ما هو الشعر؟

من أكثر الأسئلة التي لا تستطيع سرد إجابة محددة لها، فتلك طبيعة الأشياء العظيمة. لكن إن أردنا تبسيط الأمر، يمكننا أن نقول أنه فن يترجم ما يشعر به الشاعر، لكن بقواعد، صدقني الأمر أعقد مما تتخيل في تلك العملية. ومثل كل الأشياء العظيمة، فالشعر عالم لا ينتهي من الأنواع والأغراض والأصول، وحتى لا نجعل الأمر معقدًا، فنحن نتحدث هنا عن (الشعر الجاهلي) فقط، ونصيحة، لا تجعل صعوبة الأبيات تشعرك أن الأمر يستحيل فهمه.

 «هلْ غادرَ الشُّعراءُ منْ متردَّم, أم هلْ عرفتَ الدارَ بعدَ توهمِ»

بيت قاله عنترة تستطيع أن تعلم من خلاله أمرين، الأول أن عنترة يحاول إخبارك، على سبيل المبالغة، أن الشعراء لم يتركوا له شيئًا ليكتب فيه، والثاني، وهو الأهم من وجهة نظري، أن الشعر العربي لم يبدأ مع عنترة كما يتوهم البعض، وهذا مقصد الحديث. لكل شيء بداية، حقيقيَّة أزليَّة أبديَّة، ومن الحقائق الثابتة أيضًا أن بداية كل شيء لا تكون بالمثالية التي تصبح عليها لاحقًا، وكذلك كان الشعر العربي؛ ففي بدايته كان مهلهلًا لا يلتزم بمعنى ولا نغمة، ولكن مع الوقت، أصبح الأمر أكثر احترافية، وصار الشعر له مكانته العظيمة عند العرب في ذلك الوقت.

لنتحدث عن البداية

هناك خبران سيئان فيما يتعلق ببداية الشعر العربي، الأول أنه لم يستطع أحد تحديد بدايته، لم نصل لتاريخ معين، والثاني، وهو الأهم هنا أيضًا، أن الكثير من شعر تلك الحقبة لم يصل إلينا، بل نستطيع أن نقول أنه لم يصل إلينا منه سوى القلة القليلة، سوى بعض أشعار الشعراء المجيدين ومن كانت لهم الصدارة، لكن من المهم أن تعلم أن (نجد) و (اليمن) و (العراق) و (الشام) و (الحجاز)، (السعودية) حاليًا، كانوا يزخرون بالكثير من الشعراء، أكثر بكثير مما وصل إلينا، لكن للأسف طوى الزمن عليهم صفحته.

عن عكاظ

لعلك تسأل الآن سؤالًا هامًا، وهو: لماذا احتل الشِّعر تلك المكانة العظيمة في العصر الجاهلي؟ لنحكي من البداية. كان العرب في تلك الحقبة أكثر ما يعتمدوا عليه هو التجارة ورعاية الأغنام، لنركز على التجارة؛ فهي كلمة السر هنا. كانت قبائل العرب تجتمع في الأسواق، وتخيل الأسواق كمهرجان مثلًا أو كحدث مهم، للبيع والشراء، ومفاداة الأسرى، والتحكيم في الخصومات، والأهم، لعرض الشعر، ستعلم ما المقصود بذلك، لكن أولًا لنتحدث عن أشهر وأهم تلك الأسواق، وهو سوق (عكاظ)، فهو السوق التي كانت تحرص جميع القبائل العربية على حضوره، كان مكانه شرق (الطائف) بـ (الحجاز)، بدأ لأول مرة بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة، واستمر حتى بعد ظهور الإسلام حينًا، كان ينعقد في أول شهر (ذي القعدة) وينتهي في اليوم العشرين من نفس الشهر. لنعود إلى (عرض الشعر)، كانت القبائل تقوم في تلك الأسواق، وخاصة سوق (عكاظ) بتقديم أبلغ وأفصح من لديها من الشعراء ليلقوا شعرهم وخطبهم، وكان يحكم الفصحاء لأفضل من في السوق من الخطباء والشعراء في كل عام، كان من أعظم المحكمين (النابغة الذبياني) الذي كان تنصب له قبة في السوق ثم يتم تقديم الشعراء والخطباء له، فيحكم للمجيد منهم. ولتستوعب أهمية أن يحصل الشاعر الممثل لقبيلته على لقب أفضل شاعر، يكفي أن تعلم أن القبيلة التي كان يحكم لشاعرها بالأفضلية كان تقوم بإقامة الأفراح والولائم أيامًا، وكانت تهنئها القبائل الأخرى، فالشاعر هو لسان قبيلته والمدافع عنها والمذيع لفخرها، وهو من يحفزها وقت الحروب ويهدئها وقت السلم، أمر كانت تفتخر بيه القبيلة عامًا كاملًا حتى يقام السوق مرة أخرى، وليتجلي لك الأمر، فإن الشاعر الفائز كان يعامل معاملة العالم ذا الشأن في أيامنا هذه.

عن ماذا كانوا يكتبون؟

صور الشعر الجاهلي حياة العرب كاملة بأدق تصوير، فكان كالمرآة التي انعكست عليها أخلاقهم وعاداتهم وأحوالهم ومعاركهم، أمرٌ متوقعٌ من فن احتل تلك المكانة العظيمة في ذلك الوقت. لكن ما هي أهم الأمور التي كان يتحدث عنها الشعراء؟. من أكثر ما كان يتحدث عنه الشعراء كان (الوصف)، فقد كانوا يصفون كل شيء، بمعنى كل شيء، فقد وصفوا المرأة وكل ما يتعلق بها بأدق التفاصيل، ووصفوا الحب والبُعد والدبار والأطلال واللهو والصبا والذكريات والشراب والكثير الكثير. أيضًا ستلاحظ أن بيئتهم الصحراوية قد فرضت عليهم وصف المظاهر الطبيعية والأمطار والسحب والصحاري والكوكب والنجوم.

أيضًا كثيرًا ما كتبوا في (الغزل)، المرأة، تلك هي كلمة السر في الشعر الجاهلي، فإذا قرأت قصيدة ولم تجد الشاعر قد بدأها بوصف المرأة أو الخمر ستكون تلك هي المعجزة. أكثروا كذلك من (الفخر)؛ فقد كان الشاعر يترجم كل أمجاد ومفاخر وشجاعة رجال قبيلته وكرم أبنائها في شعره، فيحفظه أفراد قبيلته ويروونه عبر أجيالهم ليتفاخروا بأمجادهم، أمرٌ كان كافيًا لتقيم القبيلة التي يولد لها شاعرًا الأفراح والولائم. كذلك أكثر الشعراء من (المدح) و (الرثاء) و (الهجاء) و (الاعتذار) و (الحكم). كان الشعر هو حياة العرب في ذلك الوقت.

أعلام الشعر الجاهلي

عنترة العبسي

أول اسم يخطر ببالك عندما نتحدث عن الشعر الجاهلي، أحد أشهر شعراء العرب في تلك الحقبة، وفي الشعر العربي بوجه عام، أشهر فرسان العرب، كما تعتبر قصة عشقه لـ (عبلة) من أشهر قصص الحب في التاريخ، ومن أشعاره ..

لا يحْمِلُ الحِقْدَ مَنْ تَعْلُو بِهِ الرُّتَبُ
ولا ينالُ العلى من طبعهُ الغضبُ
ومن يكنْ عبد قومٍ لا يخالفهمْ
إذا جفوهُ ويسترضى إذا عتبوا

كما كتب ..

كَمْ يُبْعِدُ الدَّهْرُ مَنْ أَرْجُو أُقارِبُهُ
عنِّي ويبعثُ شيطاناً أحاربهُ
فيالهُ من زمانٍ كلَّما انصرفتْ
صروفهُ فتكتْ فينا عواقبه

النابغة الذبياني

من أعلام الشعر في هذا العصر أيضًا (النابغة الذبياني)، اسمه (زياد بن معاوية الذبياني)، شاعر من (الحجاز)، وهو من كان يحكم بين الشعراء كما ذكرنا، حتى أن كثير من الشعراء الكبار كانوا يعرضون شعرهم عليه كـ (الخنساء)، كما كان من أحسن الشعراء الذين لا يتكلفون في الشعر، ونذكر مما كتب ..

مَن يطلب الدَهرُ تُدرِكهُ مَخالِبُهُ
وَالدَهرُ بِالوِترِ ناجٍ غَيرُ مَطلوبِ
ما مِن أُناسٍ ذَوي مَجدٍ وَمَكرُمةٍ
إِلّا يَشُدُّ عَلَيهِم شِدَّةَ الذيبِ
حَتّى يُبيدَ عَلى عَمدٍ سَراتَهُمُ
بِالنافِذاتِ مِنَ النَبلِ المَصايِيبِ
إِنّي وَجَدتُ سِهامَ المَوتِ مُعرِضَةً
بِكُلِّ حَتفٍ مِنَ الآجالِ مَكتوب

الخنساء

(تُماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد الرياحية السُّلَمية)، أو كما نعرفها بـ (الخنساء). سجلها التاريخ كـ أشهر شاعرات العرب وأشعرهن على الإطلاق. عاشت أكثر عمرها في العصر الجاهلي، لكنها أدركت الإسلام فأسلمت، وكان يحب الرسول (صلى الله عليه وسلم) شعرها. أكثر شعرها وأجوده كان رثائها لأخويها (صخر) و(معاوية) اللذان قُتلا في الجاهلية، وكان مما أنشدت فيهما ..

مَن حَسَّ لي الأَخَوَينِ
كَالغُصنَينِ أَو مَن راهُما
أَخَوَينِ كَالصَقرَينِ لَم
يَرَ ناظِرٌ شَرواهُما
قَرمَينِ لا يَتَظالَمانِ
وَلا يُرامُ حِماهُما
أَبكي عَلى أَخَوَيَّ
وَالقَبرِ الَّذي واراهُما

وهناك الكثير من عظماء الشعر الجاهلي مثل (امرؤ القيس) و (حاتم الطائي) و (الحارث بن حِلِّزَة).

كتابة: أحمد فهمي

المصدر: خليفة محمد محمد. الأدب والنصوص في العصر الجاهلي وصدر الإسلام والأموي. أم القرى للطباعة, 2011.