في تشكيل ما نحن عليه الآن.
ترجمة: Ashraf Waziry
مراجعة: Mohamed Sayed Elgohary
تحرير: Sarah Abdallah