مقدمة: ما هي «ما بعد الحداثة»؟
كثيرةٌ هي التعريفات التي حُدّد بها مصطلح «مابعد الحداثة» (postmodernism)، لكنها جميعها تتفق على أن هذا المصطلح يشير إلى حركة ثقافية واسعة تلت الحداثة، وقامت على التشكيك في تقاليد وتوجهات القرن العشرين الأدبية. ولا توجد نقطة زمنية محددة تفصل بين نهاية الحداثة وبداية ما بعد الحداثة. يعرف «قاموس أوكسفورد للمصطلحات الأدبية» (The Oxford Dictionary of Literary Terms) ما بعد الحداثة على أنها مصطلح يشير إلى «ما نتج عن العصر الذهبي للتلفزيون منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين» بشكل عام، وإلى «الظروف الثقافية التي سادت في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة منذ الستينيات» بشكل خاص، وكان من بينها أدبيات تهتم بوصف «الشعور بالتداعي والتشظي، والحنين إلى الماضي، والتشوش، مما يُفضي إلى انفصال عن القيم [الأدبية] التقليدية، كالعمق، والاتساق، والمعنى، وسط دوامة عشوائية من الإشارات الفارغة» [1]. وبذلك لا يقوم أدباء ما بعد الحداثة بالتشكيك في الأشكال الأدبية التقليدية وتجاوزها فحسب، بل ويعيدون تعريف اللغة نفسها من ألفاظ وإشارات ومعاني، فيتولد عن ذلك كله إحساس -ما بعد حداثي- بعبثية الوجود.
عن عنصر «الغياب» في ما بعد الحداثة
يعتبر عنصر «الغياب»، بعكس «الحضور» [2]، واحدًا من أهم خصائص أدب ما بعد الحداثة كما أوردها إيهاب حسن (Ihab Hassan) في كتابه «تقطيع أوصال أورفيوس: نحو أدب ما بعد الحداثة» (1982 (The Dismemberment of Orpheus: Towards a Postmodern Literature) -من الجدير بالذكر أن «تقطيع أوصال أورفيوس» من أول وأهم الدراسات النقدية التي ناقشت قضية ما بعد الحداثة في الأدب. كان الغياب، ومحاولة التفكر فيه والتعبير عنه من أوجه نظر أدبية وفلسفية، هو طريق ما بعد الحداثيين إلى نقد الفكر الغربي وميتافيزيقيته؛ حيث كان «الحضور» أساس الميتافيزيقا الغربية التي اختُزِلت، وساوت بين الحضور، والمعنى، والوجود، والحقيقة [3]. وكان التصور الإنساني من وجهة نظر الحداثة هو أن الإنسان كينونة حرة تقود نفسها بنفسها، قادرة على التفكير العلمي العقلاني القادر بدوره على تزويد الإنسان بالأمان المادي. لذلك جاءت ما بعد الحداثة واهتمامها بالوجود والغياب كرد فعل نقدي لانشغال الحداثة التفاؤلي بالإنسان، وتجاهلها أو تغاضيها عن التفكر في الميتافيزيقا بنفس القدر [4].
تدين ما بعد الحداثة بالكثير إلى مقاربة الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر (Martin Heidegger) للأنطولوجيا في كتابه «الوجود والزمان» (1927) (Being and Time) بصفتها حركة «كشف» مغايرة؛ حيث كشف الالتفات إلى ميتافيزيقا الحضور أهمية الغياب، وأن وراء كل حضور أو وجود، شكل من أشكال الغياب. في الحقيقة، لم يكن عنصر الغياب جديدًا على الفكر الغربي؛ حيث سبق وأن تناوله الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (Friedrich Nietzsche) في كلٍ من «العلم المرح» (The Gay Science) (1881)، و«هكذا تكلم زرادشت» (Thus Spoke Zarathustra) (١٨٨٥)، و«غسق الأوثان» (Twilights of the Idols) (1889). وقد قدم نيتشه فكرة غياب الإله حينما أعلن «موت الإله» في «العلم المرح» [5]، غير أنه لم يعن حرفيًا أنه قد كان هناك إله وأنه مات، بل أن تطور العلم قد قضى على حاجة الإنسان إلى كينونة ميتافيزيقية يؤمن بها. وبالطبع نخص بالذكر الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (Jacques Derrida)، الذي يعتبره البعض المتحدث باسم الغياب، حيث ناقشت أعماله ميتافيزيقا الحضور قبل أن يدحضها هو نفسه فيما بعد في سبيل تبني ميتافيزيقا عدم الحضور أو ميتافيزيقا الغياب بدلًا منها. في هذا الضوء، يبقى الغياب هاجسًا يراود ما بعد الحداثيين، مشكلًا مقاربتهم، ليس للواقع المعاش وحسب، بل وأيضا لفكرة (وجود/غياب) الإله نفسها.
