في ستينيات القرن الماضيّ كانت الفطريات تعتبر نباتات، ففي ذلك الوقت تم تصنيف جميع الكائنات الحيّة إلى مملكتين فقط، وهما مملكة النبات والحيوان. عام 1969م نُشر مقال في مجلة Science أوضح فيه عالم البيئة Robert Whittaker أساس نظام هاتين المملكتين، ولعقود عديدة كان التنقل وطريقة الحصول على الغذاء هما المعياران لنظام التصنيف، لهذا كانت الفطريات مُصنَّفة ضمن مملكة النبات.
تم التغاضي عن الفطريات إلى حدٍ كبير على الرغم من أهميتها، لكن بدون الفطريات لن نتمكن نحن ولا الغابات من البقاء على قيد الحياة لفترةٍ طويلة. هناك حوالي 75000 نوع من الفطريات تم اكتشافه في جميع أنحاء العالم، ولكن يُعتقد أن هذا العدد يمثل 5% فقط، لذلك ما زال هناك الكثير لاكتشافه.
لماذا لا يمكن تصنيف الفطريات كنباتات؟
بخلاف النباتات، لا تحتوي الفطريات على الكلوروفيل الأخضر، وبالتالي فهي لا تقوم بعملية البِنَاء الضوئيّ، أي أنهم لا يستطيعون إنتاج طعامهم باستخدام الطاقة من الضوء، ولكن تحصل الفطريات على غذائها عن طريق امتصاص المواد الغذائيّة، فهي تٌفرِز إنزيمات لهضم المُغذِّيات خارج جسمها ثم تقوم بامتصاصها، وهذا يجعلهم أكثر شبهًا بالحيوانات من حيث عاداتهم الغذائيَّة.(1)
تركيب الفطريات
الخلايا: الفِطْريات حقيقيّة النواة تمامًا مثل النباتات والحيوانات، وهذا يعني أن لديها خلية مُنظمَّة، يتم تغليف الحمض النوويّ الخاص بهم في بنية مركزيَّة تسمى النواة (يمكن أن تحتوي بعض الخلايا على نوى متعددة)، لديهم أيضًا عُضيَّات خلويّة متخصصة تقوم بتنفيذ وظائف مختلفة مثل إنتاج الطاقة ونقل البروتين.
الغلاف: يتم تغليف الخلايا الفطرية بطبقتين وهما غشاء خلويّ داخليّ وجدار خلوي خارجي، هاتان الطبقتان لديهما قواسم مشتركة مع الحيوانات أكثر من النباتات، حيث تتكون أغشية الفِطْريات من بروتينات وجزيئات دهنية.
يمكن أن تتكون الفطريات من خلية واحدة كما في حالة الخمائر، أو خلايا متعددة كما في حالة الفطر. وتتكون جدران خلايا الفِطْريات من مادة صلبة تسمى الكيتين (Chitin)، في حين أن الكيتين يشبه السليلوز (والذي يساعد في تكوين جدران الخلايا للنباتات)، إلا أنه مادة مختلفة، وهي في الواقع نفس المادة التي تتشكَّل منها الهياكل الخارجية للحشرات.
خصائص الفطريات
الهيكل:
يتكون جسم الفطر من الميسيليوم (Mycelium)، بينما يتكون المَيسيليوم من مجموعة من الهيفات (Hyphae) التي تنتظم في خيوط، وقد تكون الهيفات المكوِّنة للميسيليوم وحيدة الخلية (غير مقسمة بجُدُر أو حواجز عرَضيَّة)، أو عديدة الخلايا (مقسمة بجُدُر عرَضيَّة).
الحجم:
تتباين أحجام الفِطْريات، فيمكن أن تكون صغيرة بحيث تنتشر من خلال جسد ذبابة ميتة، أو يمكن أن تكون من بين أكبر وأثقل وأقدم الكائنات الحية على هذا الكوكب.
مساحة السطح:
يُقَال إن «الفطريات ملوك المساحة السطحية»، أيّ أن الخيوط توسِّع مساحة سطحها لتسهل عملية هضم وامتصاص الطعام، وتسهل التكاثر أيضًا. ومن المدهش أنه في حين أن الخيوط الفرديَّة مجهريَّة، إلا أنه يمكن أن تتجمَّع ويتواجد 100 متر منها في جرام واحد من التربة، وهذا يجعلها مرئية للعين المجردة. (1)(2)
تغذية الفطريات
تحصل النباتات على طاقتها مباشرةً من الشمس والغلاف الجوي بواسطة عملية البناء الضوئي، بينما تحصل الفطريات على طاقتها عن طريق هضم المواد العضوية الحيَّة أو الميتة كما تفعل الحيوانات. من الواضح أن الفِطْريات ليس لها أفواه أو مَعِدة، فهي تمتص العناصر الغذائيّة مباشرة من خلال جُدران خلاياها، حيث يمكن بسهولة امتصاص العناصر الغذائية التي تحتوي على جزيئات بسيطة مثل السكريات، بينما يَصعُب التعامل مع الجزيئات الأكبر والأكثر تعقيدًا مثل البروتينات، لذلك يجب على الفطريات الاستفادة من الإنزيمات المختلفة حتى يَسْهُل امتصاصها.
عندما تجد الفِطْريات طعامها تقوم بإفراز الإنزيمات، وتتم عملية الهضم خارج أجسامها، تُعرف هذه الإنزيمات الهضميَّة المتخصصة باسم الإنزيمات الخارجية، ويتم إفرازها من أطراف نمو الخيوط في محيطها. تعتبر هذه الإنزيمات السبب الرئيسيّ الذي يجعل الفطريات قادرة على الازدهار في بيئات متنوعة مثل الأسطح الخشبيَّة أو حتى داخل أجسامنا.
نتيجة لنشاط الإنزيم الخارجي تُقسَّم جزيئات الطعام الكبيرة إلى جزيئات أصغر، ثم يحدث التنفس الخلويّ داخل الخلايا الفطرية، وهذا يعني أن الجزيئات العضوية مثل الكربوهيدرات والأحماض الدهنية يتم تكسيرها لتوليد الطاقة على شكلATP (أي تي بي). (1،2)
أنواع الفطريات
الفطريات المُتكافلة: إذا كان الفطر يستمد طاقته من كائن حيّ دون الإضرار به، فإنه يطلق عليه المتكافل أو المتبادل. مثال ذلك العلاقة المتبادلة بين الفطريات والطحالب.
تحصل الفِطْريات على السكريات التي تنتجها النباتات من خلال عملية البناء الضوئي، وفي المقابل يُمد الفطر النبات بالعناصر الغذائيّة الحيويّة التي يستخلصها وينقلها من التربة إليه. لن تكون هذه العناصر متاحة للنبات بدون وجود الفطر. المدهش أن معظم النباتات في جميع الأنظمة البيئية الأرضية تعتمد على هذه العلاقة لنموها الصحيّ. وهذا يوضح أهمية الفِطْريات، ولماذا نعتقد أنه بدونها ستنهار الأنظمة البيئية للغابات في العالم.
الفطريات المتطفلة: الفطريات التي تتغذى على الكائنات الحيّة مع إلحاق الضرر بها، حيث تُضعِف بعض الفطريات الطفيليّة مضيفيها، بينما تَقتُل البعض الآخر. يسكن العديد من هذه الأنواع من الفِطْريات داخل مُضيفهم لبعض الوقت قبل مهاجمتهم وقتلهم. ويسمى الفطر في هذه الحالة بالطُفيل (parasite)، والكائن الذي يتغذى عليه بالعائل أو المضيف.
الفطريات الرمية: الفطريات التي تتغذى على الكائنات الحيّة الميتة، والتي تساعد في عملية التحلل. وبالتالى بدون الفطريات ستتراكم الغابة طبقة فوق أخرى من الأوراق والكائنات الميتة الأخرى. في الواقع فإن أي شيء يموت في الغابة سيتم استعماره بواسطة الفِطْريات (جنبًا إلى جنب مع المُحلِّلات الأخرى) وسيتحول في النهاية إلى تربة.(2)
تكاثر الفطريات
يمكن أن تتكاثر الفطريات في الطبيعة بعدة طرق عن طريق الاتصال الجنسي أو اللاجنسي.
التكاثر اللاجنسي: يحدث التكاثر اللاجنسي من خلال الانقسام الميتوزي (mitosis) عندما تنقسم الخلية الفطرية وتنتج نسخًا جينية متطابقة من نفسها.
تُعرف هذه العملية في الفطريات أحادية الخلية -مثل الخميرة- بالتبرعم. في هذه الحالة ينبثق فرع صغير أو برعم من الخلية الأم وينمو حجمه ببطء، وتنقسم النواة إلى قسمين، وعندما يصبح البرعم بحجم الخلية الأصلية ينقسم مرة أخرى.
أما الفطريات متعددة الخلايا مثل العفن تتكاثر لاجنسيا أيضًا من خلال تكوين الأبواغ اللاجنسية، حيث نجد أنها في ظل ظروف معينة يمكنها إرسال جسم مثمر دون التفاعل مع فطر آخر، يتميز هذا بأنه يمكن أن يحدث بسرعة، حيث سيطلق الجسم المثمر ملايين الأبواغ المجهرية، ولكن نسبة ضئيلة منها سوف تنبت.
التكاثر الجنسي: تختلف مدة وتوقيت التكاثر الجنسي اختلافًا كبيرًا بين الأنواع الفطرية، كذلك تختلف الهياكل التناسلية من نوع إلى نوع، لدرجة أن هذه الاختلافات المورفولوجية تشكل الأساس لتقسيم المملكة الفطرية إلى مجموعات فرعية أو شُعَب وفقًا لموسوعة التنوع البيولوجي.
من خلال الانقسام الاختزالي (meiosis) تُنتِج الفطريات الأمشاج التي تحتوي على نصف عدد الكروموسومات الأبوية. بمجرد إطلاقها تنبت الأمشاج لتصبح فطرًا شبيهًا بالأشجار وتكون جاهزة للتزاوج، ففي حالة عيش الغراب (Mushroom) ينقسم الميسليوم الأولي إلى قِطاعَات، يحتوي كل قِطَاع على نواة واحدة، ثم يحدث التزاوج عندما يتلامس اثنان من الميسليوم الأوَّلي مع بعضهما البعض، ويشكلان ميسليوم ثانوي. يحتوي كل جزء من الميسليوم الثانوي على نواتين، نواة من كل ميسليوم أوَّلى. بعد عدة خطوات يندمج النوى، مما يؤدي إلى ظهور الخلايا ذات العدد الأصلي من الكروموسومات.(2)
أهمية الفطريات
تعتبر الفطريات هي المسؤولة عن تحطيم المواد العضوية وإطلاق الكربون والأكسجين والنيتروجين والفسفور في التربة والغلاف الجوي. كذلك فهى ضرورية للعديد من العمليات المنزلية والصناعية، مثل صناعة الخبز والنبيذ والبيرة وبعض أنواع الجبن. كما يمكن استخدامها أيضًا كغذاء.
بدأت ملاحظة الأهمية الطبية للفطريات عام 1928م، عندما لاحظ عالم البكتيريا ألكسندر فلمنغ أثناء تجربة له أن فطر Penicillium notatum ينمو في طبق بكتيريا المكورات العنقودية، مما أدى إلى تلويث الطبق، ولكنه لاحظ أن البكتيريا لا تنمو في مكان العفن، ونجح في عزل المادة التي منعت نمو البكتيريا من العفن، ثم نشر في عام 1929م تقريرًا علميًّا أعلن فيه اكتشافه للبنسلين، وهو الأول في سلسلة المضادات الحيويَّة المشتقة من الفِطْريات، والتي أحدثت ثورة في العالم الطبي.(3)
في الطب:
تستخدم الفطريات في صناعة العديد من منتجات الأدوية كالمضادات الحيوية وبعض الفيتامينات والمكملات الغذائية، وتستخدم أيضًا في بعض المنشطات فمثلاً:
- يستخدم فطر Penicillium notatum للحصول على المضاد الحيوي البنسلين.
- تستخدم بعض الخمائر في الأغراض الطبية كمصدر غني بفيتامين ب المركب وفيتامين ب12 وفيتامين أ.
- يتم التحكم في التهاب المفاصل الروماتويدي والحساسية وبعض الأمراض الأخرى بواسطة الستيرويدات التى يمكن الحصول عليها بواسطة العديد من الفطريات، مثل الكورتيزون الذي ينتجه فطر Aspergillus niger من جليكوزيدات النبات عن طريق التخمر.(4)
في الغذاء:
يمكن استخدام بعض الفطريات كغذاء للإنسان مثل فطر الكمأة وفطر عيش الغراب، وذلك لاحتوائهما على الكثير من البروتين كحمض اللايسين -وهو حمض أميني- بالإضافة إلى بعض المعادن والفيتامينات وكمية قليلة من الدهون المفيدة لجسم الإنسان.(4)
في الصناعة:
- تحتوي الفطريات على خمائر تُستخلص منها لتخمير المواد الغذائية المصنعة، مثل منتجات الحليب والألبان والأجبان والخبز والمشروبات الكحولية وغيرها.
- يستخدم فطر بنسيليوم روكفورتي في إنتاج بعض أنواع الجبن لتحسين طعمها ونكهتها كالجبن الروكفور.
- تعمل بعض الفِطْريات على زيادة خصوبة الأراضي من خلال تحليلها للمخلفات النباتية والحيوانية وغيرها من الكائنات الدقيقة الميتة، وإعادة مكوناتها الأساسية إلى الطبيعة مرة ثانية، مثل ثاني أكسيد الكربون والنيتروجين والنترات والأملاح المعدنية.
- تتطفل بعض الفِطْريات على الحشرات الضارة وتتخلص منها.(3)(4)
الأنشطة الضارة للفطريات
قد تسبب الفطريات أمراضًا للنباتات والبشر والحيوانات، كما قد تسبب تلف الطعام وما إلى ذلك.
بالنسبة لأمراض النبات:
قد تهاجم أنواع من الفِطْريات النباتات مسببة لها أمراضا خطيرة، حيث تدخل -معظمها- إلى النبات من خلال فتحة طبيعية (مثل مسام الورقة) أو فتحة في لحاء الساق. من بين الأمراض النباتيّة الأكثر شيوعًا وانتشارًا التي تسببها الفطريات أمراض الصدأ (Rust diseases) التي تصيب أنواعًا مختلفة من النباتات كالقمح والشوفان والفول، كذلك العفن الفطري الناعم مثل العنب والبصل والتبغ، بالإضافة إلى أمراض اللفحة التي تصيب درنات البطاطس، والبياض الدقيقيّ الذي يصيب العنب والكرز والتفاح والخوخ، والبياض الزغبيّ، والذبول، وموت البادرات وغيرها. كما تهاجم بعض الفطريات المنتجات النباتية الطازجة كالفاكهة والخضروات والدرنات مسببة لها التعفن، أو تهاجم الحبوب الجافة فتفسدها. ويؤدي سوء تخزين المحاصيل والفواكه إلى نمو الفِطْريات التي تسبب خسائر اقتصادية عالية.
تزحف حشرات حديثة الفقس على سطح الفطر، وفي ذلك الوقت ينتج الفطر أبواغًا. تلتصق الأبواغ الفطرية بالحشرات الصغيرة وتنبت. عندما تستقر الحشرات الصغيرة في مكان جديد على اللحاء لبدء التغذية تقوم بإنشاء مستعمرات فطرية جديدة. وبالتالي، يتم التضحية بجزء من مستعمرة الحشرات للفطر كغذاء مقابل الحماية الفطرية المقدمة لبقية الحشرات. الحشرة طفيلية على الشجرة، والفطر طفيلي على الحشرة، ولكن الشجرة هي الضحية الأخيرة.(3)
تلف الملابس:
يمكن أن تنمو الفطريات على الملابس والأحذية المبللة مما يتسبب في تلفها، وبالأخص الملابس المصنوعة من الألياف الطبيعية مثل القطن والكتان والحرير الطبيعي والصوف. تنتج فطريات الملابس إنزيمات تعمل على تكسير السليلوز أو البروتين إلى مركبات يستخدمها العفن كغذاء.
تلف الأطعمة والمنتجات العضوية:
تهاجم الفِطْريات منتجات الصناعات الغذائيّة كالمعجنات والأجبان والمربيات وغيرها. كما تهاجم منتجات الصناعات العضويّة كالورق والخشب والجلود فتحولها إلى مواد عديمة الفائدة.
بالنسبة للإنسان والحيوان:
تتطفل بعض الفطريات على الإنسان والحيوان، مما يسبب التهابات في الجلد أو الشعر أو الأظافر مثل الفِطْريات الجلدية التي لديها القدرة على استخدام الكيراتين كمصدر مغذٍ، كفطر Trichophyton rubrum. كما أن هناك فطر Saprolegnia parasitica الذي يتطفل على الحيوانات، وكذلك هناك فطريات تعيش في الماء، وتتطفل على بيض وخياشيم الأسماك مثل فطر Achlya sp الذي يسبب ضررًا شديدًا للأسماك.
إنتاج السموم الفطرية
تمتلك بعض الفِطْريات القدرة على إنتاج مستقلب (ناتج أيضي) ثانوي سام والذي يسمى بالسموم الفطرية، لهذه السموم دور في الإصابة ببعض الأمراض في كل من البشر والحيوانات، وتتراوح الآثار الضارة للسموم الفطرية من الآثار الحادة إلى الآثار طويلة المدى مثل نقص المناعة وتليف الكبد والكلى والسرطان.(4)