# سلسلة_ مقالات_ اضطرابات_ الشخصية
المقال (9) – (الروابط، نهاية المقال)
من المعتاد في حواراتنا اليومية سماعنا لعبارات في وصف الناس تعكس انطباعاتنا النفسية عن ذوات الآخرين.. فنقول مثلًا فلانًا ذو شخصية انطوائية أو اجتماعية، وكذا إنسانًا آخر ذو شخصية معادية للمجتمع. علم الطب النفسي، قام بدراسات مطولة لقولبة هذه الصفات في شكل فئات مترابطة مع أنواع اضطرابات الشخصية.
الشخصية واضطراب الشخصية:
الشخصية، تُعرف عادةً بأنها مجموعة من من الأفكار والعواطف والسلوكيات التي تجعل كلَّ شخصٍ منا فريدًا من نوعه. فهي الكيفية التي بها يرى ويفهم وينتمي المرء إلى هذا العالم، جنبًا إلى جنب كيفية تصوره لذاته. تتكون الشخصية أثناء الطفولة وتتشكل من خلال تفاعلات النزعات الموروثة مع العوامل البيئية.
اضطراب الشخصية، وفقًا لموقع مايوكلينيك Mayo Clinic، هو نوعٌ من الاضطراب العقلي الذي يتولَّد من خلاله نمطٌ جامد غير صحيٍّ في التفكير والأداء والسلوك، إضافةً إلى مشكلةٍ في الإدراك والربط والتعامل مع الظروف والغير، مما يتسبب في مشكلات وقيود كبيرة في العلاقات والأنشطة الاجتماعية والعمل والمدرسة.
اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع (Antisocial PD)
لغويًا المصطلح يتكون من كلمتين، الأولى من اللغة اليونانية القديمة:
anti:ضد/معادٍ
والثانية من اللغة الانجليزية
social: المجتمع
فيصبح المعنى اللغوي، «المعادية للمجتمع».
وطبيًا، يُصنِّف الدليل التشخيصي الإحصائي الخامس للاضطرابات النفسية DSM-5، هذا الاضطراب ضمن ما يسمى «المجموعة ب» من اضطرابات الشخصية. وتشمل المجموعة «ب» أربعة أنواع من اضطرابات الشخصية، وهم: 1- الشخصية الحدية 2- الشخصية النرجسية 3- الشخصية الهستيرية 4- الشخصية المعادية للمجتمع.
أما إحصائيًّا، ووفقًا لموقع المركز الوطني للصحة النفسية NIMH، فإن نسبة انتشار اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، تناهز الواحد بالمائة (1%) من البالغين من السكان في الولايات الأمريكية المتحدة. كما تؤكِّد ميلًا قويًا لكفة ميزان الوراثة باتجاه الجينات الذكرية، حيث تُبرز المشاهدات ارتفاعًا كبيرًا في عدد الإصابات في الرجال عن نظيره في النساء.
تُثبت الأرقام أن نسبة الإصابة باضطرابات الشخصية على اختلاف أنواعها تزيد عن (9%)، وهذا يوازي أكثر من (23) مليون شخص من سكان الولايات المتحدة. من المهم، التنويه بأن الندرة في أرقام الإحصاءات الموضحة لانتشار هذه الاضطرابات، تجعل من المتعذر الإحاطة بالتوزيع الجغرافي -لاضطرابات الشخصية- للأشخاص المصابين في دول العالم.
المجموعة «ب»
حسب الدليل التشخيصي والإحصائي للصحة النفسية، يقع اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع في المجموعة «ب». حيث تمتاز اضطرابات الشخصيات في هذه المجموعة بالتمثيل المسرحي والانفعالية أو غرابة الأطوار. وتشمل المجموعةُ أربعةَ أنواعٍ من الاضطرابات:
* اضطراب الشخصية النرجسية – Narcissistic PD
* اضطراب الشخصية الهستيرية – Histrionic PD
* اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع – Antisocial PD
* اضطراب الشخصية الحدية – Borderline PD
في هذا المقال سنقوم ببحثِ اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع. جديرٌ بالذكر، أنه في مقالاتٍ سابقة قد تمت تغطية كلٍّ من اضطراب الشخصية النرجسية (ثلاثة أجزاء) واضطراب الشخصية الهستيرية والارتيابية. أما المقال القادم فسيبحث اضطراب الشخصية الحدية.
ما هو اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع؟
هو نمط سائد من التجاهل لدى الشخص المصاب للقوانين والمعايير الاجتماعية السائدة، ينتج عنه إخفاقٌ ذريع في أداء المسؤوليات الحياتية والعملية لديه على حدٍّ سواء.
يُوصَم هذا الاضطراب بأنه إجرامي، فهو يتسم بالمناهضة والاعتداء على حقوق الآخرين وتعريضهم للأذى في سبيل خدمة المصالح الذاتية، يرافقه انعدام متعمق من أي إحساس بالندم أو بالذنب مع ممارسة الكذب مرارًا. يبتدئ ظهور الاضطراب في مرحلة المراهقة المبكرة ويستمر في سن الرشد.
الأعراض:
يمتاز هذا الاضطراب بظهور اعتلالٍ مستمر في المسلك السلوكي في طور المراهقة، وقبل سن الخامسة عشر.
العدوانية تجاه الأشخاص والحيوانات، مثل تدمير الممتلكات والسرقة، ويُشاهد الاضطراب بشكلٍ جَلِيٍّ في السجون. تشتمل الممارسات الشائعة في بداياته على إشعال النيران والقسوة ضد الحيوانات.
ومن أهم الأعراض السائدة:
* تجاهل الصواب والخطأ، وتجاهل العواقب السلبية للسلوك والتعلم منها.
* كثرة وجود مخالفات شديدة للقانون، مع ترافق السلوك الإجرامي.
* الغطرسة مع العناد الشديد.
* استعمال الجمال أو الذكاء للتلاعب بالآخرين، في سبيل المصلحة أو المتعة الشخصية.
* استخدام الكذب والخداع والترهيب بشكل متكرر، في انتهاك حقوق الآخرين لأجل المصلحة الشخصية.
* تحجر القلب وانعدام التعاطف والاستهزاء وعدم الاحترام للناس.. مع علاقات فاشلة أو مؤذية.
* ركوب المخاطر غير الضرورية، دونما أخذ اعتبار السلامة سواء للنفس أو للغير في الحسبان.
* انعدام الندم بعد التسبب في إيذاء الغير.
* افتقار حس المسؤولية، وتكرار الفشل في الوفاء بالالتزامات المالية.
* اندفاع في التصرف أو الفشل في التخطيط للمستقبل.
* الشر والظلم مع الاضطهاد والعدائية والنزق المفرط والهياج والعنف.
الأسباب:
حتى الآن، لم يصل علم الطب النفسي إلى درايةٍ كافية في هذا المنحى بعد، فلا تزال مسببات اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع على وجه التحديد غير معلومةٍ طبيًا، وإن كان هناك ترجيحًا لبعض العوامل المحفزة لظهور الاضطرب كالوراثة والمعاملة السيئة للطفل. مثلًا، يزداد عامل خطر إصابة الطفل بالاضطراب في حالات كون أحد الوالدين مصابًا بنفس الاضطراب أو مدمنًا على الكحول.
ومن العوامل المحفزة:
* الجينات، قد تلعب دورًا في جعل المرء عرضة لانبعاث اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، كما أن ظروف الحياة حالات الحياة قد تقدح زناده.
* التغييرات في طريقة أداء وظائف الدماغ قد تكون ناتجة أثناء نمو الدماغ.
عوامل الخطر:
قد تُسبِّب بعض العوامل خطر نشوء اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، مثل:
* تشخيص اعتلال السلوك، خلال مرحلة الطفولة.
* التعرض للإساءة أو الإهمال، أثناء مرحلة الطفولة.
* فقد الاستقرار أو الفوضى أو العنف في الحياة الأسرية، في مرحلة الطفولة.
* تاريخ عائلي، من الاضطرابات الشخصية سواء المعادية للمجتمع أو اضطرابات الشخصية الأخرى، أو المرض العقلي.
= هذه القائمة، تظهر الأهمية النوعية لمرحلة الطفولة على وجه الخصوص.
المضاعفات:
تشمل المضاعفات والعواقب والآثار الناجمة عن اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، مثلًا:
* إساءة معاملة الزوج / الزوجة، أو إساءة معاملة الطفل أو إهماله.
* تعاطي الكحول أو المخدرات.
* التواجد في السجن.
* سلوكيات القتل أو الانتحار.
* اضطرابات نفسية أخرى كالاكتئاب أو القلق.
* تواضع الحالة الاجتماعية أو الاقتصادية، أو التشرد.
* المشاركة في عمل العصابات الإجرامية.
* الوفاة المبكرة، في العادة نتيجة للعنف.
التشخيص:
يقوم الطبيب بالتشخيص بعد الفحص والتقييم وتسجيل التاريخ المرضي.
تقليديًا، لا يتم تشخيص هذا الاضطراب قبل سن الثامنة عشر. وتظهر بعض أعراضه بشكل اضطراب سلوكي في مرحلة الطفولة، وعادة قبل سن الخامسة عشر.
من المستبعد للمصاب باضطراب الشخصية المعادية للمجتمع الظن بحاجته إلى المساعدة. لكنه قد يلجأ لطلبها من الطبيب بسبب أعراض أخرى كالاكتئاب أو الإدمان على المخدرات.
كما أنه من الصعوبة على الطبيب بمكان رصد الدلائل والأعراض، فالمؤشر المفتاحي هو تعاملات المصاب مع الآخرين. لذا، وبعد أخذ الإذن منه، يكون استشفاف المعلومات من دائرة الأهل والأصدقاء أمرًا مفيدًا. التشخيص المبكر، يُحسِّن النتائج الاستشفائية طويلة الأمد.
الشخصية السيكوباتية (psychopathic personality (psychopathy
يُدعى هذا الاضطراب لدى البعض أحيانًا بالشخصية السيكوباتية، لكن هذا المصطلح غير شائع لدى الأطباء في الولايات الأمريكية المتحدة. فهناك خلاف بين الأطباء في تصنيف اضطراب آخر يدعى، اعتلال الشخصية النفسي أو الشخصية السيكوباتية، حيث يرى الفريق الأول أنه اضطراب شبيه، في حين يرتئي الفريق الثاني بأنه أشد عنفًا.
العلاج:
على الرغم من صعوبة علاج اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، إلا أن العلاج والمراقبة الكثيبة يثمران عن نتائج جيدة لبعض الحالات. تَذكَّر أنه من الحيوي طلب المساعدة والعلاج الطبي والنفسي من المتخصصين المتمرسين في هذا النوع من الاضطرابات. تعتمد خطة المعالجة على نوع الحالة رهن العلاج، وتعاون المصاب، ودرجة الحدة في الأعراض.
حتى اليوم، ما من ثمة إجماع على خطة استشفاء محددة لاضطراب الشخصية المعادية للمجتمع. قد يصف الأطباء العلاجات لبعض المظاهر المرافقة لهذا الاضطراب، كالقلق والاكتئاب أو بعض الأعراض العدوانية. كما يتم وصف الأدوية بتحفظ حينما تكون إساءة الاستخدام أمرًا واردًا.
متى نطلب الطبيب؟
من الشائع أن المصابين باضطراب الشخصية المعادية للمجتمع ينشدون المساندة -فقط- تحت إلحاح الأشخاص المقربين. إن كنت تشك في احتمال أن صديقًا لك أو شخصًا في عائلتك مصاب بهذا الاضطراب، فلك أن تقترح عليه بمنتهى اللطف السعي في طلب المساعدة الطبية ابتداءً من طب العائلة أو الطب النفسي مباشرة.
مجال الفن “فتاة، قوطعت” — Girl, interrupted at her music – NY’s Frick Museum
عالم الدراما في السينما، أبْرَزَ هذا الاضطراب في فيلم شهير «فتاة، قوطعت». اسم الفيلم مأخوذ عن لوحة في متحف فريك نيويورك باسم «فتاة، قوطعت عن موسيقاها».
قصة الفيلم حقيقية دارت أحداثها في الستينات من القرن الماضي. هي قصة امرأة «سوزانا كايسن» حاولت الانتحار بعد معاناة مع مرض الاكتئاب، بعدها تَدخُل للعلاج في إحدى المصحات النفسية، حيث تنشئ بعض الصداقات مع النزيلات هناك، لكنها تواجه تحدياتٍ كبيرة بسبب نزيلة صعبة الأطوار «ليزا»، والمصابة باضطراب الشخصية المعادية للمجتمع. قامت بتمثيل دور الأخيرة الممثلة أنجلينا جولي، وحازت على جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة مساعدة، في عام 1999.
الطفولة مرحلة حاسمة
الأهم أنه ومهما كررنا على أهمية مرحلة الطفولة، لا يمكن لنا أن نسقط في موقع المبالغة هنا، فالسلوك الإجرامي أمر في غاية الخطورة وعوامل الخطر فيها قطعية الدلالة.
من اللافت أنه برغم استمرارية اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع مدى الحياة، إلا أن بعض الأعراض الملازمة له -وبالأخص المؤذية والإجرامية- قد تنخفض وتيرتها مع التقدم في العمر، وليس من الثابت علميًّا فيما لو كان السبب لهذا التحسن هو عامل الشيخوخة، أو زيادة الوعي لدى المصاب بالعواقب الوخيمة لتصرفاته.
إعداد: ريما رباح
تدقيق: محمد الجوهري
المصادر:
سلسلة مقالات اضطرابات الشخصية:
المقال 1: ما هو مرض الشيزوفرينيا؟ الجزء الأول (1-2)
المقال 2: ما هو مرض الشيزوفرينيا؟ الجزء الثاني (2-2)
المقال 3: ما هو اضطراب الشخصية النرجسية؟ (1-3)
المقال 4: ما هو اضطراب الشخصية النرجسية؟ (2-3)
المقال 5: ما هو اضطراب الشخصية النرجسية؟ (3-3)
المقال 6: ما هو اضطراب الشخصية الهستيرية؟
المقال 7: ما هو اضطراب الشخصية الارتيابية؟
المقال 8: ما هو اضطراب الشخصية الفصامية؟