كان انهيار مرصد أرسيبو البالغ من العمر 60 عامًا في عام 2020 بمثابة ضربة هائلة لمستقبل علم الفلك الراديوي. قد يكون مرصد أرسيبو قديمًا، ولكنه كان يتمتع بقدرات فريدة جعلته مثاليًّا لدراسة أشياءٍ مثل موجات الجاذبية بالإضافة إلى قدرته على رسم خرائط لأسطح الكويكبات أثناء مرورها بالقرب من الأرض.
والآن، يتناقش علماء الفلك الراديوي من جميع أنحاء العالم حول ما سيحدث لاحقًا. هل يجب إعادة بناء أرسيبو من جديد؟ إذا كان الأمر كذلك، فمن أين سيأتي المال؟
كل هذه الأسئلة ليست لها إجابات سهلة، لكن المناقشات جارية. وتستمر المخططات الأولية لتلسكوب راديوي ثوري آخر في التقدم كل يوم. ومن المثير للاهتمام، أن هذه المناقشات قادت ناسا إلى إعادة النظر في فكرة جريئة كان يحلم بها علماء الفلك الراديوي منذ نصف قرن مضى وهي: بناء تلسكوب راديوي عملاق على الجانب البعيد من القمر.
فكما استفاد تصميم مرصد أرسيبو من بنائه في حفرة طبيعية في بورتوريكو، يمكن لعلماء الفلك استخدام الفوهات الموجودة على سطح القمر لبناء تلسكوب راديوي على القمر بسعر رخيص نسبيًّا، حيث تكفلت تصادمات الصخور الفضائية مع سطح القمر بأمر الحفر بالفعل. وعلى عكس الأرض، فليس للقمر طقس أو رياح لتسريع عملية التعرية. وحتى أن قوة الجاذية تكون أضعف على سطح القمر.
أرسيبو على القمر
منذ أوائل ستينيات القرن الماضي، أراد علماء الفلك بناء تلسكوب راديوي على الجانب البعيد من القمر. ويعود ذلك إلى أن الجانب البعيد من القمر لا يواجه الأرض باستمرار، مما يعني أن القمر بأكمله يعمل كواقي ضد نشاز الأرض من ضوضاء موجات الراديو الصادرة. وهذا يخلق بيئةً يتمكن العلماء خلالها من رصد الكون بأطوال موجية لا يمكن تحليلها بسهولة من كوكبنا أو حتى في مدار حول الأرض.
ومع ذلك، فإن مرصد أرسيبو على القمر سيكون أكثر من مجرد بديل. الفرضية مشابهة للطريقة التي قرر بها علماء الفلك استبدال تلسكوب هابل الفضائي. بدلًا من إعادة تكرار نفس التصميم، تبنى المجتمع فكرة بناء شيءٍ مختلف تمامًا. وبالتأكيد استخدم تلسكوب جيمس ويب الفضائي الرؤى المستقاة من فترة هابل. ولكن يكمن اختلاف تلسكوب جيمس ويب الفضائي عن تلسكوب هابل الفضائي في كونه حساسًا للأشعة تحت الحمراء بصورة أكبر، حيث يركز تلسكوب هابل الفضائي على رصد الكون ضمن نطاق الضوء المرئي والأشعة فوق البنفسجية. هذا التحول الطيفي سيُمَكِّن تلسكوب جيمس ويب الفضائي من اكتشاف آفاق جديدة في الكون بتفاصيل لا تشوبها شائبة.
ينطبق نفس الشيء على بناء تلسكوب راديوي كبير على سطح القمر. فبينما كُرِّسَ أرِسيبو لدراسة الموجات الراديوية بمقياس السنتيمتر والمليمتر لنحو 60 عامًا، يمكن للتلسكوب الراديوي القمري أن يرصد الأطوال الموجية الأكبر من متر، وهو أمرٌ لا يستطيع علماء الفلك فعله من كوكب الأرض.
إذا تم بناء مرصد شبيه بأرسيبو على سطح القمر، فمن المحتمل أن تُكتشف العديد من الظواهر الكونية الغريبة، مثل الشفق القطبي حول كواكب خارج المجموعة الشمسية البعيدة الشبيهة بالأرض، والأكثر إغراءً أنه قد يتمكن من التقاط إشارات الراديو من الأيام الأولى للكون، أي قبل ولادة النجوم والمجرات الأولى.
حتى عالم الفلك المشهور عالميًا، فرانك دريك، طرح مرةً فكرة “تلسكوبات كبيرة جدًا على طراز أرسيبو” على سطح القمر في مؤتمر ناسا عام 1986. ورأى دريك أن استخدام فوهة قمرية سيقلل الحاجة إلى بناء عناصر هيكلية كبيرة. حيث اقترح أن استخدام بعض الألواح والمنصات وعدد كبير من الكابلات كافي لبناء تلسكوب راديوي على القمر.
وبما أن القمر يحتوي على العديد من الفوهات، فبالتالي يجب أن يكون من السهل نسبيًّا العثور على فوهة بحافة متينة بما يكفي لتكون بمثابة نقطة ربط لكابلات دعم التلسكوب. مما يؤدي إلى تجنب تكلفة الأبراج باهظة الثمن التي تثبت الكابلات في مرصد أرسيبو. (في الواقع، انهار أرسيبو عام 2020 بعد سقوط الكابلات المتصلة بأبراجه).
تلسكوب الفوهة القمرية الراديوي
في السنوات الأخيرة، أظهرت وكالة ناسا دعمها لهذه الأفكار على مستوياتٍ لم يسبق لها مثيل من قبل، حيث مولت وكالة ناسا العديدَ من الدراسات المبكرة حول المقترحات لبناء مرصد شبيه بأرِسيبو على القمر. كان تلسكوب الفوهة القمرية الراديوي من بين هذه المقترحات، وهو مبنيٌّ على نفس الأفكار التي طرحها دريك منذ جيلٍ مضى.
ولكن على عكس ما تخيله مصممو البعثات السابقة، فإن التصميمات الأخيرة للتلسكوبات القمرية لن تعتمد في عملية بنائها على رواد الفضاء. حيث يقول سابتارشي بانديوبادياي، تقني الروبوتات في مختبر الدفع النفاث وقائد فريق تلسكوب الفوهة القمرية الراديوي:
“إنهم يعتزمون بناء تلسكوب الفوهة القمرية الراديوي باستخدام مركبات قمرية بسيطة مثل تلك التي صممتها ناسا بالفعل”.
سيتطلب بناء تلسكوب الفوهة القمرية الراديوي هبوط مركبة فضائية مليئة بالمركبات القمرية خارج الفوهة القمرية، ثم ستجلب هذه المركبات القمرية أسلاكَ الدعم وتنقلها إلى حافة الفوهة القمرية، ومن ثم ستعمل على تركيب نظام شبكي يمتد نحو 0.6 ميل (1 كيلومتر). ومع ذلك، يجب أن يتواجد النظام بأكمله داخل مركبة فضائية واحدة ستهبط على القمر مثل مركبة Blue Origin’s Blue Moon.
بالاعتماد على الروبوتات فقط بدلًا من رواد الفضاء، يمكن للمشروع توفير مبلغ كبير من المال. وهذا يعود إلى أن المهمات التي يشارك فيها رواد الفضاء تتطلب احتياطات أمان شاملة ومكلفة. حيث تتطلب كل مشكلة محتملة تمحيصًا إضافيًّا وضمانات هندسية. على سبيل المثال، يمكن أن تقطع الحواف الحادة بدلات الفضاء، لذلك يتم تجنبها في الرحلات المأهولة. ولكن الحواف الدائرية لا تسمح لك بزيادة مساحة الشحن إلى أقصى حد، وهو ما تريد القيام به في رحلة روبوتية إلى القمر.
بدأت ناسا بالفعل في اختبار نموذج متعدد الاستخدامات لمركبة جوالة تسمى (دوأكسل – DuAxel)، التي يمكن استخدامها في عددٍ من المهمات القمرية المختلفة. هذه المركبة تتميز بقدرتها على تسلق جدران الفوهة القمرية وتتسم بتكلفتها الرخيصة نسبيًّا.
يقول بانديوبادياي:
“إذا أرسلنا 10 من هذه الروبوتات وتعطل اثنان منهم، ستبقى المهمة على ما يرام حيث سيكون هناك ثمانية روبوتات تعمل. والأمر ليس كذلك مع رواد الفضاء”.
ومع ذلك، حتى مع كل المزايا المحتملة لاستخدام الروبوتات في البناء، فمن المحتمل أن تجعل التكلفة الحالية لهذه التكنولوجيا المهمة بعيدة المنال.
تُقدَّر تكلفة بناء تلسكوب راديوي على القمر بنحو مليارات الدولارات. هذا هو السبب في أن فريقه يحاول تطوير أنواع جديدة من الكابلات والشبكات التي سيكون استخدامها أرخص بشكلٍ كبير مما هو متاح الآن.
اعتمدت الدراسة الأولية لمشروع تلسكوب الفوهة القمرية الراديوي على تمويلٍ بقيمة 120 ألف دولار أمريكي مقدم من مشروع مفاهيم متقدمة مبتكرة من ناسا. يأمل بانديوبادياي وفريقه نشرَ نتائجهم الأولية بحلول الربيع.
ويقول:
“لدينا تصميمٌ أول جيد منطقي ويمكننا الطيران”. ويضيف: “إذا أعطيتنا أربعة أو خمسة مليارات دولار، فيمكننا إطلاق المهمة غدًا”.
ولكن على الرغم من هذا الحماس، فإن بانديوبادياي ليس متفائلًا أننا سنرى تلسكوبًا على طراز أرسيبو على القمر في المستقبل القريب. فبعد كل شيء، يميل العلم إلى أن يكون بطيئًا.
يقول بانديوبادياي:
“سأكون مندهشًا جدًا إذا رأيت تلسكوب الفوهة القمرية الراديوي قد وُضِعَ قيد التنفيذ قبل أن أتقاعد، وأنا عالم شاب جدًا. هذه الأشياء صعبة. هذه الأسئلة التي نحاول حلها صعبة. والنوافذ العلمية التي ستفتحها هذه الأسئلة صعبة. كلُّ شيءٍ صعب. إذا كان الأمر سهلًا، لكنا فعلناه بالفعل”.