مدخل إلى فلسفة الثورات

69163273_368645737375617_2779466928597499904_n
||

«ما قبل العصر الحديث»

تمهيد:

في البدء كانت الثورة، ثم حدث الانفجار العظيم.

تشير النظرية السائدة حول نشأة الكون إلى أن الكون كان في حالة ضغط حارة شديدة الكثافة فتمدد، ورغم تكوّن نويات ذرية بسيطة في الدقائق الثلاث الأولى؛ إلا أن الأمر استغرق آلاف السنين قبل تكوّن ذرات متعادلة كهربيًا، مما يشير إلى تعريف الثورة، فالثورة هي الخروج عن الوضع الراهن وتغييره، باندفاع يحركه عدم الرضا أو التطلع إلى الأفضل، أو حتى الغضب الموجّه الغير معلوم مصيره.
يتضح لنا التعريف التقليدي للثورة بأنه قيام الشعب بقيادة «نُخَبِه»؛ لتغيير نظام الحكم بالقوة، وبقوة هذا التعريف قامت العديد من الثورات البشرية في كل العصور وأُريق دم الكثير من المحافظين والمتمردين.

أما التعريف المعاصر العلمي للمفهوم الكلي للثورة فهو تغيير النظام الهيكلي للدولة لتحقيق طموحات مختلفة كالعدالة والمساواة والحرية وتحقيق سُبل المواطنة الطبيعية.
وتختلف الثورة ضد نظام الحكم المحلي، عن الانقلاب العسكري، عن الثورة ضد محتل من حيث: «الآليات المتبعة من الجماهير، والأيديولوجيات، وطريقة التطبيق، والغاية النهائية من الإطاحة بالنظام الحاكم.» [1]

مقدمة:
لعلَّ أول دراسة قامت لتحليل وتفنيد «فلسفة الثورة» هي وصف الفيلسوف الإغريقي أرسطو، بأن هناك شكلين من الثورات في سياقات سياسية: إما التغيير الكامل من نظام لآخر، أو التعديل على نظام موجود.[2]
والثورة مصطلح ذو معانٍ عدة مرتبطة ببعضها البعض، فالثورة تُطلق عادة على الوقائع التاريخية التي يتم فيها القضاء على نظام سياسي كامل أو تُطلق على إحداث تغييرات جذرية في النظام الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي سواء مصحوبة بقوة أو واضحة في إطار ثورة، والثورة بطبعها راديكالية فتتخلص فيها النخبة الجديدة من القديمة تمامًا ولا يُشتَرَط أن تكون دموية كما حدث في ثمانينات القرن الماضي في دول أوربا الشرقية التي مرت بتغيير جذري للأنظمة دون إراقة دماء وسميت آنذاك بالثورة البيضاء باستثناء رومانيا.


وهنا يتضح لنا أن للثورات نماذج عدة سلمية (الثورة المخملية) أو غير سلمية، ولكل منهما منطقها ومناصريها

فمنطق فلسفة الثورات السلمية يعتمد على ثلاثة مباديء(تم توضيحها في تسعينيات القرن الماضي) وذلك عن طريق تنظيم اعتصامات سلمية لإحداث صَدع أو شلل في هيكل النظام الشمولي:
الأول: أن السلطة المستبدة ليست جسد واحد أصم بل هي بناء ديناميكي مركب ولا تتحكم في الناس إلا بما يتيح لها الناس التحكم به، وبذلك فإن الثورات لا تحتاج المواجهة المباشرة للنظام القمعي بل يكفيها أن تحرمه من تَحَكُمه في المجتمع، وبذلك يصبح سقوطه حتميًا.
الثاني: أن العنف الدموي المباشر ضد السلطة ليس خيارًا مطروحًا فالمقاومة السلمية أجدى وأبقى وأكثر قيمة فالثورات السلمية تُبنَى على البطولة الهادئة، التي ترفض الرد على العنف بعنف؛ مما يمنح الاستبداد أخلاقية شرعية تسبغ على تمسكه بذاته طابع شرعي.
الثالث: التمسك السلمي يدعم مفاهيم المجتمع المدني ويرسم السياسة الداخلية والخارجية للشعب دون حصرها في إطار حكومي، مما يزيد من فرص نجاح الحركة الثورية ببناء ديناميكي موازي لهيكل الدولة.
فيتبين لنا أن الثورة هي مزيج من العفوية والتنظيم، فالعفوية عصمة الاستئصال، والتنظيم حسن التسديد فتصبح القيادة انسيابية تتيح للنظام أن يكون في خانة التجويع السياسي، أي؛ حرمانه من التحكم في المجتمع.[3]


