من هيجل إلى ماركس: مقدمة في تطور المنهج الجدلي

هيجل إلى ماركس: مقدمة في تطور المنهج الجدلي

تخيل أن في منزل ما طفلة لم تتجاوز عامها الثاني بعد،تنظر الى ابيها فتراه سابحًا في هواء الغرفة، يمكن تَصَور مدى الحماسةوالانبهار الذي سوف تكون فيه هذه الطفلة، فهي اخيرًا قد رأت احدًا يطير خارج أفلام الرسوم المتحركة. ولكن عندما ترى الام نفس المنظر لن يكون الانبهار هو رد الفعل المتوقع بل الاستنكار والاستغراب، وإن رَدَدْتُ فرق ردة الفعل هذا بين كل من الأم والابنة للوعي فأظن انك على حق، ففي الغالب الأطفال ينظرون لأبائِهم وأُمهاتِهم على إنهم ابطال خارقون فهم يستطيعون ملئ كوب الماء وشربه دون أن يبتلوا، كل ذلك وهم ممسكين الكوب بيدٍا واحدة! أما الام فهي على دِراية بواقع الأمور وتعلم تمامًا أن الانسان ليس لديه القدرة الجسدية ولا التشريح المناسب للطيران.

 

إن الوعي هو أحد أهم الأشياء الذي حاول الانسان ولايزال يُطَوِرْهُ بكل ما أُوتِيَ من قوة، وكانت أحد أهم الأدوات التي ساعدت في تطور الوعي هو الجدل. الجدل كلمة تتضمن معنى التناقض، فإن لم يكن هناك تناقض فلِما الجدل إذن؟كان الجدل قديما مختلف تمامًا عن ما قدمه هيجل في فكرته الجميلة عن الجدل، حيث قديمًا كان يجب رفض الفرضية/الطرح كاملًا عند وجود اي تناقض في الفرضية المقدمة، وانتظار فرضية جديدة تماما لا تحتوي أولا تنتج تناقض. لعل أفضل وأشهر مثال على هذه الصورة من الجدل كان أفلاطون في كتابه الشهير “الجمهورية”قد قدم عن طريق شخصية سقراط هذا الشكل من الجدل،[1] حيث كان سقراط يسأل أحد الأشخاص عن معنى مفهوم ما،على سبيل المثالالعدالة،فيقوم بالرد عليه بمفهوم أو تعريف بسيط، فيوضح سقراط التناقض في ذلك التعريف المقدم له ومن ثم يقوم صاحب التعريف/الفرضية بتعديل الفرضية بصورة أكثر تركيبًا/تعقيدًا مستفيدا من التناقض المقدم، لكن عادة ما كان ينجح سقراط في إيجاد تناقض جديد حتى مع المفهوم الأكثر تركيبًا. وينتهي الأمر في كل مرة برفض الفرضية كاملًا. ويبدأ أفلاطون دورة جديدة بطرح نفس السؤال مرة اخرى ويصل الى رد مختلف تمامًا عن الرد السابق، ويجد تناقض مع الفرضية البسيطة و المركبة على التوالي -واللتين لا تربطهما اي علاقة بالفرضية القديمة- وينتهي به الأمر برفض الفرضية الجديدة كاملة وتبدأ الدورة من جديد.

 

كانت هذه الصورة من الجدل مفيدة للغاية في تاريخ تطور الفلسفة والفكر على مدار آلاف السنين. نظرًا لقدرتها على انتاج أفكار أكثر تركيبًا وعمقًا وتعيبرًا عن الواقع مستفيدة من فكرة التشكشك/ايجاد التناقض، غير انها تحتوي على مشكلتين اساسيتين:

 

1-  عند وجود تناقض في الفرضية يتم رفض الفرضية بالكلية والوصول لنقطة البداية في كل مرة، أي انه مع كل دورة كاملة لهذه الطريقة في الجدل ورغم الوصول لأفكار أكثر تعقيدًا قبل انتهاء الدورة إلا أن الوصول لنقطة الصفر او اللافرضية هو أمر حتمي.

 

2-  الرفض الكامل للفرضية يؤدي لأنتظار ظهور فرضية جديدة بشكل عشوائي تمامًا. والمقصود بفرضية جديدة تعني جديدة تمامًا أي ليس لها علاقة سواء بالفرضية القديمة أو حتى التناقض في الفرضية القديمة وبالتالي الإستفاده من الافكار القديمة تكون في حدودها الدنيا إن وجدت اصلًا.

 

الجدل عند هيجل (الفرضية)

 

هيجل هو أحد أهم وأشهر فلاسفة العصر الحديث. للدرجة التي جعلت بعض المُأرخين لتاريخ الفكر والفلسفة يستخدم تعبير “ما قبل هيجل، وما بعد هيجل” للتدليل على محورية الفكر الهيجلي واعتباره نقلة كبيرة عن ما قبله وصاحب أثر بالغ فيما بعده. ولكن لتوضيح فكرة الجدل عند هيجل، نحتاج أولًا لتوضيح فكرتين أساسيتين، حتى لا يكون هناك إحساس كبير بغرابة أحد أفكاره الجوهرية،
“حركة التاريخ ما هي إلا تقدم الوعي بالحرية”.[2]

 

في هذه الفكرة يوجد شيئان مهمان: أن التاريخ في حركة مستمرة، وأنه ليس فقط يتحرك بل يتحرك نحو هدف ما. والثانية إن الوعي بالحرية هو هدف هذه الحركة بل والمُشكِل الرئيسي لها.فكرة الحرية عند هيجل تحتاج الكثير من الشرح نظرًا لاختلافها الكبير عن الفكرة السائدة عن الحرية بوصفها فعل الفرد ما يريد وعدم اجباره على فعل ما لا يريد، وأيضا محوية فكرة الحرية عند هيجل في فلسفته السياسية والاجتماعية -وهم مع قدرهم الكبير ليسا هدف هذه المقالة فسوف نكتفي هنا بتوضيح بسيط للفكرة وأظُنه كافياً-.”نحن لسنا احرارًا عندما نتصرف إنطلاقا من رغبات فطرية أو إجتماعية معينة، كما أن الحرية تكمن في اتباع الضمير الشخصي”[2]

 

نعم هذه فكرة مبتسرة لمفهوم الحرية عند هيجل، فهي بالأساس تعبر عن الأشياء المتفق عليها هيجل مع إيمانويل كانط ،حتى قبل تطوير هيجل مفهوم الواجب عند كانط وفصل كل من الوعي والفهم كلٌ على حِدى كعمليتين منفصلتين، وتأثير ذلك تطوير مفهوم الحرية عند هيجلواهمية ذلك في فلسفته السياسية والاجتماعية. سيكون هذا محور مهم في المقالة القادمة حول بعض الشروحات النظرية لفلسفة هيجل، وايضًا علاقة ديفد هيوم وردود كانط عليه، وردود هيجل على كانط، واهميه افكار شيلر بالنسبة لهيجل لتطوير الفكرة عند هيجل. كما سنحاول إيضاح بعض افكاره السياسية والاجتماعية-.

 

فنقول من جديد ” تاريخ العالم ما هو إلا تقدم الوعي بالحرية”. هيجل كان من المهتمين بالتاريخ جدا وكان أحد أهم وأشهر كتبه هو “فلسفة التاريخ”. ولكن ليس التاريخ فقط من يتحرك بل كل شئ في الكون في حالة حركة مستمرة وتطور دائم “فإنك لا تستطيع نزول نفس النهر مرتين”. إن الوعي أيضا يتطور ويتحرك دائما وبالتالي قدرة الإنسان على إنتاج تناقض في أي فكرة ما هي إلا مسألة وقت فقط لا غير. و بالتالي فالرفض الكامل للفرضية عند وجود تناقض لابد من التخلص منه -أي الرفض الكامل- وتبني موقف أكثر إتساقًا مع طبيعة عالم دائم التغير والتطور الذي نعيش به. هنا نستطيع تعريف جدل هيجل كما يلي:

 

1-الفرضية  (Thesis): هي الفكرة السائدة في فترة زمنية ما، لم يطفو على السطح بعد تناقض كبير لها.
2-التناقض(Anti-thesis): مع التطور الدائم للوعي يتم الوصول للتناقض بالضرورة.
3- التركيب(Synthesis): مع المزيد من تطور الوعي وعدم رفض الفرضية لمجرد وجود تناقض بل الإبقاء على كل منهما والوصول لصيغة جديدة(تركيب جديد) من داخل هذه الحركة الجدلية بين الفرضية والتناقض وعدم إنتظار ظهور عشوائي لفرضية جديدة (تسمى هذه العملية بالدياليكتك).

 

وتستمر هذه الحركة الجدلية في الحدوث حيث يتحول التركيب إلى الفرضية الجديدة ويظهر بعدها تناقض للفرضية فيكونا معا تركيب جديد يكون بدوره فرضية جديدة وهكذا، فأصبح الجدل لايعبر فقط عن التناقض بل يعبر عن كل من النتاقض والزمن. هنا نستطيع التوقف لتوضيح الأمر الأكثر عن طريق مقاربة(analogy) على فيلم مشهور هو (How to train your dragon) في محاولة لتجسيد بعض الأفكار.

 

مقاربة هيجل

الفرضية: وجود موقف عدائي لا يحتمل التأويل بين الفايكنج والتنانين بما فيهم حازوقة شخصيًا،لذلك صنع المدفع الذي اصطاد به ابوسن في أول الفيلم، لابد لمحارب الفايكنج أن يستبق لقتل التنين لأن هذا ما سوف يفعله التنين بالضرورة.

النقيض: عدم قدرة حازوقة على قتل ابو سن، ذلك لأن حازوقة شعر بخوف التنين منه مثلما كان حازوقة خائف من التنين مما جعل حازوقة يري إنه وابا سن يشبهان بعضهما البعض بصورة أو باخرى، كما فسر حازوقة لاستريد عندما سألته “لماذا لم تقتل التنين؟” .

المركب: الوصول لصيغة تعايش مشترك بين الفايكنج والتنانين وتخلى معظم سكان القرية عن ذلك الموقف العدائي مع التنانين للحد الذي سمح بوجود تنين داخل بيت زعيم قبيلة فايكنج!

 

فهذه كانت الصيرورة التاريخية لبيرك-قرية حازوقة- حيث استطاع حازوقة بعمل حر وهو عدم قتل التنين حيث أن حازوقة لو قتل التنين عند رؤيته لاول مرة لن يكون هذا -القتل- فعل حر فنحن لسنا أحرارا عندما نتصرف انطلاقا من رغبات فطرية او اجتماعية معينة، وبتطورالوعي والاحتفاظ بالفرضية والتناقض في نفس الوقت أدى به الوصول لتركيب جديد سيكون هو الفرضية الجديدة لبيرك.بعد المثال السابق نستطيع الأتفاق ولو نسبيا مع استنتاج هيجل؛ بأن شكل التطور التاريخي معتمد بالأساس على الوعي بالحرية او كما قال “تاريخ العالم ليس إلا تطور لفكرة الحرية”.

 

لودفيغ فويرباخ (النقيض)

 

بعد صعود جدل هيجل على مسرح الفكر العالمي مُشَكّلًا الفرضية الجديدة منتظرًا بالضرورة تناقض، وبذلك تبدأ دورة جديدة من الديالكتيك. كان ظهور التناقض على يد أحد أهم الفلاسفة الماديين فى القرن التاسع عشر، وكان له اثره الفكري البالغ على كل من إنجلز وماركس واليسار الهيجلي بالكامل وهو فورباخ. أوضح فورباخ  ان الفرد اثناء عملية التفكير، حيث أن عملية التفكير في حد ذاتها يكون فيها الفرد غير مخير تماما، فيتحول إلى أداه أوعضو يستطيع تلقي الفكرة بلأساس. أو بمعنى ادق تستطيع الفكرة التجسيد في وعي الفرد؛ حيث أن الفكرة تتحول من فكرة قائمة في ذاتها (being in itself)  لفكرة قائمة لذاتها (being for itself). لكن هذا التجسيد للفكرة في الوعي لا يتم إلا عند وجود ظروف تاريخية تسمح بذلك[3]. .يُعتبر هذا الطرح لفورباخ مبتسر ايضا، لان فورباخ سوف يكون موجود بقوة حين الحديث عن الفلسفة المادية في مقال لاحق.

 

ماركس والجدل المادي (المركب/ الفرضية الجديدة)

 

الجدلية المادية هي من الأفكار المحورية التي كانت ومازالت لها الأثر الكبير على حياتنا حتى الان. فهي ببساطة فلسفة إنتاج العلوم الطبيعية منذ ظهورها حتي الان. فقد رَفَضَ ماركس كل من الفكر المثالي لهيجل وفكرة فورباخ بأن كل إنسان فى صراعاته المادية المختلفة هي أساس التطور التاريخي، حيث قدم هيجل الفكرة على الواقع وتعامل فورباخ مع الأنسان كوِحْدَة مستقلة بذاتها. فكان تركيب ماركس بالإبقاء على شكل الجدل الهيجلي بمراحله الثلاث اقتناعا منه باهمية وقوة الفكرة  ولكن بعد عكسها تماما ببتقديم الواقع عل الأفكار،حيث جعل الأفكار صورة مبسطة عن الواقع. [4]  واعطى أهميه كبيرة للظروف التي يعيش بها الإنسان وجعل الصراع طبقي عوضا عن الفردية . فأصبح تاريخ تطور العالم هو تاريخ الصراع الطبقي. وأظن انه بالعودة لبيرك نستطيع توضيح بعض الامور بصورة اسهل. دون النظر للظروف الاجتماعية والسياسية وخصوصا الاقتصادية وأثرها البالغ عليه

 

مقاربة ماركس

 

الفرضية: وجود صراع كبير على الموارد الطبيعية المتاحة فى البيئة بين الفايكنج والتنانين،وكانت الحلول السائدة إما البحث عن عش التنانين والتخلص منه -ابو حازوقة- او محاولة جعل بيرك منطقة آمنه من التنانين دون مجهود بدني كبير -حازوقة ومدفعه-.

النقيض: محاولة الاستفادة من التنانين الموجودة بالاسر وخصوصا ابو سن للوصول الى تراكم معرفي تمكّْن الفايكنج من السيطرة على التنانين ومحاولة اخضاعها إن امكن وألا يكون كل الهدف من التنانين الموجوده بالأسر التدريب البدني للفايكنج.

المركب: تدجين التنانين، استطاع الفايكنج من طريق حازوقة إستغلال التنانين في الحرب ضد التنانين، فقد هزم حازوقة و ابو سن الذكر المهيمن في عش التنانين كما استطاعوا ايضا استخدامهم في الصيد.

 

هنا يمكن رؤية التأثير البالغ لواقع بيرك؛ حيث ان حجم حازوقة هو الدافع لاستخدامه التكنولوجيا بالأساس وصناعته للمدفع ومحاولة الاستفادة من التنانين الموجودة بالأسر بشكل مختلف فهو ليس قوي جدًا، وكان حازوقة في الرسومات بحجم ذراع ابيه حرفيًا. كما ان فكرة التدجين كانت متاحة في ارض الواقع اصلًا وبالتالي استفاد منها حازوقة بمحاولة فعل نفس الشئ مع التنين الذي أسَرُه وهو ابوسن. ووجود نمط اإنتاجي يسمح بوجود وفرة في الغذاء للفايكنج والتنانين. فكون موقع بيرك على البحر ليس فقد للمشاهد بين حازوقة وتنينه ابو سن سواء معهم استريد اولا بل لا وجود لهذا الفيلم بهذه الصورة لولم تكن بيرك مطلة على البحر.

 

خاتمة

 

حل الجدل الهيجلي مشكلة رفض الفرضية بالكامل عند ظهور تناقض، حيث بات الحفاظ على الاثنين معا وعدم رفض احدهما،وذلك طبعا عند وجود دعم منطقي لكليهما،يساعد بالضرورة على تطور الفهم والوعي- حيث انهما موضوعان مختلفان عند هيجل- هو ما يؤدي للمزيد من حريتك الشخصية طبقًا لهيجل.

في نفس الوقت لابد من إدراك أثر الواقع البالغ على الفكر طبقا لماركس. بل قد يكون الواقع هو المُشكِل الاهم في تكوين الفكر. فمثلا لو سألت في عصرنا الحالي هل لابد من وجود فرق في العلوم المتاحة للتحصيل بين الرجال والنساء؟ غالبا سوف يكون الرد بالنفي وقد يصل الرد لسماع ما اكره. لكن هذا كان رأي قامة اقتصادية وسياسية كبيرة كجان جاك روسو. وهذا التصور لم يكن عند روسو نظرًا لغباء او ضيق افق ولكنه تأثير الأفكار السائدة فقط لا غير. فعلًا كان نيتشة على حق حين قال “الأفكار السائدة هي خمول فكري”. تخيل كمية الافكار السائدة الموجودة الان، وتخيل كمية المجهود الفكري المطلوب!

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي