تزايد الطلب على مضادات الميكروبات وخاصة تلك التي تدخل في تركيب مواد البناء و الإنشاءات في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ؛ بسبب انتشار استخدامها في المنازل والمنشآت المختلفة، بعدما كان يقتصر استخدامها على المستشفيات والمرافق الصحية الأخرى فقط، وذلك نتيجة للاعتقاد السائد بقدرتها على الحماية من العدوى والحد من انتشار الأمراض؛ مما أدى إلى ارتفاع أسعارها بشكل كبير مقارنة بنظيراتها من مواد البناء العادية. من ناحية أخرى، ظهرت أدلة جديدة تحذر من تأثير مضادات الميكروبات المضافة إلى هذه المواد على البيئة وصحة الإنسان. فهل الفوائد الصحية لهذه المواد تجعلنا نتغاضى عن آثارها السلبية المحتملة؟
ما هي مضادات الميكروبات (Antimicrobial Agents)؟
مضادات الميكروبات هي مواد طبيعية أو مُخلقة تقتل أو تثبط نمو الكائنات الحية الدقيقة (Microorganisms) مثل: البكتيريا، والفيروسات، والفطريات، والبروتوزوا. وتدخل هذه المواد في تركيب العديد من المنتجات التي نستخدمها يوميًا، بما في ذلك المنتجات المستخدمة في أعمال البناء والإنشاءات.[1]
هل مضادات الميكروبات تحمينا أم تحمي المنتجات نفسها؟
تُضاف مضادات الميكروبات للمنتجات الاستهلاكية بكميات صغيرة وأحيانًا تكون المكوّن الرئيسي في تصنيع المنتج لسببين رئيسيين، الأول: لمنع أو على الأقل تثبيط نمو الميكروبات خاصة تلك المسببة للأمراض وبالتالي تقليل انتشار الأمراض، والثاني: أنّ العديد من المنتجات -مثل الأخشاب، والبوليمرات، والمواد اللاصقة، والفوم، والمنسوجات- مُعرّضة للتلف بفعل الكائنات الدقيقة (الميكروبات) التي تنمو على المغذيات الموجودة في هذه المنتجات؛ لذا تُضاف إليها مضادات الميكروبات لحمايتها من التآكل وتغير اللون والرائحة الناتج عن التلوث الميكروبي.[2]
تأثير مضادات الميكروبات على البيئة وصحة الإنسان
قد يشتري الناس بعض المنتجات المحتوية على مضادات الميكروبات معتقدين أنها تحميهم من الأمراض، والحقيقة أن هذه الإضافات تعمل كمواد حافظة لحماية المنتج نفسه من التلف. يمكن أن يحدث ذلك بسبب اختلاط الأمر عليهم، أو وقوعهم ضحايا للتضليل التجاري، مما يجعلهم يشعرون بالحماية الزائفة.[1]
تُصنف مضادات الميكروبات من ضمن المبيدات، وبالتالي يمكن أن تشكل مخاطر جوهرية على البيئة وصحة الإنسان، ونستعرض هنا بعض هذه المضادات واسعة الاستخدام وتأثيراتها:[1]
(1) التريكلوسان (Triclosan)
تمتد فعاليّة التريكلوسان خلال مدى واسع من أنواع البكتيريا والفطريات. قُدّم للسوق لأول مرة عام 1964، ولا زال يُستخدم بكميات كبيرة إلى الآن، وتشمل المواد التي تحتوي على تريكلوسان: الكونترتوب، وأسطح الطاولات، والمنسوجات، والمنتجات الأسمنتية كما يدخل أيضًا في صناعة بعض مستحضرات العناية الشخصية كالشامبو والصابون.[1]
يُعد التريكلوسان أحد أفراد عائلة الهاليدات العضوية (Organohalides) التي استُخدمت على نطاق واسع كمبيدات حشرية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين قبل أن يتم حظر استخدامها بشكل تدريجي بسبب تأثيرها السام على الإنسان والبيئة. في عام 2016 حظرت إدارة الغذاء والدواء (FDA) استخدام التريكلوسان في الصابون وغسول اليدين، وأعلنت مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC) أن آثار التعرض لكميات قليلة منه على صحة الإنسان غير معروفة، وشددت على ضرورة إجراء المزيد من الأبحاث لتقييم آثاره.[1]
(2) أيونات الفضة (Silver Ions)
يعتبر كلًا من الزيوليت المحمل بالفضة (Silver-impregnated zeolite) وجسيمات الفضة النانوية (Nanosilver) من مضادات الميكروبات الفعّالة؛ لأنها تطلق أيونات الفضة -الناتجة عن تفاعل الفضة مع الأكسجين- والتي بدورها تستهدف الجراثيم وتقضي عليها. خصائص الفضة المضادة للميكروبات معروفة منذ زمن طويل، وذكرت الكتابات القديمة عملية تخزين الطعام والماء في حاويات فضية لحمايتهما من التلف، ووافقت إدارة الغذاء والدواء (FDA) على استخدام مركبات الفضة في الوقاية الطبية من العدوى في عشرينيات القرن العشرين. فتستخدم أيونات الفضة بشكل متزايد في طلاء الأجهزة، والمفاتيح الكهربائية، وأغطية النوافذ، وستائر المستشفيات، والمنسوجات لإمدادها بخصائص مضادة للميكروبات.[1]
كما أن جسيمات الفضة النانوية لها تأثير مضاد لبعض أنواع البكتريا خاصة البكتريا المقاومة للمضادات الحيوية وبفاعلية أفضل من فاعلية الجزيئات العادية.[2] ويُعتقد أن السبب وراء ذلك أن الجزيئات النانوية تؤدي دور حصان طروادة؛ تعبر حواجز الخلية التي لا تستطيع جزيئات الفضة في حجمها الطبيعي تجاوزها، وتدخل إليها، ثم تطلق أيونات الفضة التي تتلف أجزاء الخلية. وفي عام 2015 أظهر تقييم الجرين سكرين (GreenScreen Assessment) أن جزيئات الفضة النانوية ثابتة بيئيًا، ولها تأثير سام على الأنظمة البيئية المائية، وتمثل خطورة على أجهزة الجسم. لكننا بحاجة إلى مزيد من الأبحاث في هذا الشأن.
في عام 2014، اقترحت الوكالة السويدية للمواد الكيميائية (The Swedish Chemicals Agency) تصنيف الزيوليت المحمل بالفضة والزنك (Silver Zinc Zeolite) كمادة ذات تأثير سلبي على الخصوبة والصحة الإنجابية (Reproductive Toxicant)، وقد أكدت الاختبارات التي أجريت على الحيوانات وجود أدلة على أن مادة زيوليت الفضة ربما تكون مادة مسرطنة، كما أنها مادة مهيجة للعين والجلد، وقد تتسبب في تشوهات الأجنة أو ضمور الأعضاء الداخلية.[1]
طبقًا لموقع الوكالة الأوروبية للكيماويات[3] (European Chemicals Agency ‑ ECHA) تم تحديث توصيف مادة الزيوليت المحمل بالفضة والزنك لمادة خطرة من خلال نظام التوسيم والتصنيف التوافقي للمواد (Harmonised Classification and Labelling).
(3) مركبات الأمونيوم الرباعية (Quaternary Ammonia Compounds)
تستخدم مركبات الأمونيوم الرباعية (QACs) في منتجات التنظيف منذ ثلاثينيات القرن العشرين، وهي بشكل عام فعّالة ضد مجموعة كبيرة من البكتيريا، والفطريات، وبعض الفيروسات. تحتوي هذه المركبات العضوية على نيتروجين موجب الشحنة مرتبط بهاليد (halide) أو أيون كبريتيد (sulfide ion) سالب الشحنة، وهذا يعني وجود العديد من المواد التي يمكن تصنيفها كمركبات أمونيوم رباعية، وأن كل مادة منهم لها تأثير فريد ضد الجراثيم.[1]
تستخدم هذه المركبات أيضًا في مواد البناء والمواد الحافظة للأخشاب، وفي الآونة الأخيرة أدخلت في تركيب طلاءات معينة. صنفت المعاهد الوطنية للصحة (The National Institutes of Health) مركبات الأمونيوم الرباعية كمواد مسببة للربو، ومهيجة للعين والجلد، كما اعتبرتها موادًا ثابتة بيئيًا، وقابلة للاشتعال، ومسببة للتآكل، وضارة بالنظم البيئية المائية. وأوصت بعدم استخدام المنتجات المحتوية على هذه المواد إلا للضرورة.[1]
هل مضادات الميكروبات تحمينا من الميكروبات حقًا؟
أدى الاستخدام الواسع لمضادات الجراثيم إلى ظهور ميكروبات مقاومة لهذه المضادات، وازداد الأمر سوءًا مع ظهور بعض الميكروبات المقاومة لأدوية المضادات الحيوية (MDR Microbes – Multi Drug Resistance Microbes) المستخدمة من قبل أنظمة الرعاية الصحية.[1]
تحدث ظاهرة مقاومة مضادات الميكروبات (Antimicrobial resistance) عندما تُستخدم مادة مضادة للميكروبات على مجموعة من الجراثيم، لكنها لا تقتلها كلها. تكتسب الكائنات الناجية مناعة ضد المادة المضادة للميكروبات، وتستمر في التكاثر ناقلة هذه المناعة للسلالات التالية. ومن خلال الطفرات (Mutations) تنشأ بعض سلالات الجراثيم التي تعرضت للمادة المضادة مزودة بنظام مناعي مقاوم لهذه المادة.[1]
في الآونة الأخيرة تم العثور بالفعل على كائنات دقيقة مقاومة لمضادات الميكروبات. حيث لوحظ وجود مقاومة لمركبات الفضة لدى سلالات من سالمونيلا تايفي-موريوم (Salmonella Typhi-Murium)، أو الإشرشيا كولاي أو الإشريكية القولونية (E. coli)، وأنواع أخرى من البكتيريا، بعد التعرض لمركبات الفضة المضادة للميكروبات في ضمادات الجروح. وظهرت أيضًا جراثيم مقاومة للتريكلوسان؛ أشارت دراسة حديثة إلى أن وجود التريكلوسان في جسم الإنسان يعزز عدوى المكورات العنقودية (Staphylococcaceae). وفي التجارب المعملية، وجد الباحثون أن كمية التريكلوسان اللازمة لقتل سلالة الإشريكية القولونية المكتسبة مناعةً ضد التريكلوسان تعادل 100 ضعف الكمية اللازمة لقتل سلالة لم تتعرض لهذا المضاد الميكروبي من قبل. بل إن هذه السلالة المقاومة للتريكلوسان أظهرت مقاومة لمضاد حيوي جديد جُرب عليها في نفس وقت إجراء الاختبار.[1]
هل تستطيع المستشفيات الاستغناء عن مضادات الميكروبات؟
أفادت مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC) أنه لا يوجد دليل على أن استخدام المنتجات المضادة للميكروبات يمكن أن يجعل المستهلكين والمرضى أكثر صحة، أو يمنع الأمراض. ولا توجد بيانات تدعم استخدام هذه المواد كجزء من استراتيجية سليمة لمكافحة العدوى. كما نصّت إرشادات مراكز (CDC) على أنه حتى في حالة المرضى الذين يعانون من ضعف الجهاز المناعي، فإنّ الطريقة المثلى للحفاظ على صحة جميع المرضى هي من خلال تطبيق ممارسات النظافة الصحية المناسبة، وصيانة الأنظمة الهندسية للمباني (التهوية، وما إلى ذلك).[4]
وقد نجحت المستشفيات بالفعل في خفض معدلات العدوى المرتبطة بالرعاية الصحية (HAIs) -وهي العدوى التي تنتقل إلى المرضى أثناء تلقيهم العلاج من أمراض أخرى في المستشفيات والمراكز الطبية المختلفة[5]- دون الحاجة إلى استخدام المنتجات المضادة للميكروبات. فقد حصلت مستشفيات كايزر بيرماننت (Kaiser Permanente hospitals) على أعلى تقييم في سلامة المستشفيات، ويرجع ذلك بشكل جزئي إلى النهج الشامل الذي تتبعه لمكافحة العدوى. يركز هذا النهج على نظافة اليدين والمواد التعليمية الموجهة إلى العاملين بالمستشفى. ومن الجدير بالذكر أن (كايزر بيرماننت) فرضت -مؤخرًا- حظرًا على مواد البناء التي تحتوي على بعض الإضافات المضادة للميكروبات؛ مما يقدم أدلة إضافية على أن هذه المواد غير ضرورية لنجاح عملية مكافحة العدوى في المستشفيات.[1][6]
لذلك يفضل استخدام مواد البناء العادية فهي أقل تهديدًا للبيئة وصحة الإنسان، كما أنها أقل تكلفة. يستطيع المهندسون والمصممون استخدام مشروع فاروس (Pharos Project) كمصدر للمعلومات حول المنتجات المستخدمة في عمليات البناء والتشطيب، لمعرفة إذا ما كانت هذه المنتجات تحتوي على مضادات الميكروبات أم لا.[1][7]
المصادر:
(1) Healthy Environments: Understanding Antimicrobial Ingredients In Building Materials [Internet]. Healthy Building Network. [cited 2020 Apr 26]. Available from: https://healthybuilding.net/reports/4-healthy-environments-understanding-antimicrobial-ingredients-in-building-materials
(2) Loo, Y. Y.; Rukayadi, Y.; Nor-Khaizura, M.-A.-R.; Kuan, C. H.; Chieng, B. W.; Nishibuchi, M.; Radu, S. In Vitro Antimicrobial Activity of Green Synthesized Silver Nanoparticles Against Selected Gram-Negative Foodborne Pathogens. Front. Microbiol. 2018, 9 (JUL), 1555. https://doi.org/10.3389/fmicb.2018.01555
(3)silver zinc zeolite (Zeolite, LTA framework… – Substance Information – ECHA. https://echa.europa.eu/substance-information/-/substanceinfo/100.118.718.
(4) Antimicrobials in Hospital Furnishings: Do They Help Reduce Healthcare-Associated Infections? [Internet]. Health Care Without Harm. 2016 [cited 2020 Apr 26]. Available from: https://noharm-uscanada.org/documents/antimicrobials-hospital-furnishings-do-they-help-reduce-healthcare-associated-infections
(5) gpsc_ccisc_fact_sheet_en.pdf [Internet]. [cited 2020 Apr 28]. Available from: https://www.who.int/gpsc/country_work/gpsc_ccisc_fact_sheet_en.pdf
(6) Banning use of antimicrobial agents for infection control [Internet]. [cited 2020 Apr 28]. Available from: https://about.kaiserpermanente.org/total-health/health-topics/kaiser-permanente-rejects-antimicrobials-for-infection-control
(7) Common Products [Internet]. Pharos. [cited 2020 Apr 28]. Available from: https://pharosproject.net