نذهبُ اليوم في رحلةٍ للبحثِ عمّا يحدث وراء أعيننا في هذا الكون، عن تلك المرة التي سرت بها عزيزي القارئ مُحلّقًا بأفق عينيك مُستسيغ طقس ذلك اليوم حيث لا أحد غيرك والشاطئ الذي تحبه والبحر من أمامك، ترفعُ عينك نحو البحر، فتصِلُ لآخر نقطة في أُفقك، لقد اتحد البحر مع السماء فاستشعرت كروية الأرض حتى صرت تبتعد عنها شيئًا فشيئًا حتى رأيتها كاملةً وخُيّل لك مدارها ثم المدارات التي تليها. أنت الآن خارج نظامنا الشمسيّ تواصل الابتعاد، ها قد بدأت الرؤى تضح، إنك تعرف تلك الأشكال لأنك طالما تحريّت عنها في سمائك الأرضية، كوكبات نجمية مختلفة، تبتعد أكثر فأكثر وها هو موطنك في ذراع المجرة، تستشعر وجوده لكنك لن تراه الآن من تلك النقطة، وها هي مجرة درب التبانة؛ فحدّق بها في خيالك جيّدًا لأننا قد وصلنا أخيرًا إلى وجهتنا. درب التبانة أو “الطريق اللبنيّ”.
درب التبّانة
درب التبانة أو “الطريق اللبنيّ” مجرةٌ من الطراز الحلزوني، وتبتعد المجموعة الشمسية عن مركزها نحو 27 ألف سنة ضوئية. لم تنتهي الرحلة بعد؛ كونٌ عظيم ولدنا به في وقتٍ حيث يدور فوق رؤوسنا مِقرَابُ هابل الفضائيّ وغيره من المقاريب العملاقة التي تقطن فوق أعالي الجبال في العالم، ربما تُفاجئ إذا علمت أننا لم نكن مُتيقنون لفترةٍ ليست بالقليلة من فكرة وجود مجرات أخرى، وذلك حتى عام 1924 حيث وُجدت الأدلة التي تُثبت أننا لسنا وحدنا بهذا الكون بل أن هنالك أعدادًا لا حصر لها من المجرات حتى أنه عندما سَلّط مِقرابُ هابل الفضائيّ ضوؤه على رُقعةٍ صغيرةٍ من الفضاء لمدة 12 يومًا فإنه رصد 10 آلاف مجرة بكل الأحجام والأشكال والألوان، بعض العلماء يعتقدون أنه قد يكون هناك حوالي 100 مليار مجرة في الكون أجمعه؛ لذلك تُعد المجرات الوحدة الأساسية للكون أو بمعنى أدق هي الوحدة الأساسية للمادة الباريونية-العادية- التي تشكل خمسة بالمئة فقط من الكون. [1] [2]
من مجرتنا نحو العوالم الأخرى
قُدّرت المسافات إلى تلك المجرات عن طريق استخدام قانون هابل القائم على فكرة الإزاحة الحمراء حيث أن المجرات التي تَبعُد عنّا تُظهر أطيافًا تتزايد إزاحتُها نحو الأحمر كلما زاد ابتعادها عن الأرض، وتحدث هذه الظاهرة بسبب زيادة طول الموجة الكهرومغناطيسية القادمة إلينا من المجرة. تلك الزيادة تحدث نتيجة حركة النجم ابتعادًا عن الأرض؛ لذلك كانت الإزاحة الحمراء أداة دقيقة لوصف الكون ورسم بِنَى الكون بصورةٍ أكثر صحة، فعلى سبيل المثال تتكون الكوكبات النجمية التي تُزيّن السماء في أشكالٍ مميزة عرفتها البشرية منذ القدم لكن الإزاحة الحمراء تكشف لنا أن تلك المجموعات من النجوم ليست على نفس الاستقامة سوى بأعيننا لأن كل نجم بها يقع على مسافة مختلفة من الشمس. [3]
العناقيد المجرية
نميل نحن البشر لفكرة الصُحبة وقد يصعب على البعض العيش وحيدًا كذلك هي المجرات تميلُ دائمًا إلى التجمع معًا ولكن بتقنيات مختلفة لذا عُرف ما يُطلق عليه “العناقيد المجريّة” بالتالي يمكننا اعتبارها البِنيَة الأكبر. نجدُ أن العناقيد المجرية تنقسم إلى “عناقيد مجرية فقيرة” كتلك التي تقع بها مجرتنا درب التبانة وتعرف بـ “المجموعة المحلية” وهي عنقود صغير تظهر فيه درب التبانة وشقيقتها ” المرأة المُسلسة” أو أندروميدا M31 باعتبارهما المجرتين الأكبر بالمجموعة، القسم الآخر يُعرف بـ “العناقيد المجرية الثرية” كعنقود “العذراء المجرّي” الأقرب لنا من هذا النوع من العناقيد والذي يبعُد عنا نحو 59 مليون سنة ضوئية، ومع ذلك لا تمثل العناقيد المجرية أكبر ما يمكننا رؤيته من البِنى الكونية بفضل عمليات الرصد الحديثة التي أشارت بأن المجرات ليست موزعة في فقاقيع لكنها تتمثل أحيانًا في بِنَى مُسطّحة مثل تلك البنية المُسمّاة “السور العظيم” و”سور سلووان العظيم”. [4]
تُوضح الصورة خريطة الكون باستخدام مسح سلووان الرقمي للسماء تظهر الأرض في المنتصف وكل نقطة فيها تعبر عن مجرة مختلفة، ويشير اللون إلى قدر اللمعان، يتضح بالخريطة 66,976 من 205,443 مجرة تقع بالقرب من خط استواء الأرض أما الأجزاء الفارغة في الجانبين فتعبر عن المناطق المعتمة بسبب مجرتنا أو التي لم يتم تحديدها حتى الآن.
سور سلووان العظيم هو واحد من العناقيد المجرية الهائلة المُرشح كممثل لأكبر البنى الكونية في الكون. تم اكتشاف هذا السور عام 2003 عن طريق الفلكيين ريتشارد غوت وماريو جيورك باستخدام مسح سلووان الرقمي للسماء. ويبلغ طول هذا السور نحو 1,5 مليار سنة ضوئية ويقع تقريبًا على بُعد مليار سنة ضوئية من الأرض، لذا فهو يُمثل ثلاثة أضعاف “السور العظيم” الذي كان قد اكتشف قبله عن طريق الفلكيين مارجريت جيلير وجون هوتشر عام 1989 والذي يبلغ طوله نحو 500 مليون سنة ضوئية وعرضه 300 مليون سنة ضوئية ويملك سمكًا قدره 15 مليون سنة ضوئية. [5]
في وجود تلك التجمعات للعناقيد الهائلة من المجرات؛ يستحيل الجزم بأن المادة المرئية – العادية – التي تشكل خمسة بالمئة فقط من الكون هي المسؤولة الوحيدة عن تأثير الجذب المسؤول عن ربط تلك التجمعات الهائلة من المجرات ببعضها البعض.
شكلت تلك الفكرة لُغزًا كبيرًا للعلماء حتى عزي السبب لتلك المناطق الشاسعة من الفضاء الخاوي والتي عرفت فيما بعد بالمادة المظلمة.