والثورة في اللسان العربي جاءت من فعل التثوير، فتثوير الأرض يعني حراثتها وقلب عاليها سافلها، بهدف وضع بذرة الحياة في باطنها. أما الفلسفة فهي الأسلوب المستخدم للسؤال والإجابة عنه، وتندرج تحت الفلسفة كل الموضوعات الممكنة؛ فعندما نسأل عن المعرفة والدلائل التحقيقية وتبرير الاعتقادات فنحن نمارس فلسفة المعرفة، وعندما نسأل عن طبيعة الخير والشر، والتمييز بين الصواب والخطأ فنحن نمارس فلسفة الأخلاق، وعندما نسأل عن تحليل طبيعة المعرفة الدينية وتحليل المواقف الدينية فنحن نمارس فلسفة الدين، وعندما نسأل عن فهم وتفسير ظاهرة العلم فهمًا يعمقها، كالتنظيم الأمثل لمناهجه، ومعرفة خصائصه ومقوماته، ومحاولة حل مشكلاته التي تخرج عن دوائر اختصاص العلماء، فنحن نمارس فلسفة العلم. وعندما نسأل عن السياسات المتبعة والأنظمة والقوانين والأيديولوجيات والثورات فنحن نمارس الفلسفة السياسية، ومنها نستطيع دراسة مبحث فلسفة الثورة، بسياقها الفلسفي التاريخي.

ما هي فلسفة الثورة؟

إذا اعتبرنا أن الفلسفة هي التفكير في التفكير، فالتفكير هو الثورة ضد عالم غير مفكر. وهذه هي النواة الراديكالية للفلسفة. تسعى الفلسفة لإيجاد طريقة لجعل العالم مكانًا أفضل وهذا بالضبط ما يستدعي قيام ثورة، وجوهر الثورات -على اختلاف أنماطها- هو تغيير العالم من مكان سلبي إلى مكان إيجابي.
وبهذا تكون فلسفة الثورة هي دراسة اجتماعية وبيئية لمنطق تحرك الجماهير وفاعليتهم ضد النظام الحاكم.[4]

ولكي نتبين تدرج التعريف الهيكلي للجماهير وحراكهم من خلال نمطهم الأيدولوجي والأيكولوجي؛ فندرسهم من خلال حدثهم وترتيبهم التاريخي.[5]

ولعل أول نمط مُدوَّن لحركة فلسفة الثورة في العصر الفرعوني:


كانت ثورة على الملك بيبي الثاني(نفر كا رع) وثورة العمال في مصر القديمة.
تلك الثورة التي حدثت في عهد الملك بيبي الثاني، الأسرة السادسة، بعد أن بلغ من العمر 94 أو 96عامًا، وازداد ضعفه تاركًا السلطة لحفنة من أفراد الجهاز الإداري الطامحين للسلطة، وسلَّطَت مصادر أدبية الضوء على هذه الثورة مثل بردية «إيبوور»، وبردية «هاريس»، ونبوءة «نفرتي»، وبردية «اليأس من الحياة». وتعتبر بردية «إيبوور»، المحفوظة في متحف ليدن الهولندي، المكتوبة بالخط الهيراطيقي، خير دليل على ما أصاب البلاد من فوضى وفساد أدى إلى سقوط الأسرة السادسة، وبرغم أن الثورة نجحت في إسقاط «الإله-الملك»؛ إلا أن الدولة ظلت في فوضى لأكثر من مائة وثمانين سنة، بانهيار طبقات المجتمع بما في ذلك طبقة العمال الذين فقدوا سبل الرزق، وتفشت البطالة، حسبما يصف «إيبوور» في نصه الأدبي الذي اطلعت عليه قناة «BBC»، في ترجمته الفرنسية للنص المصري القديم للعالمة «كلير لالويت»، أستاذة الأدب المصري القديم بجامعة «باريس-سوربون»، في دراستها ضمن نماذج الفكر العالمي لمنظمة اليونسكو بعنوان «نصوص مقدسة ونصوص دنيوية من مصر القديمة»:
«لم يعد الناس يحرثون الحقول، وهجم الناس على مخازن الحكومة وسرقوها، واعتدوا على مقابر الملوك. صب الشعب غضبه على الأغنياء فنهبوا القصور وأحرقوها (…) اختفت البسمة، لا أحد يبتسم، واختلطت الشكوى التي تعم البلاد بالنحيب، حقا أصبح العظيم والفقير يقول: يا ليتني مت قبل هذا، والأطفال الصغار يقولون كان يجب ألا أكون على قيد الحياة».[6]
كما تعطلت الزراعة كما يشير النص: «فاض النيل ولا يوجد أحد يحرث من أجل نفسه، وأصبح الناس جميعا يقولون لا نعرف ما الذي سيحدث في هذه الدنيا، وشحت الحبوب»، وتأثرت الصناعة: «أصبح الصُنَّاع لا يعملون، ودمر أعداء البلاد فنونها».
كما تأتي الثورة العمالية في عهد الملك رمسيس الثالث – الأسرة العشرون كأول إضراب عمالي ذكرته النصوص الأدبية مثل بردية «هاريس»، وبردية «تورينو»، فنجد أنشودة الفرعون الجائع لأيبوور الحكيم المصري بمطلعها:
نامي جياع الشعب نامي، حرستك آلهة الطعام، نامي فإن لم تشبعي من يقظة، فمن المنام نامي، على زيف الوعود يذاق في عسل الكلام، نامي تزرك عرائس الأحلام في جنح الظلام، تتنوري قرص الرغيف، كدورة البدر التمام، وترى زرائيل الفساح مبلطات بالرخام، نامي جياع الشعب نامي.
ولعل أسبابها هو انهاك خزينة الدولة بسبب حروب خاضها الملك رمسيس الثالث لحماية مصر من هجمات شعوب البحر، إلى جانب سيطرة الكهنة على ثروات البلاد، الأمر الذي أدى إلى عجز الحكومة عن الوفاء بالتزاماتها تجاه عمال تأخر استلام مخصصاتهم العينية أكثر من مرة.[7]


ونَظَّم العمال إضرابهم في العام 29 من حكم الملك رمسيس الثالث، واستمرّ الإضراب ثلاثة أيام، وتجمع العمال خلف معبد الملك تحتمس الثالث، ودارت مناقشات بين العمال ورجال الدولة. ولعلَّ أشهر ما ذكره أبيوور على لسان العمال مقولة؛ لا سلطان لمن في السماء على الأرض، فالأرض لمن يحرثها.
ويحتفظ متحف تورينو الإيطالي ببردية أشبه بيوميات ترّوِي إضراب العمال وتشير في مضمونها إلى أنه مر بمراحل، حتى وصل إلى مرحلة التحذير، كما تشير ترجمة النص الفرنسية للعالم فرانسوا دوما، في دراسته «حضارة مصر الفرعونية»، نقلًا عن النص المصري القديم:


«لقد أوصلنا الجوع والعطش إلى ما وصلنا إليه، لا توجد ملابس، ولا يوجد زيت لدينا، ولا يوجد سمك عندنا ولا خضراوات. أبلغوا الفرعون، له الحياة والصحة والقوة، سيدنا الكامل. هيا أبلغوا أيضا الوزير رئيسنا، ليمنحنا سبل الحياة.»
وبعد أن نفذ صبرهم اتّجهوا إلى مهاجمة مخازن الغلال عند معبد الرامسيوم لنهبها وهو يرددون عبارة؛ «نحن جائعون»، ليمتد الإضراب بعدها إلى ثورة ضد فساد الإدارة المركزية، وهو ما اتضح جليًا من عزوف العمال لفترات طويلة عن أداء أعمالهم في منشآت مقابر الملوك.
ويُذكر أن السلطة تعاونت مع بعض المتعصبين والمحرضين الشعبيين وقادة الأقاليم لقتل المتمردين، ولم تُعرَف المقابر الجماعية إلا في تلك الحقبة، ومهنة الحانوتية لم تظهر إلا في ذلك الوقت[8]، وتشير المصادر التاريخية إلى انهيار نظام الحكم المركزي، الذي أدى إلى زيادة الاحتقان حتى عزف الناس عن الممارسة الطبيعية للحياة، مما أدى إلى انتشار العقيدة الأوزيرية الثورية التي تفقد الملك صورته الإلهية ليكون بشريًا، والتي تجرد الكهنة من كهنوتهم ليكونوا عاديين، فسقطت أيديولوجيات المجتمع آنذاك وتحولت بشكل ما للمساواة النظرية، وذلك بعد عدة أُسَر وعصور.

وبذلك قُبِلَت فكرة المساواة نظريًا وأعتنق المصريون عقيدة تحالف العقيدة وأصبحت الأوزيرية هي التعبير عن الثورة والتمرد.[9]

-على الهامش:

وللأمانة العلمية وجدنا أنه في بردية «تورين»، يُشار أن هذه الأحداث (أحداث انهيار المركزية الحكومية والاضطراب وقطع الطرق)، كانت في عهد الملكة نيت كريس -وهي ابنه الملك بيبي الأول- ويذكر هيرودوت أن رجال الدولة قتلوا شقيقها ليجلسوها على كرسي الحكم، وقد قبلت على أمل الانتقام منهم فبنت قصر ضخم ذا سراديب تؤدي لنهر النيل ثم دعت رجال بلاطها إلى مأدبة ثم أغلقت الأبواب وفتحت مياه النيل على حجراته حتى أغرقتهم جميعًا ويذكر هذا الحادث ايضًا المؤرخ المصري «ماينتون» كما وصفها بأنها أجمل امرأة في زمانها.[10]

هكذا تتجلى فلسفة الثورة العمالية في:

منهجية إرساء العدل، التوزيع العادل للثروة، نبذ الحرب، الإيمان بحق العامل في أن يحصل على حقه، رفض زواج السلطة بالمال، منع سطوة الدين.
ونرى أن العقد الاجتماعي المبرم بين الشعب والحكام تم نقضه من قبل الحاكم فثار الشعب عليه دون مراعاة لقدسية الإله-الملك. وهذا ما يستدعي قيام ثورة ما (منطق قيام الثورة) في مصر القديمة.[11]

كما نجد نص شكاوى الفلاح الفصيح كإثبات ممنطق لسقوط قدسية الملك أمام استدعاء الأوزيرية في عهد منقر رع الذي يقول فيه: «إن ابن مرو أعمى عما يري، أصم عما يسمع، وجماعة بغير رئيس، وسفينة بغير ربان، فانظر: إنك لص، حاكم بجهل الفلاحين، يجب عليك القضاء على النهب، ولكنك ناهب تشبههم، إن لم تكن نموذجًا لهم.»
وقد نجحت الثورة بعد عدة أسر كان قد تدهور في عهدهم حال البلاد والعباد وحققت مكاسب منها:
«المساواة النظرية، نهاية هيمنة الطوطم الديني، تغيير التشكيلة الطبقية.»
ورُغم الثمن الباهظ الذي دفعه الشعب إلا أنه بالتأكيد يستحق.

كتابة وإعداد: مهند جمال إنسان

مراجعة: عصام أسامة

تدقيق لُغوي: مي محسن

مصادر ومراجع:

[1]- what is revolution – laura Neitzel (research

[2]- MacFarquhar -The origin of the culture revolution

[3]- ثورات الجياع – د. صلاح هاشم

[4]- The physiology of revolution – Gustave le bon

[5]- فلسفة الثورة – جورنار هيرنيش

[6]http://www.bbc.com/arabic/art-and-culture-43970491

[7]- الثورة الاجتماعية الأولى في مصر القديمة – محمد بيومي مهران

[8]- مرجع في تقدير القوة – روبرت تسيمر

[9]- رب الثورة أوزيريس – سيد القمني

[10]- the concept of woman: Egyptian revolution 2000bc – Eardman

[11]- الثورة الاجتماعية الأولى في مصر القديمة – محمد بيومي مهران

-مراجع أخرى:

المهمشون في التاريخ – د. محمود اسماعيل

الثورة في الفلسفة(مؤمنون بلا حدود)- عبدالمنعم شيحة

History and Utopia – Sporan

فلسفة الثورة في الميزان – عباس محمود العقاد

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي