مدخل إلى فلسفة الأخلاق

مدخل إلى فلسفة الأخلاق

أهناك حقًّا شيءٌ يمكن أن نطلق عليه «أخلاق»؟ أهناك قيمةٌ للتعاليم الأسرية أو لأفعال التضحية الإنسانية سواء كان الأمر تضحيةَ أبٍ بنفسه لإنقاذ ابنه أو تضحيةَ جُنديٍّ بنفسه لأجل وطنه؟
هل على كل إنسان أن يهتم بذاته أولًا وهذا هو الأنسب للعالم؟
هل هناك ما يُلزم الفرد أن يُراعِي غيرَه؟
لمَ لا نقتل ولمَ لا نسرق ولمَ لا نغتصب إن ضمنَّا ألَّا يُعاقبنا القانون؟
لمَ تختلف الأخلاق من مجتمعٍ لآخر؟ وما هي المعايير التي يمكن من خلالها تفضيل فعل أخلاقي عن غيره؟
أهناك من الأساس معايير حقيقية يمكن الاحتكام إليها؟ أم أن الموضوع نسبيٌّ تمامًا ولا سبيل لحسمه؟

كل ما سبق وغيره أسئلةٌ فلسفية يهتم بها علم فلسفة الأخلاق بهدف محاولة الإجابة عن أسئلة حيَّرت البشرية على مدار تاريخها، وتتصارع بسببها الأجيال، سواء داخل الأسرة الواحدة، أو المجتمع كمفرد، أو المجتمعات ككل.

ولهذا العلم رحلة تطور طويلة مليئة بالقصص والأفكار، فأصبح له مباحثه الخاصة والمهمة، وهي التي تُدرَّس في مختلف الصروح الأكاديمية اليوم، والتي يحاول فيها الطلاب سبر أغوار أسئلته، وهي ما سنهتم بالتطرق إليه ومحاولة تقديمه وشرحه؛ فيكون المقال بمثابة مُقدمةٍ بسيطةٍ إلى فلسفة الأخلاق ومباحثها، على آمل أن تساعد من يريد البدء في تلك المنطقة ويهتم بها وأسئلتها.

مباحث فلسفة الأخلاق

لفلسفة الأخلاق مباحثها -كما ذكرنا سابقًا- التي لها تقسيماتها الأكاديمية بالتأكيد، والتي سنتطرق إليها بعد قليل، ولكن بدءًا فلنتكلم عن الأخلاق ذاتها وما نقصده بذلك.

يمكن التكلم عن الأخلاق باعتبارها المبادئ التي تحكم سلوك الإنسان -كما يُعرِّف قاموس أكسفورد لفظ (1) Ethics– وفي هذا الإطار يمكن القول أن الأخلاق ببساطة (قواعد)، وقد تحكم هذه القواعد الفرد أو المجموع، فيمكن أن تعتبر القوانين في ذاتها ابنة الأخلاق التي يحكم بها الإنسان ذاته وهو يحاكم غيره إليها اعتمادًا على وجود اتفاقٍ ما بينه وبين من حوله على فهمٍ بعينه لكثير من الأمور، وهذا ليس بشيء غريب بين البشر، فرغم أن السائد أن نتكلم عن اختلافاتنا (فهي مصدر الصراعات)، فنتيجةً لكوننا نوع واحد ولدينا من التقارب والتشابه أكثر من الاختلاف الكثير والكثير، فإن فلسفة الأخلاق تهتم بتلك القواعد وبنقاشها من مختلف جوانبها، ولهذا وجدت مباحثها الخاصة، وهم ثلاثة مباحث أساسية(2): (علم ما بعد الأخلاق – علم الأخلاق المعياري – علم الأخلاق التطبيقي)، يهتم كل جانب منهم بنقاش جانبٍ مختلفٍ من علم الأخلاق، الذي يُصنَّف في ذاته كأحد تفرعات علم القيم(3) Axiology.

ما سنهتم به عمومًا في هذا المقال الصغير هو الإشارة إلى تلك المباحث وإعطاء نبذه صغيرة عن كلٍّ منها، بالإضافة إلى مبحثٍ أخير كثيرًا ما يُدرس في إطار علوم أخرى خارج الفلسفة، ولكنه يتداخل مع مباحث الفلسفة الأخلاقية في كثيرٍ من الأحيان كما تتداخل هي مع بعضها وهو علم الأخلاق التفسيري.

علم ما وراء الأخلاق (Meta Ethics)

يهتم هذا المبحث بطرح أسئلة حول ماهية الأخلاق ذاتها، فهل هي نسبية مثلًا مثلما تكون حاسة تذوقنا للطعام؟
أم هي موضوعية يمكن إثباتها وحسمها بالعقل والمنطق مثلما نثبت الحقائق الإمبريقية؟

فبالتأكيد حبي للفاكهة لا يعني أن حب الفاكهة هو الشيء الصحيح الذي حتى إن اتفق شخصٌ معي عليه ففي الغالب سيختلف بخصوص السبب وراء هذا الاتفاق.

كذلك بالتأكيد فإن الحقائق الرياضية والقواعد الفيزيائية أمور يمكن حسمها ولا تخضع للأذواق، فسهلٌ أن نختبر تمدد الحديد بالحرارة من خلال تسخينه، ويمكننا نقاش المعادلات الرياضية واختبارها على الورق، لكن السؤال هنا: إلى أيِّ وضعٍ الأخلاق أقرب؟ وضع تذوق الفاكهة أم التساؤل الرياضي؟

في علم ما وراء الأخلاق نجد ذلك الجدل والنقاش حوله، فنجد من يجادل بأن هناك وجود للأخلاق كحقيقة في ذاتها يمكن اختبارها وإثباتها، وأن الجدال الحقيقي هو في إطار إيجاد تلك الحقيقة وتحديدها بدقة، وهذا ما يُطلق عليه ببساطة المذهب الواقعي للأخلاق (Moral Realism).

في المذهب الواقعي للأخلاق يجادل البعض تجاه طبيعة تلك الحقيقة/الحقائق الأخلاقية، فنجد من يعتبرها مُطْلَقة (Moral Absolutism)، أو تختلف حسب الموضوع (Moral Relativism)، أو تختلف حسب الثقافة (Cultural Relativism)، ولكنها موجودة كحقيقة يمكن التعامل معها ودراستها والوصول إليها بالعقل.

في المقابل نجد الأمر مختلف مع المذهب اللاواقعي للأخلاق (Moral Antirealism)، الذي يتكلم في إطار عدم وجود حقائق أخلاقية على الإطلاق، ويحتج البعض هاهنا بأن الأخلاق الموضوعية عمومًا تحتاج إلى مبرر أولي ولا يحتاج إلى مبرر في ذاته، فمثلًا إن قلنا إن: «من غير الأخلاقي أن نبيح القتل» من باب أن «لا أحد يريد أن يقتل» فلمَ علينا أن نعتبر عدم رغبة أحد في أن يقتل دافع من خلاله نرفض القتل أو نبيحه؟ وماذا إن وجدنا من يريد أن يقتل؟ وهذا ما يُطلِق عليه الفيلسوف ديفيد هيوم: “The Is-Ought Problem”، وفيها يتم إيضاح إشكالية استنباط حكم أخلاقي من حكم واقعي.

وفي مذاهب الأخلاق النسبية كذلك نجد من يتكلم على أن الأحكام الأخلاقية حقائق تشير فقط إلى تفضيلات أصحابها وهذا ما يقصد بكونها حقيقةً أم لا، فعلى سبيل المثال: القتل ليس شيئًا غيرَ أخلاقيٍّ في ذاته حسب تلك النظرية، ولكن عدم تفضيل بعض البشر له هو حقيقة، وهذا ما يُطلق عليه (Moral Subjectivism).

وما سبق وإطاره هو أحد مباحث واهتمام فلسفة/علم ما وراء الأخلاق، وهناك عمومًا تقسيمات أخرى يمكن نقاشها في إطار تلك الفلسفة، منها التقسيم للمذهب الطبيعاني (Ethical Naturalism)، وغير الطبيعاني (Ethical Non-Naturalism) مثلًا، ولكن يظل ما طُرِحَ هو الأساس، فيمكن مثلًا توصيف المذهب الطبيعاني أسفل الفلسفة الواقعية للأخلاق، وفي إطار ذلك يمكن فهم أيَّ جزءٍ من فلسفة كل فيلسوف تجاه الأخلاق سواء كانت واقعية أو غير واقعية، ومن أمثلة ذلك فلسفة إيمانويل كانط (Immanuel Kant) التي تُحسب على المذهب الواقعي، بينما في المقابل تُحسب نظرة الفيلسوف الشهير فريدريك نيتشه (Friedrich Nietzsche) على الفلسفة اللاواقعية للأخلاقية(5).