«في انتظار جودو» كمسرحية ما بعد حداثية
يكمن هاجس الغياب في قلب «مسرح العبث» (theatre of the absurd)، الذي غلب على معظم الأعمال الأدبية في القرن العشرين. إنه مصطلح سكه مارتن إسلين (Martin Esslin)، واستلهمه من وجودية الفيلسوف الجزائري-الفرنسي ألبير كامو (Albert Camus). وكان من رواد تلك الحركة الأدبية الكاتب المسرحي الأيرلندي صمويل بيكيت (1906 – 1989) (Samuel Beckett)، والتي كانت بمثابة حركة انتقالية بين الحداثة وما بعد الحداثة. عنيت تلك الحركة بالتعبير عن مبادئ الوجودية، وعدم جدوى الوجود الإنساني في كون بلا قيمة أو معنى؛ فما كان من أدباء تلك الحركة إلا أن تجاهلوا القواعد التقليدية «المنطقية» للشخصيات، والحوار، وتسلسل الأحداث، والشكل الدرامي. ومن أشهر الأعمال المسرحية لبيكيت «في انتظار جودو» (Waiting for Godot) (1959). في هذه المسرحية، يسيطر عنصر الغياب على الأحداث، والأبطال، وحتى على مكان الحدث. ويسيطر أيضًا هاجس (وجود/عدم وجود) الإله على شخصيات المسرحية القابعين في انتظاره، إلا أنه لا يأتي أبدًا. وفي الانتظار، تنشغل الشخصيات نفسها بأمور عبثية، من بينها تحليل عناصر المكان/المسرح، إلا أن المسرح فارغ من الأساس. ومع مرور الوقت، تفقد الشخصيات الإحساس به (أي بالوقت)، كما تفقد القدرة على الكلام والنطق وتذكر الأحداث، ولا يبقى إلا الغياب كبطل للمسرحية.
وكان واحدًا من المواضيع التي انشغل بيكيت بتصويرها هو فرضية أن جميع مشكلات الإنسان تكمن في فكرة الإله؛ فعلى الإنسان الاعتراف باستحالة الوصول إلى فهم كلي وشامل يتجاوز قدرة الإنسان على الفهم، وإن حاول الإنسان فهم الإله ستؤول كل محاولاته إلى الفشل. تسيطر هذه التيمة على مسرحية «في انتظار جودو»، والتي يمكن تلخيصها في أربع كلمات تتكرر في الحوار مرة بعد الأخرى: «نحن في انتظار جودو»، فتصبح إطارًا للحوار، وللشخصيتين فلاديمير وإيستراجون، يمنعهما من القيام أو حتى التفكير بأي شيء آخر، وتحُول دون مغادرتهما المكان: فهما في انتظار قدوم جودو.
إستراجون: ما دورنا في كل ذلك؟
فلاديمير: دورنا!
إستراجون: خذ وقتك.
فلاديمير: دورنا! دور المتوسل.
إستراجون: لهذه الدرجة!
فلاديمير: لحضرتك حقوق تطالب بها!
إستراجون: ألم يعد لنا أي حق؟ (فلاديمير يضحك) . . .
فلاديمير: تضحكني، بعد إذنك.
إستراجون: فقدنا حقوقنا.
فلاديمير: (بوضوح) تخلينا عنها. [6]
إستراجون: لا أستطيع الاستمرار هكذا.
فلاديمير: هذا ما تعتقده.
إستراجون: ما رأيك لو نفترق؟ قد تتحسن الأمور.
فلاديمير: نشنق نفسينا غدًا. (صمت) إلا إذا جاء جودو.
إستراجون: وإذا جاء!
فلاديمير: نفوز بالخلاص. [7]
إستراجون: والآن ماذا نفعل؟
فلاديمير: لا أعرف.
إستراجون: فلنرحل.
فلاديمير: لا نستطيع.
إستراجون: لماذا؟
فلاديمير: نجن في انتظار جودو.
إستراجون: صحيح.
(صمت) [8]
لا تتذكر أي من الشخصيتين أين أو متى قال لهما جودو أن ينتظرا قدومه، أو حتى ما إذا كانا قد التقيا به فعلًا؛ كل ما يعرفانه هو أن جودو سيصلح كل شيء، ويجلب لهما الهناء وراحة البال. من ثم يبقى إيستراجون وفلاديمير حبيسي انتظار شخص لا يوجد حتى ما يدل على وجوده أصلًا غير عبارة تفوه بها صبي ما ذات مرة، حين قال:
«قال لي السيد جودو بأن أقول لكما بأنه لن يأتي هذا المساء ولكنه سيأتي بالتأكيد غدًا» [9].
لا يتساءل إيستراجون وفلاديمير عن هوية الصبي، أو ما إذا كان صادقًا، أو عن هوية جودو ذاك، أو عن السبب الذي يتوجب عليهما انتظاره من أجله. من ثم يصبح الصبي وكلماته مصدر اختلاف وإرجاء (Différance)؛ ويصبح إيستراجون وفلاديمير حبيسي دائرة مفرغة من انتظار غدٍ وجودو لا يأتي أبدًا.
يكمن معظم ما يريد بيكيت قوله في ما يغيب عن النص. يثير عدم وصول أو غياب شخصية جودو الكثير من التساؤلات والتخمينات حول ماهية جودو وحقيقة قدومه المزعوم، أو حتى ما إذا كان جودو موجودا من الأساس. وعندما سئل بيكيت عن ماهية أو كُنه جودو، قال:
«لو كنت أعرف كنت لأقوله في المسرحية» [10].
لكن، على الرغم من هذا، نجد أن بيكيت لا يكف عن وضع عبارات مثل «ربما» و«لا شيء مؤكد» على ألسنة شخصياته، مما يفتح أمام القارىء أفقًا واسعا يتسع للعديد من التفسيرات المحتملة لماهية شخصية جودو. فمن ناحية، من الممكن أن نفسر شخص جودو على أنه فاعل خير سوف يريح إيستراجون وفلاديمير من عذاباتهما، أو على أنه تجسيد للموت حيث تكرر قولهما بأنهما سينتحران إن لم يأت الموت ويأخذهما. من ناحية أخرى، يرجح العديد من النقاد أن اسم جودو (Godot) هو إشارة للفظ (God) أو إله بالإنجليزية، مشيرين إلى أن وصف الصبي لمظهر جودو كعجوز طويل اللحية كان مشابها «للرسومات والجداريات التي تصور الإله في الغرب، أو كتصور طفل لشكل الإله» [11]. كذلك، مع مرور الوقت ومحاولة شخصيات المسرحية تذكر اسم جودو، نجدهم يتساءلون عن اسمه: «جوديه… جودو… جودين»؛ بحيث يتداعى الاسم ولا يبقى منه إلا مقطع جود (God) في إشارة إلى الإله [12].
وبالرجوع إلى الإطار التاريخي الذي كتبت فيه المسرحية إبان الحرب العالمية الثانية، يصبح هذا التفسير غير مستبعد أبدًا؛ يبدو الإله في «في انتظار جودو» «كما لو أنه تخلى عن عالم وقع ضحية الهمجية، والدمار الشامل، وجرائم القتل الجماعي..
وقد خلف غيابه فراغًا تحاول الرغبات العبثية والآمال الواهية ملأه بلا جدوى» [13]. في عالم وحشي وعبثي، لا تجد شخصيات المسرحية أمامها من مفر سوى خلق ما يسميه فيلسوف ما بعد الحداثة جان بودريار (Jean Baudrillard) محاكاة زائفة (simulacrum) متجسدة لتصورهم عن الإله المنقذ والمخلص. وبما أن فعل اللافعل الذي تقوم به شخصيات المسرحية -أي فعل الانتظار- يكتسب معناه من الوصول الفعلي لشخص جودو الذي لا يأتي أبدًا، ربما لأنه غير موجود من الأساس، فإن فعل الانتظار يفقد معناه، وتفقد حياة الشخصيات بدورها معناها. فيصبحان حبيسي قدر سيزيفي؛ ويصبح الانتظار هدفًا بذاته. بذلك يصبح جودو تجسيدًا لأزمة الغرب الثقافية والعقائدية -المتمثلة في العدمية وما بعد الداروينية- في البحث عن المعنى في القرن العشرين.