لمَ يحمل النقد وزناً أكبر من المدح؟

criticism
||

حين تجرّب تسريحة شعر جديدة أو لباساً جديداً، أو حتّى تلقي نكتة، لا يهم عدد الناس الذين امتدحوك مقابل الشخص الذي انتقدك أو نظر إليك بطريقة ليست باللطيفة. إن المدح لطيف، لكنّ النقد .. لاذع!
إذاً ما الذي يحدث هنا؟؟ إذا كان هذا الشعور لا يجلب السعادة أبداً، فلمَ يتعامل الدماغ مع الأمر بكل هذه الجدية؟؟ هل هناك آلية عصبية لذلك، أم هي حالة من الهوس الدماغي بكل ما هو مزعج-كالرغبة الملحّة في العبث بجرح أو خلع سنّ مكسور؟ بالتأكيد هناك أكثر من إجابة محتملة.

كيمياء النقد

البشر كائنات معقدة، ومن نواتج ذلك أنهم يعتمدون على آراء وردود فعل الآخرين بشكل كبير. تنصّ نظرية الحفاظ على الذات الاجتماعية على أن للإنسان دافعاً قوياً ومترسخاً ليكون محبوباً من قبل هؤلاء الأشخاص ذوي الرأي المؤثر فيه، ومن هنا ينشأ تهديد التقييم المجتمعي؛ فالنقد، والسب، والرفض، والسخرية: كل هذه الأشياء تؤثر وقد تدمر شعورنا بأهمية أنفسنا، خاصة إذا ما حدثت في العلن، وهذا يتناقض مع هدفنا بأن نكون محبوبين من قبل المجتمع.
أمّا على المستوى العصبي، فإن قوة النقد تعود إلى وظيفة هرمون الكورتيزول (cortisol)، والذي يُفرز عادة في المواقف العصيبة، ويعتبر بشكل كبير المسبب لكل المشاكل التابعة للشدة المزمنة. ولذلك كل ما قد يسبب تهديداً لصورة الإنسان الاجتماعية، سيساعد بشكل تلقائي على إفراز هرمون الكورتيزول في الجسم. بالإضافة إلى ذلك، حين نتعرض للنقد، فإنّ ذلك يساعد على تفعيل استجابة القتال أو الفرار (fight-flight response)، وهي آلية تجعل الذاكرة أكثر شفافية وقوة، مما يجعلنا نتذكر هذه المواقف بكل وضوح.
أمّا بالنسبة للأشياء اللطيفة كالمدح، فلها أيضاً استجابة عصبية كإفراز هرمون الأوكسيتوسين (oxytocin)، لكنه أقل قوة وتأثيراً، فقد يزول تأثيره بعد حوالي 5 دقائق، وهذه تعتبر مدة قصيرة مقارنة بالكورتيزول الذي يستمر تأثيره حتى ساعة أو اثنتين. لكن من التضليل أن نفسر كل ما يحدث في الدماغ تبعاً للهرمونات، ولذلك دعونا ننظر إلى الاحتمالات الأخرى لهذا التأثير القوي المصاحب للنقد.

العرف يعزز الشعور بالنقد

الحداثة قد يكون لها دور. معظم الناس على اختلاف ثقافاتهم يتعاملون مع الآخرين بما يقرره العرف و”الإتيكيت”، فمثلاً الصراخ على أحدهم في الطريق هو فعل لا يُحترم -إلّا بالنسبة لمراقبي المرور في ازدحام السير الذين يبدون كاستثناء لهذه القاعدة. يتبع الكلام اللطيف هذه القاعدة، فهو يعتبر عرفاً، كأن تقول شكراً للصراف حين تدفع الحساب ويعطيك الباقي منه، على الرغم من أن هذه نقودك ومن حقك. وبالتالي حين يصبح أيّ فعل عرفاً، يميل الدماغ إلى تجاهله بشكل أكبر من خلال عملية الاعتياد، إذ أنه أمر يحدث طوال الوقت ولا يجب تضييع مجهود ذهني في التركيز عليه، ومن السهل تجاهله. ولهذا يكون للنقد تأثير أكبر بكثير؛ لأنه ببساطة غير معتاد، فالوجه الوحيد العابس وسط جمهور ضاحك سيظهر بشكل أكبر لأنه مختلف عن الآخرين. أنظمتنا البصرية والانتباهية تطورت للتركيز على الحداثة والاختلاف والتهديد، وهو ما يجسده الوجه العابس، وهذا ما يجعلنا نصبّ اهتمامنا بشكل أكبر على الأحداث المزعجة لمعرفة سبب حدوثها وتفاديها في المرات المقبلة.

الأنا وكيفية التعامل مع النقد

تميل أدمغتنا لجعلنا مغرورين إلى الحد الذي يجعلنا نتذكر الأحداث بشكل يحسّن صورتنا تجاه أنفسنا. وإذا كانت هذه حالتنا الافتراضية، فإن المدح يخبرنا ما نعرفه مسبقاً عن أنفسنا، في حين أن النقد يكون أصعب في ترجمته وبمثابة صدمة لجهازنا العصبي. فحين تعرض نفسك من خلال فكرة أو أداء أو حتى رأي، فكأنك تقول: «أعتقد أنكم ستعجبون بهذا»، وتنتظر استحسان الناس إلّا إذا كنت في غاية الثقة من نفسك، وحينها يكون هناك دائماً عامل شك بأنك قد تكون مخطئاً، وتكون في ذلك الوقت أكثر حساسية لأي رفض أو انتقاد، وتبدأ بالبحث عن أيّة علامة تؤكد ذلك، خاصة إذا كان ما تعرضه شيئاً تبذل حياله الكثير من الجهد والاهتمام وتشعر ناحيته بالفخر الشديد، وعندما تبحث عن شيء بكلّ هذه الجدية فإنك غالباً ما تجده، كما في حال الشخص مدعّي المرض الذي يفلح دائماً في العثور على أعراض لأمراض نادرة، ويطلق على هذه العملية تأكيد التحيز (confirmation bias) حيث نركز على ما نهتم به ونتجاهل كلّ ما لا يتماشى معه.

المدح أقل واقعية من النقد

نحن دائماً نطلق الأحكام بناء على ما نعرفه فقط، وما نعرفه ينبع من استنتاجاتنا وخبراتنا، وبهذا نحن عادةً نحكم على الناس طبقاً لما نفعله، فإذا تحلّينا مثلاً بالأدب لأن العرف يفرض علينا هذا، فإننا ببساطة ننتظر من كل الناس أن تفعل ذلك، ولهذا كل ما نستقبله من مدح سيتعرض للتساؤل حول إذا ما كان حقيقياً أم لا، أما الانتقاد المُوجّه إليك فسيعني أنك كنت سيئاً للدرجة التي جعلت أحدهم يتحمل عناء الخروج عن العرف لينتقدك، ولهذا مرة أخرى يكون للنقد وزنٌ أكبر من المدح.

المصدر:

Burnett, D. (2016). Idiot Brain: What Your Head Is Really Up To. WW Norton & Company.Chicago

ترجمة: ضحى إبراهيم
مراجعة علمية: أحمد منتصر
تدقيق لغوي: رؤى زيات
تحرير: هدير جابر

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي