يتطور العالم باستمرار، ويلعب فيه المؤرخون دوراً مهماً في تسجيل وتجميع أحداث الماضي وتحليلها، إذ تتيح جهودهم للأفراد والجماعات فرصة التعلم من الماضي من أجل رسم مستقبل أفضل، ومن يرغب في المشاركة في جهود هؤلاء المؤرخين، يمكن أن يختار استكمال الدراسات العليا في دراسة التاريخ.
من هو المؤرّخ؟
يُكرّس المؤرخون حياتهم المهنيّة لدراسة الأحداث البارزة في الماضي مثل النزاعات العسكريّة والأحداث السياسيّة الهامة وحركات المجتمعات وغيره، وتعتبر الجامعات وغيرها من البيئات التعليميّة وكذلك المنظمات العامة والخاصة وغير الربحيّة أكثر الأماكن توافراً لعمل هؤلاء المؤرّخين، فعلى سبيل المثال تقوم بعض الإدارات الحكوميّة بتوظيف المؤرّخين لديها لتقديم المشورة بشأن توقّع الصدى والتأثير المُحتمل لبعض السياسات المُحتمل والمُقتَرح تطبيقها في هذه الإدارات، ومن خلال وجودهم يمكن للمؤرّخين خاصةً العسكريين منهم تقديم تلك المشورة بشكل كبير، وبالأخص إذا تعلق الأمر بالسياسة الداخليّة والخارجيّة لتلك المنظمات أو الإدارات من خلال قيام هؤلاء المؤرّخين العسكريين بدراسة تاريخ النزاعات العسكريّة وتدوين تفاصيلها المهمة في تقارير قد تساعد في اتخاذ قرار معين.
وقد تشمل أعمال ومهام المؤرّخين العسكريين أيضاً مهام التكنولوجيا العسكريّة والاستراتيجيّة والاتصالات وفنون قيادة الأمم والصحة العامة في الحروب، ومن خلال الاستعانة بأبحاث هؤلاء يمكن للمسؤولين العسكريين وصانعي القرار وواضعي السياسات استخدام هذه المعلومات لتطوير سياستهم لتصبح أكثر فاعليّةً.
ماذا يفعل المؤرّخ؟
إن استكمال الدراسات العليا في دراسة التاريخ من شأنها أن تساعد في إعداد مؤرّخين يقومون بإجراء بحوث ميدانيّة وتقييم وتحليل للسجلات التاريخيّة وتقديم نظرة ثاقِبة لأحداث الماضي، وعادةً ما يتحمل المؤرخون المسؤوليّات المهنيّة التالية:
البحث في التاريخ المُسَجّل
يقوم المؤرخون بجمع وتحليل وتقييم المعلومات من خلال دراسة العديد من المصادر التاريخيّة الأوليّة للإجابة على بعض التساؤلات المتعلّقة بتحقيق الحدث التاريخي، وتُعرف هذه العملية باسم “منهج البحث في التاريخ”، ومن خلالها يقوم المؤرّخون بتحليل السجلات المكتوبة والآثار الماديّة وغيرها من أدوات البحث، والتحقيق لمحاولة الوصول إلى نتائج وتقارير تُربَط ويُدرَس مدى قيمتها للمجتمعات الحديثة.
- تقديم نظرة تاريخية حول الأحداث الجاريّة
يمكن للمؤرّخين من خلال المقارنة بين الأحداث الماضية والحالية إعطاء تقييم مهم حول الشؤون الجاريّة، ذلك التقييم الذي من شأنه التنبؤ بالأحداث التي يمكن حدوثها في المستقبل القريب، فعلى سبيل المثال يمكن للمؤرّخين الاقتصاديين أو القائمين على دراسة التاريخ الاقتصادي لبلد ما يواجه مرحلة ركود اقتصادي تحديد الأسباب المباشرة لحدوث مثل هذا الركود، ومساعدتهم لباقي المجتمعات الأُخرَى في العالم في تجنب مثل هذه الأحوال الاقتصاديّة، والتعافي منها بشكل سريع، وعدم الوقوع في أخطاء اقتصاديّة من شأنها أن تؤدي إلى هذه الحالات الاقتصاديّة الصعبة، وعلى نفس النهج في باقي مجالات التاريخ الأخرى يمكن للمؤرخين العسكريين المساعدة في تحديد ملامح قيام الحروب بشكل استباقي، مما يسمح لقوّاد بلادهم باتخاذ الإجراءات اللازمة، وبالمثل يمكن للمؤرّخين السياسيين الاستفادة من ملاحظاتهم حول الأحداث السياسيّة الماضية في التنبؤ بشأن لعبة السياسة الدوليّة وشؤونها في الوقت الحاضر.
ما هي المهارات التي يجب على المؤرّخ اكتسابها؟
كي تكون مؤرّخاً يجب أن تعمل على تطوير قدرتك على وضع الفرضيّات اللازمة، وقدرتك على جمع المعلومات المنطقيّة للوصول إلى نتائج يمكن نشرها لاحقاً، وقد يضطر الأشخاص العاملون في مجال دراسة التاريخ للسفر والعمل لساعات طويلة من أجل الوصول إلى حقيقة تاريخيّة، ويجب على المؤرّخ أن يكون في تعطش دائم للقراءة والكتابة، وجميع هذه المهارات يُضاف إليها مهارات أُخرى تُعتَبر حيويّة لدى المؤرّخ منها:
منهجيّة التفكير الزمني
إن إتقان ما يعرف بـ “التفكير الزمني” يعني فهم ودراسة قدرة المجتمعات القديمة على تدوين التاريخ وتسجيله في وقته، إن احتواء العديد من المصادر التاريخية على قصص مختلفة لحدث واحد، بالإضافة إلى أنّ المصادر التاريخية لا تأتي عادةً مختومة بوقت أو تاريخ أكثر دقة لحدوثها، كل هذا ألقى بالعبء على المؤرخ في التدقيق في الأحداث التاريخية ووضعها وفق ترتيب زمني لحدوثها بشكل متسلسل، ومدى تلاؤم هذه الأحداث تاريخياً، ودراسة من قام بتدوين المعلومات التاريخية وما هو مصدرها.
قد يكون مهمة تحقيق هذا التسلسل الزمني من خلال المعلومات المتاحة أمراً صعباً، لذا تدرج الجمعيّة التاريخيّة الأمريكيّة منهجيّة التفكير الزمني كأهم المهارات التي تخدم المنهج التاريخي ودراسته، حتى أنها اعتبرته قلب دراسة التاريخ لأن ما قد يبدو بسيطاً على السطح يكون معقداً بداخله، وسبب هذا التعقيد ليس فقط تعدد القصص المُختلفة حول الحدث التاريخي الواحد، بل أيضاً بسبب النظرة المُختلِفة للحضارات القديمة لعامل التدوين والتأريخ، فعلى سبيل المثال، إن المجتمعات التي تأسست على العقيدة المسيحية قد اعتمدت في تدوين تاريخها على الأحداث المهمة في عقيدتها وتاريخ وقوعها، في حين أن حضارة أخرى مثل الحضارة الصينية ربطت كتابة تاريخها وتدوينه بصعود وهبوط الأسر الحاكمة فيها، وحتى إذا كانت هذه الحضارات القديمة قد سجلت تاريخها بدقة، إلا أن التناقض في التسلسل الزمني لأحداث هذا التاريخ قد يجعل من الصعب تحديد متى وقعت الأحداث عند المقارنة بين التأريخ القديم وتقويمنا الحديث. ونظراً لعدم وجود طريقة موحدة لدراسة التسلسل الزمني، وجب على المؤرّخين معرفة كيفيّة استخدام كل هذه المهارات السابقة لاستنتاج سياق وترتيب زمني للأحداث التاريخيّة.
إعداد: عُمر بكر محمد
تدقيق لغوي: رؤى زيات
تحرير: نسمة محمود