مقدمة
إن الإجابة عن هذا السؤال شائقةٌ حقًا وأحد ألغاز الفيزياء الحديثة، وهي تعتمد على مدى استيعاب المرء للتحليل الإحصائي للتجارب المعقدة. فعلى الرغم من أن النتائج التجريبية قد تكون بمثابة علامة مبكرة على حدثٍ كبيرٍ، فإننا لابد من أن نتوخى الحذر والتأني في الحكم. لذا، ما الذي حدث بالضبط؟
الأمر برمته بدء بإعلان مجموعة من العلماء عن نتائج دراستهم[1] لأحد الأجسام دون الذرية والذي يسمى (نيوترينو -neutrino)، والتي من الممكن أن يكون لها تأثيرٌ كبيرٌ؛ كبير بما يكفي للإجابة على السؤال الفيزيائي الفلسفي «لماذا توجد أشياء بدلًا من عدم وجودها؟». ولفَهم مدى تأثير تلك الدراسة دعونا نأخذ خطوات قليلة إلى الوراء في تاريخ الفيزياء النظرية.
المادة والمادة المضادة
معادلة أينشتاين الأكثر شهرةً E = m×C2 تٌفْهَم في كثير من الأحيان بأنه يمكننا تحويل الطاقة إلى مادة والعكس. والحقيقة أن المعادلة أكثر دقةً من هذا الوصف، فالمعادلة تنص على أن الطاقة يمكنها أن تتحول إلى مادة ومادة مضادة بنفس القدر. والمادة المضادة هي ابن عمٍ للمادة العادية، مضادٌ لها في الخصائص، وإذا التقت المادة والمادة المضادة، فسينتجان مقدارًا هائلًا من الطاقة. وأما المادة المضادة فتنبأ بها العلماء في العام 1929، واُكتُشِفت معمليًا في العام 1931.
عندما ندمِج نظرية الانفجار العظيم بفكرة المادة المضادة، فإن الأمور تصير غريبةً بعض الشيء. وتنص نظرية الانفجار العظيم على أن الكون كان صغير الحجم جدًا، وأسخن بكثير، ومليئًا بالطاقة، وبمجرد تمدده (حدث الانفجار العظيم) فإن كمية كبيرة من الطاقة تحولت إلى كميات متساوية من المادة والمادة المضادة. على الرغم من ذلك، فإننا نرى المادة في كل مكان حولنا، أما المادة المضادة فهي تكاد أن لا ترى في أي من أرجاء الكون الشاسع. لذا فالسؤال هنا هو: أين ذهبت المادة المضادة؟!
إن هذا السؤال هو واحد من أكبر ألغاز الفيزياء الحديثة في عصرنا والإجابة عليه غير معلومة بعد. لابد أن شيئًا ما قد حدث في الثوان الأولى عقب الانفجار العظيم أدى إلى اختفاء المادة المضادة. وتخبرنا قياساتنا للإشعاع البدائي للانفجار العظيم (أو ما يعرف بإشعاع الخلفية الكونية الميكروي – Cosmic Microwave Background Radiation) فلكل 3 مليارات جسيم مادة مضادة، لا بد من وجود 3 مليارات وواحد جسيم مادة اعتيادية. ولكل مجموعة مكونة من زوج من 3 مليارات مادة اعتيادية ومادة مضادة، يُحدثا اتحاد المادة والمادة المضادة منتجة بذلك كمية كبيرة من الطاقة، وهي التي نرصدها باستخدام قياسات كمية الإشعاع البدائي للانفجار العظيم. أما مجموعة الجسيمات الاعتيادية المتبقية التي لم تفنى، فهي التي كونت النجوم والمجرات فيما بعد والتي نراها الآن باستخدام التلسكوبات التي لدينا. ولتحقق ذلك التفسير، لا بد من وجود نوع من العمليات الفيزيائية التي تفضل المادة عن المادة المضادة.
تفضيل المادة على المادة المضادة
بينما تخبرنا نظرية أينشتاين للنسبية أن المادة والمادة المضادة لا بد من وجودِهما بنفس الكمية، إلا أنه في العام 1964 وجد مجموعة من العلماء مجموعة من الجسيمات دون الذرية تعرف باسم الكواركات التي تفضل المادة على المادة المضادة بعض الشيء. والكواركات هذه هي جسيمات دون الذرة تجدها داخل البروتونات النيوترونات الموجودة في نواة الذرة. على الرغم من أن ملاحظة تفضيل الكواركات للجسيمات على الجسيمات المضادة هو أمرٌ مهم، فإن ذلك التفضيل ضئيلٌ جدًا لتفسير سيادة المادة في الكون.
ولهذا السبب، اقترح العلماء أن سبب عدم التماثل بين المادة والمادة المضادة يرجع إلى نوع من الجسيمات يعرف باللبتونات – Leptons والإلكترونات هي من أشهر أمثلة اللبتونات. وعدم التناسق بين المادة والمادة المضادة في اللبتونات لم تُدرس دراسة كافية إلى الآن، بالأخص فيما يتعلق بجسيم يدعى بـ(لنيوترينو – Neutrino). والنيوترينو هو جسيم دون ذري يتفاعل تفاعلًا ضعيفًا جدًا مع المادة، حيثُ يمكنه اختراق معظم الأجسام دون التفاعل معها. والنيوترينو يُنتج بشكل أساسي في المفاعلات النووية، وتعد الشمس أكبر مفاعلٍ نووي في المجموعة الشمسية. والنيوترينوات القادمة من الشمس يمكنها أن تعبر من خلال الأرض دون التفاعل معها مطلقًا! كما أنها تنقسم إلى ثلاثة أنواع: شبيهة الإلكترون، وشبيهة الميون، وشبيهة التاو.
والنيوترينوات تتصف بصفة عجيبة أخرى وهي أن لها القدرة على التبديل اللحظي بين أنواعها الثلاثة. لذا فإن النيوترينو شبيه الميون يمكنه أن يتحول إلى النيوترينو شبيه الإلكترون، ثم يتحول إلى شبيه التاو ثم يعود فيتحول إلى النيوترينو شبيه الميون فيما يعرف باسم ظاهرة (تذبذب النيوترينو – Neutrino oscillation). والتي أُعلِن عنها نهائيًا في عام 1998.
تجربة T2K
كلًا من النيوترينو والنيوترينو المضاد موجود وتحدث له ظاهرة تذبذب النيوترينو. وإحدى الطرق التي يمكننا بها تفسير سيادة المادة في الكون هي إثبات أن النيوترينوات تتذبذب تذبذبًا مختلفًا عن النيوترينوات المضادة؛ وهو الأمر الذي أعلنت عنه تلك المجموعة من العلماء في طوكيو[1]. والعملية التي تربط اختلاف كيفية التذبذب بين اللبتونات واللبتونات المضادة تسمى بعملية (تخليق اللبتونات – Leptogenesis) وهي عملية معقدة بعض الشيء، ولربما تطرقنا إليها في إحدى المقالات المستقبلية.
وفي تلك الدراسة استخدم العلماء مسارع جسيمات في طوكيو لإرسال شعاع من النيوترينوات من نوع الميو تحت سطح الأرض إلى كاشف عملاق موجود في مدينة كاميوكا كما هو مبين بالصورة.
والتجربة تسمى T2K التي تعني (من اليابان إلى كاميوكا – Tokai to Kamioka). وهذه التجربة أعلنت عن قياسٍ واضحٍ لكن غير حاسم على وجود اختلاف في طريقة التذبذب بين النيوترينوات والنيوترينوات المضادة. في هذه الأثناء يحاول العلماء في طوكيو للوصول إلى قياس أكثر وضوحًا لهذا الاختلاف. وفي الوقت ذاته، هناك تجارب أخرى في أماكن مختلفة من العالم تجري للتأكد من صحة هذا الاختلاف. ففي معمل فرمي بالولايات المتحدة الأمريكية (هو واحد من أكبر معامل فيزياء الجسيمات في العالم) صمم العلماء تجربة تسمى NOvA التي تهدف أيضًا إلى قياس خواص التذبذب للنيترينوات والنيوترينوات المضادة. وعلى الرغم من أن المنشأتين قد يبدوان للجمهور على أنهما متنافستان، فإنهما وفي هذه الأثناء يبحثان كيفية توحيد جهودهما للوصول إلى الدقة الكافية التي تؤكد لنا وجود الاختلاف في طريقة التذبذب بين اللبتونات واليبتونات المضادة من عدمه.
كما أن معمل فرمي يبني في الوقت ذاته تجربة جديدة من أشعة النيوترينو تسمى بـDUNE (تجربة النيوترينو في أعماق الأرض – Deep Underground Neutrino Experiment)، التي ستتمكن من دراسة تذبذبات نيوترينوات المادة والمادة المضادة بدقة أكبر بكثير. وقد أصدرت DUNE أول نتائجها في الشهر الماضي.[2]
إن من المبكر جدًا القول بإن تجربة T2K قد أثبتت إِثباتًا قاطعًا وجودَ اختلاف بين تذبذب النيوترينوات والنيوترينوات المضادة وبالتالي وجود تفسير لسبب وجود مادة في الكون بدلًا من العدم، ولكن احتمالية أن تكون هي العلامة الأولى كبيرة وشائقة.ولطالما كان سؤال سبب وجود مادة في الكون أحد ألغاز الفيزياء الحديثة، الذي يبدو أنه على وشك أن يُحل.
2 Responses
المادة العادية تساوي النصف والمادة المضادة تقترب من النصف كما في فرضية ريمان،والفرق بينهما هو المادة الموجودة الحالية في الكون