ويعتبر كل ما سبق في إطار البحث بخصوص نسبية الأخلاق وموضوعيتها فقط وهذا يعطينا إشارة لحجم هذا المبحث وخطورته، والحقيقة إن هذا ليس هو إطار مبحث ما وراء الأخلاق الوحيد، فالمبحث عمومًا يمكن القول إن به ثلاثة أنواع من الأسئلة الخطيرة، منهم سؤال النسبية والموضوعية، وتلك الأسئلة حسب ريتشارد جارنر (Richard Garner) وبرنارد روسين (Bernard Rosen) هم: (6)
1-ما المقصود بالحكم الأخلاقي؟
2-ما طبيعة الحكم الأخلاقي؟(ما سبق الإشارة إليه)
3-كيف يمكن الدفاع عن أو دعم الأحكام الأخلاقية؟

علم الأخلاق المعياري (Normative Ethics)

يهتم هذا المبحث هذه المرة بمعايير التصرف الأخلاقي ذاته وهو يختلف عن مبحث ما وراء الأخلاق باعتباره لا يتكلم هنا عن طبيعة الأخلاق ولكنه يتكلم عن (معاييرها)، فتلك المعايير هي التي تعطينا القدرة على الحكم على فعل كذا باعتباره فعلًا أخلاقيًّا أو باعتباره فعلًا (غيرَ أخلاقي)، فيُحدَّد من ذلك صحة فعلنا له من عدمه،

كذلك يكون في هذا المبحث اقترابٌ أكثر لتفاصيل أفكار بعض الفلاسفة تجاه الأخلاق أكثر وأكثر، ويتاح مناقشتها بشكلٍ أكبر ومن المفهوم تداخل المباحث في نقاش مثل ذلك.

يلاحظ أول شيء أن في هذا المبحث الأمور أصبحت أقرب من الواقع وأقل نظرية، فأصبحنا نتكلم عن معايير أخلاقية بعينها، ولشرح ذلك أكثر سنتطرق إلى أحد الفلاسفة وتقديم توضيح بسيط لأفكاره التي تخص هذا المبحث، وهذا الفيلسوف هو أرسطو.

مذهب أرسطو الأخلاقي يُطلق عليه كذلك أخلاق الفضيلة(7) وقد بدأت تلك المفاهيم من عند سقراط معلم أفلاطون، وورث أفلاطون تطويرها منه كما ورث أرسطو تطويرها من أفلاطون، ورغم أن أرسطو ليس هو المؤسس هاهنا، لكنه يعتبر من أسس تلك الفلسفة كممارسة فلسفية منفردة وفي تلك الفلسفة يرى تسلسل للخير وفيه نفعل الخير (أ) بهدف الخير الأكبر (ب)، وكل ذلك من أجل الوصول للقيمة الكبرى التي تجلب الازدهار الإنساني والسعادة الحقيقية اليودايمونيا (Eudaimonia)، وأن كل خير يُفعل لذاته ولأجل الوصول لليودايمونيا (وهو ما اختلف معه فيه الفارابي بعد ذلك بقرون).

في فضيلة أرسطو يكون كذلك معيار الخير/الأخلاق مُحدَّدًا من قِبَلِ شكلٍ من أشكال االفكر الوسطي بين الأمور، فيكون الفعل الشجاع أخلاقيًّا ومعياره وسطًا بين الجبن -فعل غير أخلاقي- والاندفاع -فعل غير أخلاقي-، ووضع أرسطو 12 قيمة أخلاقية من خلالها يمكن معايرة الأخلاق.

مما سبق يتضح مثالٌ للجانب الذي يخص المبحث المعياري، بل والجانب الذي يخص ما وراء الأخلاق -من اعتبار أن الأخلاق لها وجود وحقيقة هي إليودايمونيا- وكيف يمكن أن نستفيد من ذلك الجانب ونناقشه أو ننقده، وبالتأكيد ما سبق هو مجرد شرح مخل لتوضيح الفكرة، وليس شرح لفلسفة أرسطو تجاه الأخلاق الذي يحتاج لمقالٍ يخصه وحده لفعل ذلك.

ليس أرسطو بالتأكيد هو الوحيد الذي ناقش معايير أخلاقية يمكن الحكم من خلالها أو معايرة التصرف الأخلاقي، فمثلًا نجد القديس توما الأكويني الذي سعى إلى تطوير فلسفة أرسطو الأخلاقية، ولكن أعطاها صِبغةً دينية، فوضع قيمه الخاصة، وحدد أن بعضها من منظوره لا يمكن الوصول إليها سوى بالإخبار الإلهي (أي الدين)، وهناك الكثير من الفلسفات الأخرى، مثل: (فلسفة اللذة الأبيقورية – الأخلاق الآنوية – فلسفة الواجب الكانطية – فلسفة أخلاق المنفعة)، وتلك الأخيرة من أشهر منظريها الفيلسوف جون ستيوارت ميل، وهذا فقط مثال لمن يهتم بالبحث أكثر في هذه النقطة وليس للحصر بالتأكيد.

علم الأخلاق التطبيقي (Applied Ethics)

المبحث الأخير هاهنا يهتم بالأخلاق على أرض الواقع، أي بتطبيقاتها وبمعالجة المشكلات الأخلاقية(8) عمومًا وبطرق فعل ذلك، وهو أقل مبحث نظرية فيهم، وهو ما يتضح من اسمه، فبينما المباحث الأخرى تهتم بنقاش الطبيعة والمعايير، فعلم الأخلاق التطبيقي يهتم بتطبيقات الأخلاق على أرض الواقع؛ أي في الحياة العامة والخاصة وفي مختلف المجالات من الصحة والتكنولوجيا والقانون إلخ، ومن أمثلة فعل ذلك: نقاش أخلاقيات البحث، أو الجدل الأخلاقي الناجم عن التطور في علوم الطب والأحياء بخصوص الممارسات الطبية المختلفة وهو ما يطلق عليه (Bioethics)، وتعتبر هذه إحدى أسباب دراسة طلاب الكليات العلمية للفلسفة، فتُطرح أسئلةٌ مختلفة بخصوص أخلاقيات الممارسات العلمية، ولا تكون الدراسة فقط بخصوص فلسفة العلوم وهي الفلسفة التي تهتم بأسئلة مثل: ما هو مقدار القوة التفسيرية لتبرير الاكتشافات العلمية، ولعل هذا المبحث دليلٌ على أهمية الفلسفة عمومًا وفلسفة الأخلاق خصوصًا، ويمكن اعتباره المرحلة الأخيرة و(التطبيقية) لكثيرٍ من الجدالات السابقة، ولكن له جدالاته الخاصة مثلما سبق الذكر، ورغم ذلك، يجد الكثير من طلاب الكليات العلمية صعوبةً في إدراك أهمية دراسة الفلسفة في إطار دراستهم الأكاديمية.

إلى هنا أكون قد انتهيت من تقديم نبذةٍ عن مباحث فلسفة الأخلاق الثلاثة، ولكن يظل واجبًا أن أفي بوعدي وأشير إلى مبحثٍ يتداخل كثيرًا مع ما سبق ذكره، ومهم لكل من يهتم بهذه المنطقة من الفكر ويهتم بأن يستكمل البحث فيها.

علم الأخلاق التفسيري (Descriptive Ethics)

يطلق عليه كذلك علم الأخلاق المقارن، وهو مبحث يهتم  بدراسة الظاهرة الأخلاقية الموجودة في الواقع كما هي أي إنه يهتم بدراسة ما هو كائن لا ما يجب أن يكون، مثلما هو الأمر في علم الأخلاق المعياري مثلًا، فنجده يهتم بدراسة معتقدات الأفراد تجاه الأخلاق (معتقدهم تجاه ما هو صحيح وما هو خاطئ)(8) والنظريات التي تناقش ذلك، وهو مبحث يمكن رؤية ملامحه في مختلف العلوم مثل علم النفس التطوري وعلوم الأعصاب ودراسة التوصيلات العصبية في المخ وكيفية عملها ودراسات علم الاجتماع إلخ.

 

المراجع:
1. ethic noun - Definition, pictures, pronunciation and usage notes | Oxford Advanced American Dictionary at OxfordLearnersDictionaries.com [Internet]. [cited 2019 Dec 21]. Available from: https://www.oxfordlearnersdictionaries.com/definition/american_english/ethic
2. Ethics | Internet Encyclopedia of Philosophy [Internet]. [cited 2019 Dec 21]. Available from: https://www.iep.utm.edu/ethics/
3. Branches of Philosophy [Internet]. [cited 2019 Dec 22]. Available from: https://philosophy.lander.edu/intro/what.shtml
4. Leiter B. Nietzsche’s Moral and Political Philosophy. In: Zalta EN, editor. The Stanford Encyclopedia of Philosophy [Internet]. Winter 2015. Metaphysics Research Lab, Stanford University; 2015 [cited 2019 Dec 22]. Available from: https://plato.stanford.edu/archives/win2015/entries/nietzsche-moral-political/
5. Garner, Richard T.; Bernard Rosen (1967). Moral Philosophy: A Systematic Introduction to Normative Ethics and Meta-ethics. New York: Macmillan. p. 215. LOC card number 67-18887.
6.  Bowin - Aristotle's Virtue Ethics University of Santa Cruz (California) Accessed November 24th, 2017
7. Applied Ethics - Philosophy - Oxford Bibliographies - obo [Internet]. [cited 2019 Dec 22]. Available from: https://www.oxfordbibliographies.com/view/document/obo-9780195396577/obo-9780195396577-0006.xml
8. Morals and Ethics [Internet]. [cited 2019 Dec 22]. Available from: https://philosophy.lander.edu/ethics/types.html.

 

شارك المقال:
0 0 votes
Article Rating
6 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي