تقع أغلب أحداث كتاب «الكراهية التي تعطيها» (The Hate U Give) في أعقاب حادثة عنيفة، وتروي لنا تلك الأحداث المؤلمة (ستار – Starr)، وهى امرأة شابة أمريكية من أصل أفريقي تشهد مقتل صديق طفولتها برصاص شرطي أثناء إيقاف مروري. وتحدث جريمة القتل هذه –وهى بالفعل جريمة قتل بدافع الخوف من شاب أسود أعزل- في مستهل التسلسل الزمني للرواية، وفي بقية أحداث الكتاب والذي يزيد عدد صفحاته عن 400 صفحة تستمر (ستار) في التفكير في الحادثة مرارًا وتكرارًا، حيث لا تحاول فقط مواجهة الصدمة النفسية بل تحاول أيضًا معرفة ما هو الرد السياسي المناسب.
ولم يتجنب أدب الشباب القضايا الصعبة، ولم يكن بوسع أحد تمني كتابًا أفضل من هذا عن وحشية الشرطة ضد الشباب ذي البشرة السوداء. وقد قدمت (إنجي توماس – Angie Thomas)، وهى مؤلفة الكتاب البالغة من العمر 30 عامًا، رواية مؤثرة توجه ضربةً إلى صميم العلاقات العرقية المعاصرة في الولايات المتحدة. وعلاوةً على ذلك، فهى لا تتهاون في تثقيف قُرَّائها حول الصعوبات التي تواجه الشباب الأمريكيين الأفارقة الذين ينشأون في ثقافة تسجنهم وتقتلهم بمعدلات خطيرة.
وإن جزءًا مما يجعل «الكراهية التي تعطيها» مؤثرًا للغاية هو أن (توماس) لا تطرح الرواية باعتبارها مجرد استكشاف للآثار العاطفية الناتجة عن الصدمات النفسية، وإنما هى تستكشف من خلال (ستار) وعائلتها تاريخًا أطول من العلاقات الصادمة بين البيض والسود في هذه البلاد. وبالتأكيد هناك الصدمة الشخصية: فالقرع المتكرر لأغنية الراب على الراديو يعيد إلى الأذهان بمنتهى السهولة الصوت المتقطع للطلقات النارية التي قتلت صديقها. ولكن، تقوم (توماس) بنسج الصدمة المتعلقة بهذه الحادثة مع الصعوبة الأعم في النشأة كشخص من العرق الأسود في الولايات المتحدة. فيعمل والدا (ستار) بنشاط على تثقيفها وأشقائها بشأن العنصرية، وإعطاء النصائح حول كيفية تولي الأمر بأنفسهم عند التعامل مع أصحاب البشرة البيضاء، وإعطاء الدروس في تاريخ العمل النشط الذي سعى إلى زيادة الوعي بشأن آثار العنصرية على جميع الأمريكيين. وتركز اللحظات المؤثرة على كيفية قيام (ستار)، والتي تعيش في «جاردن هايتس»، وهو حي مليء بالعصابات في مدينة مجهولة، بتكرار الشعار الذي تعلمته من عائلتها لضبط سلوكها إذا قامت الشرطة بإيقافها أو اِستجوابها:
أبقي يديكي حيث يمكن رؤيتهما.
لا تقومي بأي حركاتٍ مفاجئةٍ.
عليكِ فقط التحدث عندما يُطلب منكِ ذلك.
وتتفوق (توماس) أيضًا في إظهار تجربة الوعي المزدوج، وهى الطريقة التي يتبعها الأمريكيون الأفارقة «دائمًا في النظر إلى الذات من خلال عيون الآخرين»، على حد تعبير (دو بويز – W. E. B. Du Bois). ويقوم والدا (ستار) بإرسالها إلى مدرسة إعدادية في الضواحي، على أمل أنها سوف تستخدم تعليمها لتصنع حياةً جيدةً لنفسها. وهناك، تتأمل (ستار) في الحياة المزدوجة التي تعيشها، وحاجتها إلى مراقبة سلوكها في المدرسة حتى لا يفكر الأطفال الآخرون بها كـ (غِيتُو)، أي من الأحياء التي يسكنها السود. والأمر الأكثر إيلامًا هو أنها لا تستطيع أن تتحدث عن مقتل صديقها بسهولة خوفًا من أن تفقد السيطرة على نفسها، مما قد يدفع أصدقاءها ذو البشرة البيضاء إلى إسناد الدور النمطي للفتاة السوداء الغاضبة إليها. ولذلك كثيرًا ما تبقى صامتة؛ فهى تقول:
لا يمكنني تحمل نفسي لفعل ذلك، ولكنني أفعل ذلك على أي حالٍ
وفي نفس الوقت، تُدرج (توماس) عدة مقاطع تربط حياة شخصياتها بشخصيات تاريخية، مثل (توباك شاكور – Tupac Shakur)، والذي تُعد فلسفة (حياة الإجرام – thug life) الخاصة به بمثابة النواة الأخلاقية للكتاب. فتتغلغل كلمات (توباك) وفلسفاته في القصة، حيث تناقش عدة محادثات بين (ستار) وغيرها، ولا سيما والدها، نشاط (توباك) واستخدامه لفنه للتصدي للعنصرية. ويُستقى عنوان الكتاب من مصطلح حياة الإجرام، وهو الاختصار الخاص بـ (توباك) لـ «The hate you give little infants fucks everyone». وتدرك (توماس) جيدًا أن (توباك) كان شخصية مثيرة للجدل، ولكنها لم تقدم أي اعتذارات عن استخدامها لعمله أو علاقات والديه مع (حزب الفهود السود – the Black Panther Party). بل في الحقيقة، يجعل والد (ستار) أبنائه يتلون برنامج الفهود ذي العشر نقاط كل يوم كجزء من تعليمهم المضاد في التاريخ الأمريكي وسياساته وعلاقاته العرقية.
وقد يتضح مما سبق أن «الكراهية التي تعطيها» لا يُعد فقط قصة فعالة في أوانها بل يُعد أيضًا رواية تربوية عميقة، حيث يُذكر الأطفال ذي البشرة السمراء في ظروف مماثلة بأنهم ليسوا وحدهم في الوقت الذي يقوم فيه أيضًا بتثقيف القرَّاء ذي البشرة البيضاء الساذجين بشأن مدى صعوبة النشأة كشخص أسود. وتخاطر (توماس) باستخدام بعض القوالب النمطية هنا: فالشاب الذي قُتل في بداية الكتاب كان متورطًا في بيع المخدرات وإن لم يكن في وقت مقتله، ووالد «ستار» نفسه مجرم سابق. وكما هو الحال في رواية «الوحش» (Monster) الاستثنائية للكاتب (والتر دين مايرز – Walter Dean Myers) لعام 1999م، والتي تروي قصة فتى أسود صغير في محاكمة بتهمة القتل، فإن كتاب «الكراهية التي تعطيها» لا يحاول تلطيف تجارب بعض الأمريكيين من أصل أفريقي. فإن استعداد الكتاب لتناول المواقف الصعبة يتحدى القرَّاء على النظر، على سبيل المثال، فيما إذا كان شاب أسود يستحق الموت بغض النظر عن تاريخه الإجرامي. وبمعرفتنا المزيد عن (خليل – Khalil) نكتشف أن الجوع والفقر كانا الدَّافعين وراء إتجاره بالمخدرات، مما يجبر القرَّاء على التفكير في الخيارات المحدودة التي يواجهها العديد من الشباب في كافة أرجاء بلدهم.
ولمرة أخرى، فإن إدراج عمل (توباك) -وتقييمه الإيجابي القوي- يبدو كمحاولة لإعادة صياغة كيف تدرك الثقافة السائدة المشاهير السود المثيرين للجدل، والصعوبات التي تواجه العديد من أصحاب البشرة السوداء في قلب المدن. وفي الحديث الذي جرى مؤخرًا في جامعة كاليفورنيا، إرفاين، وصفت (توماس) مشاهدة فيديو لـ (توباك) وهو يبصق على المصورين، وتساءلت كيف يمكن أن تربط هذا السلوك بدفاعه عن السود وهجومه على العنصرية. وقد تحدثت عن مدى تأثرها عندما سمعته يغني للنساء السوداوات صغيرات السن، مثلها تمامًا، اللاتي ينشأنَّ على الرعاية الاجتماعية في أغنية «أبقي رأسك مرفوعًا» (Keep Your Head Up):
البعض يقول بأن التوت الأسود هو أحلى عصيرٍ
وأنا أقول أن البشرة السمراء هى نتاج عمق الجذور
اعطي صوتي إلى شقيقاتي ضد الرعاية الاجتماعية
توباك يهتم لأمركنَّ، إذا لم يعد أحدٌ يهتم
وطوال فترة عمل (توباك) ومشواره المهني، بدا أنه يمد يد المساعدة بدافع التعاطف بينما كان لا يزال يعبر بلا خوف عن غضبه وإحباطه. فالغضب والشفقة، والسخط والحساسية، والحنق والبهجة – هذه ليست مشاعر متناقضة ولكنها جزء من السلسلة الفعالة التي تصف تجارب العديد ممن ينشأون في ثقافة تكرههم. وإدراك هذه الكراهية، في الوقت الذي تُنشر فيه أيضًا الخطابات المضادة من أجل البقاء وتعلم حب الذات وحب الآخرين مثل الذات، تشكل أكثر من مجرد البناء النفسي للوعي المزدوج؛ فهى تحدد سياسة البقاء الأساسية.
وقد قال (شيرمان أليكسي – Sherman Alexie) أن أفضل كتب الأطفال هى «المكتوبة بالدماء»، وأعتقد بأنه يعني بذلك أنه ينبغي علينا أن نمنح الشباب كتبًا تعالج صراحةً التناقضات الجنونية والأخطاء الفادحة في طريقة عيشنا مع بعضنا البعض. وهناك الكثير من الدماء في «الكراهية التي تعطيها»، ولكن هناك أيضًا الكثير من الأمل. وتسير (توماس) على خطى (توباك)، فتنظر إلى فنها باعتباره عملٍ نشطٍ. فهو فوضوي وصعب، ولكنه مع ذلك يزيد الوعي.
ومع ذلك، تبقى (توماس) واقعية. ففي لحظة ما قرب نهاية الرواية، تفكر (ستار) في حقيقة أن البرنامج ذو العشر نقاط لم يُجدي نفعًا للفهود السود. فقد مات (هيوي نيوتن – Huey Newton) مدمنًا، وسحقت الحكومة الفهود واحدًا تلو الآخر. وبأي وسيلة ضرورية، لم يتجنب (الأخ مالكولم – Brother Malcolm) الموت غالبًا على أيدي شعبه. فالنوايا دائمًا ما تبدو أفضل على الورق مما هى في الواقع.
ويطرح «الكراهية التي تعطيها» مجموعة من النوايا المؤثرة، وإن كانت على الورق. فإذا كان هناك عيب في الرواية، فقد يكون حقيقة أن (ستار) مرنة وجاهزة جدًا نوعًا ما بإجابة أو بتعليق ساخر أو بنظرة نافذة. فقد رأت أشياءً لا يجب أن يراها الأطفال، ونتيجةً لذلك، ربما ينبغي أن تكون مصدومة أكثر قليلًا مما هى عليه.
ومن الواضح أن (توماس) معتمدة على القوة التي تنطوي عليها القصص لتعمل كقوة في العالم وتتيح لنا مرآةً لأنفسنا ومصباحًا ليرشدنا إلى مكان أفضل. وفي هذه الحالة، لابد بالضرورة أن يكون هذا المكان في أعقاب العديد من الصدمات النفسية والصعوبات. ويمكن أن تستغرق التبعات المترتبة على هذه الصدمات والصعوبات وقتًا طويلًا ومؤلمًا. ويحدد «الكراهية التي تعطيها» الوقت المستغرق في تلك التبعات والأضرار الناجمة، ولكنه أيضًا يشكل استجابات بارعة وأساسية.
ترجمة: آلاء هشام
مُراجعة علمية ولُغوية: آلاء مرزوق
تحرير: زياد الشامي
المصدر:
Alex J, er. Other People’s Children, Part 2: Stories in the Aftermath, or “The Hate U Give” [Internet]. Los Angeles Review of Books. [Cited 2018 Jul 29]. Available from: https://bit.ly/2NVbO3N