وتستمر الميونات في إساءة التصرف! أثبتت دراسات سابقة تم إجراءها في الولايات المتحدة الأمريكية أن الميونات -وهي جسيمات قريبة من الإلكترون، غير مستقرة، ولها كتلة عالية نسبيًا- ولها عزم مغناطيسي أكبر من المتوقع، وإن كانت هذه النتائج صحيحة حقًا، قد يؤدي هذا إلى تغييرات جذرية في الفيزياء النظرية، ويكشف الستار عن وجود جسيمات أولية جديدة تمامًا.
التعاون البحثي ميون g-2 في معمل فرمي الوطني للمسرعات – FermiLab، قد أعلن عن نتائج آخر التجارب له في بث عن طريق تطبيق Zoom وكذلك تم نشرها في مقالات في مجلة Physical Review[1] ، والنتائج “تشجع بشدة هؤلاء الذين يريدون اكتشاف جسيمات أولية جديدة” كما تقول سوزن جاردنر – Susan Gardner عالمة الفيزياء بجامعة كنتاكي لكسينجتون.
وميون g-2 (وتُقرأ جي ناقص اثنين) لمَّحت إلى وجود خَطبٍ ما حول الميونات في عام 2001[2] عندما خرجت نتائج تجارب مختبر برووك هافين، حيث حول العزم المغناطيسي للميون، والعزم المغناطيسي هي الخاصية التي تجعل الميون يتفاعل كأنه قطعة مغناطيس صغيرة، والنموذج العياري لفيزياء الجسيمات ينص على أنه وعند استخدام الوحدات الصحيحة، فإن العزم المغناطيسي للميون لا بد ان يكون رقم قريب جدًا إلى ال2 ولكن لا يساويها. وتجربة معمل بروكهيفن قامت بقياس هذا الفارق (فارق مقدار العزم اللمغناطيسي للميون عن ال2) فوجدت أنه أكبر بقليل مما توقعه الفيزيائيون النظريون.
ويُعَزَّزُ العزم المغناطيسي للجسيمات الأولية بمجموعة من الجسيمات الافتراضية التي تظهر باستمرار من العدم لتختفي مرة أخرى بعد أجزاء صغيرة من الثانية، وقد قام الفيزيائيون بمجموعة من الحسابات الطويلة المفصلة، لحساب المساهمات من كل أنواع الجسيمات في قيمة g-2 للميون، بحيث إن اختلفت القيمة المقاسة عمليًا عن القيمة التي تم حسابها، فإن هذا قد يكون بسبب أن هناك جسيمات أخرى مجهولة موجودة في الفراغ بشكل خفي، وهكذا فإن نتائج تجربة g-2 جعلت العديد من الفيزيائيين يأملون بأن أنواع جديدة من الجسيمات قد تُكتشف عما قريب.
التردد السري
ولتتحقق من نتائج تجربة بروكهيفين، قام العلماء في معمل فرمي بتجربة، حيث جعلوا الميونات تجري في دائرة حول مغناطيس فائق التوصيل نصف قطره 15 مترًا، وقد بدأ العلماء بجمع المعلومات من عام 2018، وقد قدموا لنا الآن نتائج أول عام من التشغيل في السابع من إبريل عام 2021.
ولتجنب التحيز في عملية معالجة البيانات، قام الفريق البحثي بإعماء نفسه عن عامل أساسي ومهم لحساب ثابت g-2 وهو تردد الساعة الرقمية الموجودة في أجهزتهم، حيث استأمنوا اثنين من علماء معمل فرمي من غير أعضاء الفريق البحثي. ونتيجة إلى ذلك، فإن الفريق البحثي أصبح بإمكانه في بادئ الأمر القيام بحسابات طويلة وتمثيل البيانات في رسوم بيانية ذات محاور مجهولة المقياس.
وفي الخامس والعشرين من فبراير الماضي، وفي مؤتمر عن طريق الإنترنت حضره معظم العلماء المائتان في الفريق البحثي، قام اثنان من الأعضاء القيادين في الفريق البحثي بفتح ظرف احتوى على التردد السري للساعة الرقمية، وبمجرد إدخال هذه القيمة في حواسيبهم، قامت الحواسيب بإظهار القيمة الحقيقية للثابت g-2، وقد كان من الواضح مباشرةً أن نتائج هذه التجربة ، متماشية تمامًا مع نتائج تجربة بروكهيفن من عشرين سنة مضت.
وقد عبر ليي روبرتس – Lee Roberts العالم بجامعة بوسطن بماساتشوستس وأحد أعضاء الفريق البحثي عن هذه اللحظة قائلًا “التوافق بين نتائج التجريتين رائع، والناس كانوا يصفقون ويقفزون بقدر ما يمكنهم القيام بذلك على تطبيق zoom، وقد أثبتت النتيجة ادعاء التجربة الأصلية”.
وأضاف جينو إيسيدوري – Gino Isidori العالم في جامعة زيوريخ ، بسويسرا: “على الرغم من اتساع الفجوة بين النتائج النظرية والعملية من خلال الدلالات الإحصائية، فإنه لا يوجد دليل قاطع إلى الآن على وجود جسيمات أخرى، ولذلك فإن المتشككين سيظلون في الغالب متشككين، وفي هذه المرحلة، فإن الكرة في ملعب الفيزيائيين النظريين”.
حسابات الكواركات
التوقع المقبول على نطاق واسع للعزم المغناطيسي للميون هو عبارة عن رقم نشره المجتمع الفيزيائي النظري في العام الماضي في ورقة بحثية مُتفقٌ عليها.[3] ولكن دراسة أخرى نشرت في السابع من إبريل من هذا العام في مجلة Nature[4] تقترح أن الفجوة بين النتائج النظرية والعملية قد لا تكون بهذا الحجم الذي كنا نعتقد.
والجزء الأصعب في الحسابات النظرية، هو حساب مساهمة الكواركات في قيمة الثابت g-2، الأمر الذي جعل الفيزيائيين يكملون حساباتهم ببيانات من تجارب المصادمات.
وفي الدراسة المنشورة في مجلة Nature، قام زولتان فودور – Zoltan Fodor وفريقه بإعادة حساب مساهمة الكواركات في قيمة g-2 بتقنية محاكاة الديناميكا اللونية الكمية الشبكية – Lattice Quantum Chromodynamics، وتختصر إلى Lattice QCD، وهذه التقنية لم يتم استخدامها من قبل في التوقع بقيمة الثابت g-2 لأنها ليست مطورة بما فيه الكفاية لإعطاء نتائج عالية الدقة. لكن فودور وفريقه عملوا على زيادة دقة التقنية، ليجدوا أن قيمة الثابت g-2 أكبر من القيمة المتفق عليها وأقرب إلى القيمة العملية ، وأضافت عايدة الخضرا – Aida El-Khadra عالمة الفيزياء النظرية في جامعة إلينوي: “إن فرق بحثية أخرى تعمل باستخدام تقنية Lattice QCD بنفس الدقة لمحاولة الوصول إلى قمية نظرية متفق عليها جديدة للثابت g-2، والفرق الأخرى ما زالت تعمل على تقليل نسبة الخطأ في حساباتهم، الأمر الذي يتطلب موارد حسابية ضخمة”.
تحديث الفيزياء
فريق ميون g-2 منشغلٌ في هذه الأثناء في معالجة البيانات التي تم جمعها حديثًا بالإضافة إلى جمع المزيد من البيانات، ويتوقع الباحثون أن دقة قياساتهم ستزيد أربعة أضعاف، وإذا تبين أن التعارض بين النتائج العملية والنظرية حقيقي، فإن هذا سيعني أن النموذج العياري لا بد من تحديثه ليشمل جسيمات جديدة.
ولكن المعضلة هي أنه ومنذ العام 2001، فإن العديد من الجسيمات الأولية والتي كانت لتزيد من العزم المغناطيسي للميون، تم استبعاد احتاملية وجودها في تجارب أخرى، معظمها في مصادم الهادرونات الكبير بجنيفا، سويسرا.
العديد من النظريات التي يمكن أن تفسر نتائج تجربة ميون g-2 لازالت قائمة، لكن الباحثين يرون أن هذه النظريات مُختلَقة. ويقول دومينيك شتوكنجر – Dominik Stöckinger الفيزيائي النظري في جامعة دريسدن بألمانيا وأحد أعضاء فريق ميون g-2 حول هذا السياق: “بالنسبة لي، لا يوجد تفسير واحد يبرز على أنه أكثر أناقة وإقناعًا من أي تفسير آخر”.
وقد اجتاز النموذج العياري كل الاختبارات بنجاح، واستمر بدون تغيير ملحوظ منذ أن تم وضعه في سبعينيات القرن الماضي، ولكن الفيزيائيين مقتنعون بأن هذا النموذج العياري لا بد أنه غير كامل بعد، والبعض يأمل بأن يكشف الميون الستار عن أول إخفاق له منذ 50 عامًا.