شهد النصف الثاني من القرن الماضي بداية ترجمة مفاهيم العمران والقواعد المتبعة في تخطيط المدن إلى علمٍ يَستندُ إلى التجارب الإنسانية ليوفر متطلبات المستخدمين بشكل أكثر كفاءة.
ومع التحديات البيئية التي طرحت نفسها على الساحة من احتباس حراري وارتفاع معدلات التلوث بصوره المختلفة، طرح علم العمران رؤيته التي تهدف لتطوير المدن الحالية بإعادة تخطيطها قدر الإمكان مع الحرص على تلافي المشكلات الحالية في تشكيل المدن الجديدة، أحد أهم المحاور التي ارتكزت عليها الحلول العمرانية هو حتمية غرس المساحات الخضراء في جميع نواحي المدن.
تُعرقل هذه الرؤى عقبة ليست يسيرة إلى حدٍ كبير، هي كون المدن الحالية ليست جُزُرًا قائمة بذاتها بمعزل عما حولها، فالمدن تستهلك الغذاء الذي تحصل عليه من الريف، والأخشاب من الغابات، والمعادن من باطن الأرض، والأسماك من المحيطات، والوقود الذي يتطلب التنقيب في مساحات شاسعة من الأراضي. كل هذا يعتمد بشكل رئيسي على الكثافة السكانية للمدن وطبيعة أنشطة سكانها، ويجعل من فكرة إدراج المساحات الخضراء في المدن القائمة أمرًا يستدعي ضرورة توسعة هذه المدن أُفقيًا مما يؤثر على المدن المجاورة التي تتشابك بشكل متجانس لا يمكن فصله.
هنا يجب أن نضع في الاعتبار أن مثل هذه التغييرات يجب أن تتبناها حملة قومية من مختلف قطاعات وأجهزة الدولة نحو التوسع الأفقي في الوجهات غير المدرجة في حدود المدن، بإعادة توزيع استعمالات الأراضي للحد من التلوث بالسيطرة عليه من المنبع، وذلك بنقل المنشآت الصناعية إلى مناطق لوجيستية «1» مما يدعم قطاع الصناعة بضخ استثمارات جديدة من شأنها الإسهام في تنفيذ خطة تطوير المدن، وبهذا يمكن إيجاد فراغات داخل المدن القائمة يمكن استغلالها كمساحات خضراء تعمل كمتنفس للمدن.
حاليًا تشغل المساحات الخضراء المدروس توزيعها في التخطيط العمراني حوالي 2% من مساحة مسطح الأرض، ولكن بتنفيذ رؤى التطوير بمختلف دول العالم من المتوقع أن تصل إلى 10% بحلول عام 2030 مما يعني فقدان حوالي 1.2 مليون متر مربع من الأراضي في استعمالاتها الحالية لإدراجها داخل المتنفس الأخضر، ومن البؤر المستهدفة تحديدًا حدود الأنهار، ففي مختلف دول العالم تزحف المدن باتجاه الأنهار مما يفقدها المساحات الخضراء المحيطة بها ويزيد من معدل تعرض الأنهار للتلوث.
ومع الزيادة المتتابعة في تعداد السكان في مختلف دول العالم فإننا بحاجة ماسة إلى التخطيط المسبق للمدن قبل وقوع المشكلة لتفاديها، فما نشهده من عشوائية في البناء وتوسعات المدن هو نتاج تأخرنا في وضع التصورات المناسبة لمجابهة الزيادة الطبيعية للسكان، مما أدى إلى انتشار الأمراض في المجتمع بسبب غياب المساحات الخضراء في حدود التجمعات العشوائية غير المدروسة.
وغياب المساحات الخضراء يسبب حالة من التخبط وتدهور الحالة المزاجية للأفراد مما يسبب تراجعًا ملموسًا في إنتاجية الفرد، بسبب الصراع الذي تتعرض له عين الإنسان من كتل المباني المتزاحمة، فاللون الأخضر يعكس راحةً نفسية داخل الفرد مما يعود بالإيجاب على إنتاجية الفرد في مختلف الأنشطة الإنسانية، كما أن تخطيط الفراغات العمرانية يساهم بشكل كبير في ترابط المجتمع، وذلك بإخضاع الأفراد للاحتكاك المباشر بقاطني المجاورة السكنية عن طريق استخدام الخدمات الترفيهية التي يتم دمجها داخل المساحات الخضراء.
دمج المسطحات الخضراء داخل المدن يمكن بالضرورة أن يكون ضمن جهود ذاتية أو حالات فردية لبضع مبانِ، فبإمكانك أن تجعل من واجهة منزلك أو السطح رقعةً خضراء، وقد يسهم ذلك في توفير الراحة الحرارية داخل المباني من خلال مفهوم نظم التبريد الطبيعي، ورغم أهمية هذا الطرح وسهولة تنفيذه بأبسط الإمكانيات، فإن مفهوم زراعة الأسطح والواجهات لم يلق الرواج الكافي ولم يحظ بعد بالانتشار الذي يتناسب وإمكانياته ومميزاته المتعددة.
الخلاصةُ أن عودة اللون الأخضر إلى مدننا أصبح أمرًا حتميًا وليس رفاهية، فيجب علينا الإسراع بأخذ خطوات ملموسة، وتوجيه فكر الدولة التخطيطي في هذا الاتجاه قبل تفاقم المشكلات البيئية والصحية والنفسية والاجتماعية، وانفجارها بشكل عشوائي قد لا نتمكن من كبح جماحه.
—————
«1» مناطق لوجيستية: هي مناطق ترتبط بشكل مباشر بشبكة الطرق الرئيسية لتسهيل عملية الإمداد الضروري المؤثر بالبضائع والخدمات والمعلومات المتعلقة من نقطة المنشأ إلى نقطة الاستهلاك لتيسير استيفاء متطلبات المستهلك.
المصادر:
إعداد/ترجمة: Diaa Aldein
مراجعة علمية: Mahmoud Mohamed Ouf
مراجعة لغوية: سمراء طارق
#الباحثون_المصريون