هل العيش في الأماكن المكتظة يدفع الناس للجنون؟
أداة تنظيرية جديدة، تُدعى بنظرية تاريخ الحياة، توفر لنا إجابة!
قد تعتقد بأن الإجابة هي “نعم”، العيش في الأماكن المكتظة يدفع الناس دفعًا للجنون. ومَرَد اعتقادك بذلك قد يكون لبعض الفئران تعيسة الحظ.
في الستينيات من القرن الماضي، أراد أخصائي السلوك جون كالهون (John Calhoun)، أن يرى كيف من الممكن أن يؤثر الاكتظاظ على السلوك الاجتماعي للفئران. فوضع الفئران في مكان مغلق وسمح لهم بالتكاثر، دون تحكم يُذكَر. بدت النتائج وكأنها مشهد من إحدى أفلام الرعب، حيث أكلت الفئران لحوم بعضها البعض، ومات الكثير من الرضع، وكانت النتيجة النهائية فوضى اجتماعية كاملة، وهذا مجرد غيض من فيض.
حبست فئران كالهون أنفاس العديد من الناس، وألهمت موجة بحثية حول الآثار النفسية للاكتظاظ علينا كبشر. وجدت بعض الدراسات أن من يعيشون في بيئات مزدحمة أظهروا عددًا من الأمراض الاجتماعية، مثلهم مثل فئران كالهون. ولكن دراسات أخرى لم تظهر شيئًا. وقد توصلت نتائج البحث المبكرة إلى أن المخاوف الشعبية من الاكتظاظ السكاني قد تكون بلا أساس علمي.
اليوم، وقد مرت نصف قرن، وتضاعف التعداد العالمي للسكان، اختفت كل الأبحاث حول الآثار النفسية للاكتظاظ السكاني. نعيد فتح ذلك الموضوع القديم في ورقتنا البحثية الأخيرة، ولكن هذه المرة بأداة تنظيرية جديدة، ألا وهي نظرية تاريخ الحياة.
وهي نظرية تعني بالكيفية التي تخصص بها كل الحيوانات وقتها وطاقتها المحدودتين عبر مهام الحياة المختلفة، كالنمو، والتزاوج، والأبوة. وتشير النظرية إلى أن من الممكن أن تساهم جوانب من البيئة في تشكيل تلك الاختيارات التخصيصية.
ما علاقة ذلك بالكثافة السكانية؟ نتبين ذلك حين نعرف أن أحد الأفكار المبكرة لنظرية تاريخ الحياة، هي أن البيئات ذات الكثافة المنخفضة – حيث يتواجد القليل من الأفراد – تميل لتفضيل الكائنات الحية التي تتبنى نمطًا “سريعًا” من أنماط تاريخ الحياة. تلك الاستراتيجية تركز على الإنجاب السريع، والحصول على العديد من النسل، ولكن بقليل من الاستثمار في كل واحد منهم. باختصار، فإن تلك الاستراتيجية تركز على الحاضر، وتعلي “الكم على الكيف”.
لكن الأمور تختلف حين تزدحم البيئة، حيث يكون هناك تنافس اجتماعي حاد للحصول على الموارد والأراضي. لضمان النجاح في المنافسة هنا، يحتاج الأفراد لصرف المزيد من الوقت والجهد لبناء أنفسهم وقدراتهم. مما يؤدي في الأغلب إلى تأخر في الإنجاب. إذن في البيئة المكتظة، يواجه نسل الفرد أيضًا منافسة اجتماعية عليا. فيبدو الأفضل تركيز الوقت والجهد على عدد قليل من النسل (بهدف زيادة مؤهلاتهم وقدراتهم التنافسية)، بدلًا من توزيع الموارد على العديد منهم.
يشار إلى تلك الاستراتيجية على أنها استراتيجية تاريخ الحياة “البطيئة”، والتي تعطي الأولوية “للكيف على الكم”. تتضمن تلك الاستراتيجية أيضًا خصائص نفسية المستعدة للتخطيط للمستقبل، بسبب حاجة الفرد لبناء قدراته على مدار الوقت.
وبذلك، يكون سؤالنا بسيطًا، هل ستؤدي الكثافة السكانية العالية الناس لتبني تاريخ حياة أبطأ؟
اختبرنا تلك الفكرة بالعديد من الطرق. في البداية جمعنا معلومات حول مدى الكثافات السكانية في البلاد، وكذلك عددًا من الخصائص النفسية والسلوكية المرتبطة بتاريخ الحياة. وأعدنا الكَرَة مع الولايات المتحدة الخمسين، حيث كانت المعلومات المعادلة لما نبحث عنه متوافرة.
وجدنا عبر البلدان وعبر الولايات الأمريكية، أن الأفراد في المناطق ذات الكثافة السكانية العالمية يميلون لإظهار خصائص مرتبطة بمن يوجدون في نمط أبطأ من تاريخ الحياة. وقد كانوا أكثر قابلية للتخطيط للمستقبل، وفضلوا العلاقات الرومانسية طويلة الأجل، وقد تزوجوا فيما بعد، وأنجبوا عددًا أقل من الأطفال، وكانوا كذلك أكثر قابلية للاستثمار في تعليم أنفسهم وأطفالهم. وقد استمرت تلك العلاقات مع الأخذ في الاعتبار بعوامل أخرى، كالنمو الاقتصادي والتمدن.
لكي نرى إذا ما كانت هناك آثار مشابهة في العلاقات قصيرة الأجل، أجرينا تجارب شارك في إحداها طلبة (نحو 18 عامًا من العمر) وبالغين في أواخر العشرينيات. طُلب منهم قراءة مقالة عن زيادة التعداد السكاني في الولايات المتحدة. ثم طُلب منهم أن يتحدثوا عن علاقاتهم الرومانسية والحجم الذي يفضلونه للعائلة. قد تبين أن الطلبة الذين قرأوا المقالة المذكورة فضلوا أن يلتزموا بالقليل من العلاقات العاطفية (بدلًا من العديد من العلاقات السطحية). أما البالغين الذين قرأوا نفس المقالة، فقد فضلوا أن ينجبوا عددًا أقل من الأطفال وأن يزيدوا من استثمارهم في كل طفل (بدلًا من الاستثمار الأقل في العديد من الأطفال).
من هنا يتبين لنا أن الأفراد الذين تفكروا حول الزيادة السكانية فضلوا تاريخ حياة أبطأ، تتسم بتفضيل “الكيف على الكم”.
للكثير منا آراؤه حول آثار الاكتظاظ السكاني. فبالتالي من المفيد طرح بعض الأسئلة. أولًا، هل تؤدي الكثافات السكانية العليا دائمًا لتاريخ حياة أبطأ؟ لا. ففي الحقيقة، حين ترتبط الكثافات العالية بالوفيات غير المتوقعة أو الأمراض، تتنبأ نظرية تاريخ الحياة بأن نمطًا أسرع سيتدخل ليأخذ مساره.
هناك اعتبار نقدي آخر لطبيعة التنافس الاجتماعي. فافتراض أن البشر يتنافسون على الموارد عبر بناء مواهبهم وقدراتهم فحسب (أي عبر التعلم واكتساب الخبرات)، ليس هو الحال على الدوام. حيث نشاهد أنه في البيئات التي يرتبط فيها التنافس بالعنف المميت، يكون من الممكن توقع أن تؤدي الكثافات السكانية العليا لنمط أسرع من تاريخ الحياة مجددًا.
هناك العديد من الأسئلة غير المجاب عنها حول الكثافة. نظرًا لذلك الاعتبار الهام، يظهر عملنا الحالي طريقة جديدة للتفكير حول تلك القضية ،من أجل فهم الآثار النفسية للكثافة السكانية. بالإضافة إلى ذلك، هي تسلط الضوء أيضًا على الكيفية التي من الممكن أن تساهم بها الكثافة السكانية كعامل أساسي لفهم الاختلافات النفسية فيما بين المجتمعات، والجماعات البشرية بشكل عام. لدينا أمل بأن ذلك العمل سيولد اهتمامًا تجديديًا في دراسة الآثار النفسية للكثافة السكانية.
في النهاية، نتوصل إلى أن الحياة المكتظة تؤدي بالناس قليلًا نحو الجنون – ولكن ليس بالشكل الديستوبي البائس الذي نتوقعه من تجربة فئران كالهون. بدلًا من ذلك، هي تجعل الناس مهووسين بالتخطيط للمستقبل، والحصول على تعليم جيد، وانتظار الشريك العاطفي المثالي، واستثمار كل ما في إمكاناتهم على ذلك الطفل الواحد الذي سيكون مصدر فخرهم وعزهم.
المصادر:
[1] http://sc.egyres.com/3cNVZ
[2] http://sc.egyres.com/QnYih
[3] http://sc.egyres.com/n5YFY
[4] http://sc.egyres.com/lIamc
[5] http://sc.egyres.com/WoMLg
إعداد: هشام كامل
مراجعة علمية: إسلام سامي
مراجعة لغوية: ريما رباح
تحرير: يُمنى أكرم