هل أصبح القلق وباءً؟

Coping-With-Anxiety-and-Depression-722x406-e1542102140256

القلق|

بالطبع لم تتغير الطريقة التي تظهر بها أعراض اضطرابات القلق علينا بمرور الزمن، ومازلنا نتأثر بنفس أنماط اضطرابات القلق مثل أسلافنا، ولكن الأمور التي قد تثيرُ القلق لدينا حتمًا تغيرت. حتى الآن، مازلنا نواجه العديد من المسببِّات التقليدية للقلق مثل تدهور الصحة، وتوتر العلاقات، والبطالة، والفقر، والخسارة المادية، والوحدة أو العزلة، وضغوط العمل، والتعرض للعنف، والصدمة، والصراعات وغيرها.

وحتى في عصرنا الحديث، أصبحت بعض هذه المسببِّات التقليدية في تزايد؛ منها تزايد الشعور بالوحدة والانعزالية، وتوتر العلاقات المؤدي إلى الطلاق مثلًا، والعنف وإساءة المعاملة بما في ذلك الإساءة والإهمال في مراحل الطفولة المبكرة، وزيادة ساعات العمل والمزيد من ضغوط ومهام العمل المختلفة، والشعور بعدم القدرة على التحكم والتخطيط للمستقبل، وبالأخص الشباب الذين يواجهون احتمالات الفشل مبكرًا جدًا في حياتهم بسبب تزايد اختبارات الأنظمة التعليمية الحالية.

ولحسْن الحظ؛ بدأت بعض هذه الأسباب التقليدية للقلق في الاندثار بالنسبة للمجتمعات المتقدمة، عوامل مثل الفقر والصحة والبطالة (إلى حد ما) والتعايش مع الإعاقة طويلة المدى وضغوطِ البحث عن عمل ملائم في عصرنا الحديث. ولكن إضافة إلى ذلك، وفَّرت التكنولوجيا الحديثة بعض مصادر القلق الجديدة كليًّا للأجيال الحالية. منها مثلًا الاحتياج الدائم إلى تنفيذ مهام متعددة من نفس الشخص في وقت واحد خلال الأنشطة المختلفة، والأخبار المُستفزَّة لمشاعرنا والتي تُعرض علينا بانتظام من وقت لآخر، والانتشار المتزايد لسيناريوهات نهاية العالم المختلفة.

وقريبًا جدًّا ستصبحُ كل آلة أو ماكينة متطورة تعمل في منازلنا متصلة بالإنترنت، ما يؤدي بدوره إلى تصاعد المخاوف بشأن محاولات سرقات الهوية واختراق البيانات، والاحتيال الشبكي للحصول على المعلومات الشخصية الحسَّاسة، والتنمُّر الشبكي وغيرها. وحتى الحاسوب الشخصي، الذي أصبح لا غنى عنه يوميًا في حياتنا العصرية الحديثة، يجلب معه مشاكله التي تؤدي للقلق بدورها، أمور مثل تحطم القرْص الصلب، ونسيان كلمات السر والحماية، والإحباطات الناجمة عن خسائر الصفقات اليومية من خلاله والتي تحدث بسبب التباعد بين أطرافها، في حين أن كل ما يلزمه الأمر هو التحدث إلى شخص حقيقي.

يأتي فوق مشاكل الحاسوب اليومية مشكلة أكبر، وهي الاتصال الدائم والمستمر بين الأفراد والذي ترعاه شبكات التواصل الاجتماعي المعروفة.
يعود تاريخُ إنشاء أول مواقع تواصل اجتماعي معروفة عالميًّا إلى منتصف عام 1990، بالتالي يمكننا اعتبار معظم الشباب ممن هم دون العشرين حاليًا ضحايا لعنة وسائل التواصُل الاجتماعي. ويا لها من لعنة.

هناك دراسات حديثة ربطت استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ارتباطًا وثيقًا بما يُعرف بالرُّهاب الاجتماعي والعُزلة الاجتماعية، ويحدث ذلك عند مشاهدة مستوى معيشة الأغنياء مثلًا أو رؤية النجاحات الاجتماعية المختلفة لبعضِ الأشخاص المتميزين في مواقع التواصل المختلفة. ونتيجة لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي أصبح الشباب والمراهقين يقيسون نجاحهم الاجتماعي بزيادة أعداد أصدقائهم (رقميًّا فقط) على موقع فيس بوك مثلًا، وليس عدد الأصدقاء الأوفياء الحقيقين (الأوفياء هم من تجدهم بجانبك من الأصدقاء في أوقات الاحتياج والشدة).

وتكتمل هذه السلسلة من مسبِّبات القلق الحديثة بما يحدثُ حاليًا من تغيُّر تدريجي بمعرفة المجتمعات الحديثة عن القلق المحيط بهم. وهذا التغير كان يبدو متناقضًا في الرسالة التي يوجهها أفراد المجتمع إلينا. فقدْ قِيل لنا أن القلق عبارة عن استجابة طبيعية لضغوط الحياة المعاصرة التي نتعرضُ لها يوميًّا، وأيضًا أنه حالة رمزية ناتجة عن مدى انشغال الفرد ونجاحه من الناحية العملية. ولكن من ناحية أخرى يتردد على مسامعنا فى الآونة الأخيرة أقاويل بأن القلق هو عبارة عن اضطراب أو خلل بحاجة إلى العلاج.

وقد ازدهرت الوسائل التشخيصية للقلق خلال الثلاثين عامًا الماضية، وأصبحت الصناعة الدوائية في اهتمام غير مسبوق بتصنيف القلق على أنه حالة مَرَضِّية ومن ثم القيام بتصنيع وتوفير العلاج المناسب له. أما عن حملات التوعية باضطرابات الصحة النفسية مثل القلق، فهي في الحقيقة محاولاتٌ باسلة لمساعدتنا على التعرف على القلق وإيجاد طرق العلاج المناسبة له والحد منه.

ولا يمكننا بالطبع أن نتغاضى عن الانتشار المتزايد للقلق بيننا، والذى وصل إلى حد الوباء. تقريبًا (1) من كل (5) أشخاص يعانون بانتظام من مستويات مرتفعة من اضطرابات القلق ولا يوجد حتى الآن دليل واضح على ارتفاع أو انخفاض هذه النسبة على مدار الأعوام القريبة الماضية. لكن إذا افترضنا أن هذه النسبة ثابتة إلى الآن، وبما أن التعداد السكاني في تزايد مُستمر، فإن المزيد والمزيد من الأشخاص سوف يصبحون ضحية لاضطرابات القلق، وبالتالي يجب توعيتهم بشأنها للحد من انتشارها أو إيجاد الوسائل العلاجية المناسبة. ومن ناحية أخرى، هناك تقريبًا (2) من كل (5) أشخاص يتعرضون لاضطرابات قلق ولكن بمستويات منخفضة ونادرًا ما سيلجأون إلى العلاج منه إذا لم يواجهوا مواقف أو مصاعب حياتية تُصعد من حدة القلق لديهم.

وتستمر الأبحاث النفسية والاجتماعية يوميًّا في تطوير وسائل علاجية مختلفة للقلق، وأصبح لدينا الآن برامج متخصصة للتقويم السلوكي والإدراكى (Cognitive Behavioral Therapy) لعلاج معظم إن لم يكن كل اضطرابات القلق بأنواعها. إضافة إلى ذلك، أدى تزايد أشكال مدخل الـ(CBT) لاضطرابات الصحة العقلية والنفسية الشائعة مثل اضطرابات القلق إلى تطويرٍ إيجابي فعَّال لبعض البرامج العلاجية مثل المدخل التطوري للعلاج النفسي، والتقويم السلوكي والإدراكي بواسطة الحاسوب فى العديد من الدول المتقدمة لعلاج القلق، وأصبحت وسائل فعّالة يستطيع من خلالها من يعاني من اضطرابات القلق التعافي منها بسهولة.

لكن حتى مع نجاح وسائل العلاج النفسية المبنية على الاستدلال، وسبُل العلاج الدوائية المختلفة، لم نقترب إلى الآن من علاج نسبة (100%) ممن يعانون من اضطرابات القلق بأنواعه المختلفة مثل اضطراب الوسواس القهري، واضطراب القلق العام، والتي من الممكن أن تتطور لتصبح حالات مستعصية ومقاومة لكل وسائل العلاج النفسي الحالية.

ولكي نوسع نطاق الوسائل المتاحة للعلاج والتعافي منها، نحتاج إلى المزيد من الأبحاث فى مجال الصحة النفسية والعقلية الوقائية وبالطبع المزيد من التمويل البحثي لها. جدير بالذكر أنه يعتبر مستوى التمويل النقدي لهذا النوع من الأبحاث مثيرًا للشفقة بالمقارنة بما يتم توفيره لدعم الأبحاث في المجالات الطبية الأخرى، ومما يثير الجدل أن جزءً كبيرًا من التمويل البحثي المتاح يذهب إلى طب وعلوم الأعصاب بدلًا من أبحاث العلوم النفسية والعقلية، والتي نحتاج إليها لتطوير وسائل علاجية أكثر تأثيرًا وأكثر اعتمادًا على الاستدلال.

يبقى السؤال إذًا، هل يجب اعتبار القلق وباءً؟

لم تعد تشير التعريفات الحديثة لمصطلح (وباء) إلى الأمراض على أنها حالة طوارئ أو أمر كارثي يجب تدبره، ولكنها تشير حاليًا إلى أي شيء من الممكن أن يؤثر بطريقة سلبية على صحة الأفراد وسعادتهم. واحد من كل خمسة أشخاص بالمملكة المتحدة فقط يعاني من مستويات قلق مرتفعة في النوبة الواحدة. واحد من كل تسعة أشخاص في العالم يمر باضطرابات القلق ولكن بمستويات منخفضة في العام الواحد. يحولُ القلق دون ممارسة وظيفتك أو التعلم أو أداء مسؤولياتك بكفاءة تجاه أسرتك والمجتمع. ويمكن للقلق أن يقتل، حتى المستويات دون المَرضيَّة منه بإمكانها زيادة معدلات الوفيات إلى (20%) من السكان.

لذا تكون الإجابة نعم، لدينا وباءٌ منتشر بيننا اسمه اضطراب القلق، ولكنه ليس شيئًا جديدًا لأنه كان منتشرًا أيضًا بين الأجيال السابقة، الاختلاف هنا أنه في عصرنا الحديث لدينا تشكيلة متنوعة من أنواع القلق الجديدة والمستحدثة، وفي المقابل لدينا وعي غير متنامٍ به على أنه حالة بإمكانها مضايقتنا وإعاقتُنا على المدى البعيد. سوف نحتاج إلى أن نرتقي لمواجهة التحديات المعاصرة والمعاناة التي تحتويها، وأن نتعامل مع الخسائر المادية التي يكبدنا إياها القلق، وأن نساهم في تطوير وسائل حديثة مبنية على الاستدلال وأكثر كفاءة وتأثيرًا في علاج اضطرابات القلق والوقاية منه، وإتاحة مستوى حقيقي من الدعم المادي لخدمات وأبحاث وبرامج الصحة النفسية والعقلية.

 

ترجمة : أحمد فارس
مراجعة علمية: ماريا عبد المسيح
مراجعة لغويّة: حمزة مطالقة
تحرير: نسمة محمود

المصدر

 

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي