هل علم النَّفس علم حقيقي؟ 5 معايير أساسية تحدد الإجابة

هل علم النَّفس علم حقيقي؟ هل هو مهم حقًا؟
  1. ينزعجُ الكثير من الأشخاص من ادِّعاءات أن علم النَّفس ليس علمًا حقيقيًا، حيث ادّعى ذلك عددٌ من الأشخاص فيما مضى. ومن ذلك مقالة قصيرة استفزازيَّة كتبها «أليكس بيريزو» عالم الميكروبيولوجيا في صحيفة لوس أنجلوس تايمز، جادَل فيها أن علم النَّفس ليس علمًا حقيقيًّا. دعونا نلقي نظرة على ادّعاء «بيريزو» ونفنِّده.

علم النَّفس ليس علمًا

من خلال المقال، يمكننا القول بأن تعريف «بيريزو» للعلم لا يُعتبر بعيدًا عن الصواب، ولكنه أيضًا ناقصٌ وضيِّقٌ للغاية. إن انتقاد علم النَّفس بأنه يَفتقر إلى الدِّقّة ليس بالأمر الجديد، فقد كان الناس يتجادلون لسنوات بشأن التّخمينات الضَّعيفة في مجالات مثل علم النَّفس التطوريّ، وقصور التّصوير بالرنين المغناطيسيّ الوظيفيّ (Functional Magnetic Resonance Imaging – FMRI).

صورة للمخ باستخدام تصوير الرنين المغناطيسيّ الوظيفيّ
صورة للمخ باستخدام تصوير الرنين المغناطيسيّ الوظيفيّ

وتتفاقم المشكلة بسبب عدد من الكتب العلميَّة الشعبيَّة التي تزعم باستخدامها علم النَّفس التطوريّ، وأنواع أُخرى من علم النَّفس لتفسير السلوك البشريّ. كما إن صورة المجال تلوثها نزاعات بارزة ودراسات غير دقيقة غير قابلة للتكرار، ولكن ليس من العدل أن تُمحى الرسالة لعدم وجود رسول مناسب.

كما وُجِّهَتْ نفسُ الانتقادات إلى علوم اجتماعيَّة أُخرى، بما في ذلك الاقتصاد وعلم الاجتماع، ورغم ذلك فإن المناقشة في الاقتصاد لا تبدو مدفوعة بالحقد بقدر ما تبدو في علم النَّفس.

إن قلبَ حُجَّة «بيريزو» هو فقر علم النَّفس من الناحية الكميَّة، وندرة المصطلحات الدّقيقة، ويُشير إلى البحث في مجالات مثل السَّعادة التي تكون فيها التّعريفات ليست صارمة ولا موضوعيَّة، والبيانات لا يُمكن قياسها كمِّيًا.

إن أبحاث السَّعادة تُشكِّل مثالًا عظيمًا عن السَّبب الذي يجعل علم النَّفس ليس علمًا. فكيف يمكن تعريف السَّعادة بالضبط؟ يختلف معنى هذه الكلمة من شخص إلى آخر ولا سيَّما بين الثقافات، إن ما يجعل الأمريكيين سعداءَ لا يُسعد الصينيين بالضرورة. فكيف نَقيس السَّعادة؟ لا يستطيع علماء النفس استخدام مِسْطَرة أو مِجْهَر، لذا فإنهم يخترعون مقياسًا اعتباطيًّا، اليوم، أنا -شخصيًّا- أشعر أني 3.7 من 5. وأنت ماذا عنك؟

علوم أم لا؟

هذا صحيح تمامًا، ولكن هل تعلم ما هي المجالات الأُخرى التي تعاني من الافتقار إلى التّعريفات الدقيقة؟ مجالي الخاص -الكيمياء واكتشاف الدَّواء- على سبيل المثال؛ كان هناك نقاشٌ طويل المدى في مجالنا حول كيفيَّة تعريف جزيء بأنه شبيه بالعقاقير (Druglike)، وهو أي مركب كيميائيّ من المُرجح أن يعمل كدواء.

إن عدد تعريفات الـ«شبيه بالعقاقير» التي انتشرت على مرِّ السنين كافٍ لملء دليل هاتف، ومن المُحتمل أن تستمر المناقشة لوقت طويل. ورُغم هذا، فلا يستطيع أحد إنكار أن العمل على مركبات أشباه العقاقير يُشكِّل علمًا، والحقيقة أن علماء الكيمياء يستخدمون القواعد الإرشاديَّة لصنع جزيئات أشباه العقاقير طوال الوقت وهم يعملون.

ولماذا باﻷساس نتحدث عن مركبات أشباه العقاقير، في حين أنّ الكيمياء كلَّها في بعض الأحيان تُعتبر غير منضبطة وغير علميَّة بما فيه الكفاية من قبل علماء الفيزياء. فهناك عدَّة مفاهيم في الكيمياء -كالعطريَّة، وخاصيَّة كره الماء، وقابليَّة الاستقطاب، والتنوُّع الكيميائيّ- تخضع لعِدّة تعريفات غير قابلة للقياس على نحو صارم، ورُغم هذا، لا ينكر أحد -ربما باستثناء بعض علماء الفيزياء- أنًّ الكيمياء علم.

رسمٌ كاريكاتيريٌّ يسخر من الاتّهامات الموجّهة لبعض العلوم بقلّة الدقَّة والانضباط (حقوقُ الملكيَّة: XKCD)
رسمٌ كاريكاتيريٌّ يسخر من الاتّهامات الموجّهة لبعض العلوم بقلّة الدقَّة والانضباط (حقوقُ الملكيَّة: XKCD)

ولكن على الجانب الآخر، لنعترف أن التَّعريفات الكيميائيَّة أكثر دِقَّة وقابليَّة للقياس من تعريفات السَّعادة والرِّضا. ولكن النُّقطة المهمة هنا هي أن ليس كل شيءٍ قابلٍ للقياس لا بد أن تصل دقّة قياسه إلى الواحد في المليون لكي نصفه بالعلميّ! ما يهمُّ هو إذا ما كان بإمكاننا التوصُّل إلى تعريفات متّسقة وقابلة للقياس بشكل جزئي على اﻷقل، بما يؤهل لإجراء توقُّعات قابلة للاختبار. فالبحوث النَّفسيّة لا تكون مفيدة فقط عندما تكون قابلة للقياس، بل عندما تقول شيئًا قابلًا للتعميم وكاشفًا عن الطَّبيعة البشريَّة.

منذ أيام قليلة، شاهدت فيلمًا جديدًا عن حياة عالمة النَّفس والمُفكِّرة السياسيَّة «حنة آرنت» وتفكَّرتُ في مفهوم «تفاهة الشَّر» الذي اْشْتُهِرَتْ به آرنت. لا تعد تفاهة الشر قابلة للقياس بصرامة مثل كميَّة الحركة الزاوية للاعبي التزلج الفنِّي على الجليد، ورُغم ذلك قلّ من ينكر أن آرنت قدًّمت إسهامًا بالغ القيمة في العلوم الاجتماعيَّة. وقد نجحت هذه المساهَمَة لأنها كانت قابلة للاختبار والتِّكرار -في تجارب شبيهة باختبار ميلجرام على سبيل المثال- وصحيحة؛ لا لأنها قابلةٌ للقياس بدقّة عن طريق جهاز التصوير بالرنين المغناطيسيّ الوظيفيّ!

حنة آرنت
حنة آرنت

لنتأمل العمل الأكثر تأثيرًا الذي قام به «دانيال كانيمان» في الاقتصاد السلوكيّ والذي أدَّى إلى فهم أفضل لعمليات اتّخاذ القرار وللتحيُّزات. من الصعب أن يُسمِّي أحد ما فعله بغير العلميّ.

دانيال كانيمان
دانيال كانيمان

في الواقع، يستطيع المرء أن يُجادل بأن علماء الاجتماع يخطون على أرض خطيرة عندما يحاولون جعل هذا الفرع من المعرفة دقيقًا أكثر مما ينبغي. إن انتشار النماذج الحسابيَّة للخدمات المالية والتي أدَّت إلى كارثة في بورصة «وول ستريت» هو بمثابة اختبار جيد لما يحدث عندما يرغب العاملون بالقطاع المالي في الحصول على مستوى دقة الفيزياء. كما عبَّر عالم فيزياء الجسيمات «إيمانويل درمان»:

«يحاول علماء الفيزياء اكتشاف ثلاثة قوانين تفسِّر 99% من الكون، أما مصممو النماذج الماليَّة فيجب أن يرضوا باكتشاف 99 قانونًا تفسِّر 3% من الكون.»

إذن، هل التمويل علم؟ النقطةُ المهمة هنا هى أننا ما زلنا لا نعرف إلا أقلَّ القليل عن البيولوجيا والأنظمة الاجتماعيَّة لتحقيق ذلك النوع من التنبُّؤ الكمِّيّ الذي تفعله علوم مثل الفيزياء (ولكن على الجانب الآخر، لا تحتاج الفيزياء -اعتمادًا على نوع عالم الفيزياء الذي تتحدث إليه- إلى التعامل مع الظواهر المنبثقة بشكل روتينيّ). ولكن هذا لا يعني أن كل ما نقوله عن الطبيعة البشريَّة غير قابل للقياس ولا فائدة منه تمامًا.

معايير ناقصة… ولكن مفيدة

إن أحد الإسهامات القيِّمة التي يقدمها «بيريزو» هو الإشارة إلى المعايير التي يجب أن يفي بها مجال دراسة ما، حتى يطلق على نفسه علمًا. أعتقد أن هذه المعايير غير مكتملة، وصارمة للغاية، ولكنها توفر حكمًا مفيدًا لعلم النَّفس ليفحص فجواته وأهدافه:

لماذا يمكننا القول بشكل قاطع أن «علم النَّفس ليس علمًا»؟ لأن علم النَّفس غالبًا لا يفي بالمتطلبات الخمسة الأساسيَّة المطلوب توافرها في مجالٍ معرفيٍّ حتى يُعتبر منضبطًا علميًا، وهي: أن تكون مصطلحاته التقنيّة معرفة بوضوح، والقابليَّة للقياس الكمِّي، وظروف تجريبية خاضعة للتحكُّم بدرجة كبيرة، والقابليَّة للتكرار، وأخيرًا القابليَّة للتوقّع والاختبار.

لقد تَحَدَّثْتُ بالفعل عن أول معيارين، وأَشَرْتُ إلى نقص المصطلحات الواضحة والإمكانيَّة للقياس الكمِّي لا يؤدِّي تلقائيًّا إلى إلقاء مجالٍ ما في سلَّة العلوم الزَّائفة. في الواقع، يُعدُّ المعيار الثَّالث مثيرًا للاهتمام ومهمًا، ولا يبدو أنّ منه مفرًّا. ولأن البشر ليسوا إلكترونات، فمن الصعب جدًّا إجراء تجربة عليهم والحصول على نفس النَّتائج بالضَّبط كلَّ مرَّة.

ولكن هذا هو السبب في أن علم النَّفس يعتمد بشكل كبير على الإحصاءات؛ للتحديد بدقَّة ما إذا كان التَّباين في النَّتائج بسبب الصدفة أو إذا كان يعكس اختلافًا حقيقيًّا بين العيِّنات. وأعترف أن هذا القصور سيلازم علم النَّفس دائمًا، ولكن مرَّة أُخرى، هذا لا يعني أنه سيمنع علم النَّفس من كونه مفيدًا على الإطلاق. وهذا أيضًا لأن حتَّى مجالات مثل فيزياء الجسيمات تعتمد بشكل كبير على الإحصائيَّات هذه الأيَّام.

لم يرصد أحد جسيم بوزون هيغز (Higgs boson) بصورة مباشرة. إنما كان مرئيًّا فقط بوساطة اختبارات مُعقدة ذات دلالة إحصائيَّة، ومع ذلك تُعدّ فيزياء الجسيمات «أنقى» علمٍ، حتى من قِبَل علماء الفيزياء الآخرين.

اكتشاف بوزون هيجز عبر الاختبارات
اكتشاف بوزون هيجز عبر الاختبارات

أو لنأخذ مثالًا آخر من الديناميكا غير الخطيَّة، حيث يكون الاعتماد على الظُّروف الأوليَّة صارمًا للغاية إلي حد أن أنظمة مثل الطقس، والأحياء السكّانيّة (البيولوجيا السكّانية) تصبح فوضوية تمامًا وغير قابلةٍ للتوقّع بعد فترة. ومع ذلك يمكننا تطبيق الإحصائيَّات على هذه الأنظمة، ووضع توقُّعات تختلف موثوقيَّتها ونصف ذلك بالعلم. وهذا ينقلنا إلى آخر نقطتين لـ«بيريزو».

حجر الزاوية

تعدُّ القابليَّة للاختبار والتنبُّؤ حقًّا حَجَري زاويةٍ للعلوم. لقد أشرتُ بالفعل إلى أن قابليَّة الاختبار يمكن أن تكون دقيقة في كثير من الأحيان بدرجة كافية لجعلها مفيدة. أما بالنسبة للتنبُّؤ، فالنقطة اﻷولى هي أن قابليته للتطبيق تقع ضمن إطارٍ أو مدًى. ففي مجالي الخاص على سبيل المثال، نتوقَّع بصورة روتينيَّة نشاط جزيئاتٍ دوائيَّة جديدة. وفي بعض الأحيان تكون توقعاتنا ناجحة بنسبة 90%، وفي بعض الأحيان تكون ناجحة بنسبة 40%. وحتى عندما تكون ناجحة بنسبة 40% يمكنك أن تحصل على معلومات مفيدة منها، بالرغم أن عندها يكون من الواضح أن أمامها طريقًا طويلًا قبل أن يتم استخدامها على أساس كمِّيٍّ تمامًا، وكلُّ هذا ما زال علمًا.

ولكن الأهم من ذلك أن التنبُّؤ ليس ليس في الحقيقة بتلك اﻷهمّية للعلم كما يعتقد «بيريزو». فقد لاحظ عالم الفيزياء «دايفيد دويتش» أنك بعد مشاهدة ساحر يقوم بخدعة سحريَّة 10 مرات، ستتمكن من توقُّع ما سيفعله بعد ذلك؛ ولكن هذا لا يعني إطلاقًا أنك قد فهمت بالفعل ما يقوم به الساحر. وخلافًا للاعتقاد السائد، الفهم في العلم له على الأقل مثل أهميَّة التنبُّؤ أو أكثر منها.

دايفيد دويتش
دايفيد دويتش

ويمكننا أن نرى أن الدراسات السيكولوجيَّة قد قدَّمت -بالتأكيد- بعض الفهم لكيفيَّة تصرُّف البشر في ظلِّ ظروف معينة؛ لقد ساعدتنا على فهم أسئلة مثل: لماذا قد يؤمن الأذكياء بأشياء غريبة؟ لماذا قد يتحوَّل أشخاصٌ لطفاء إلى وحوش في ظروف معينَّة (تفاهة الشر)؟ ما هو أساس «تأثير المتفرج/تأثير المارّة» والذي لا يقوم فيه المتعاطفون مع الضحيّة بخطوة للأمام لوقف الجريمة؟

لقد قدَّم علم النَّفس أدلة وتفسيرات مثيرة للاهتمام في كل هذه المواضيع، حتى لو لم تكن هذه التفسيرات قابلة للاختبار والقياس بنسبة (100%). هل هذا علم؟ حسنًا، إنه ليس علمًا مثل الفيزياء ولكن لماذا يجب أن تكون الفيزياء هي المقياس لمدى علميَّة المجالات الأُخرى؟

تعريف العلم؟

في نفس الوقت، أنا أتفق مع «بيريزو» على أنه لا يمكن إعادة تعريف العلم إلى حد لا يعود يخضع معه إلى المعايير العلميَّة العريقة، مثل قابليَّة الاختبار والتّكرار، إذا بدأت تدريجيًّا بتخفيف متطلباتٍ أساسيَّةٍ مثل اختبار الفرضيَّة والملاحظة، فأنت تنزلق إلى أسفل منحدر زلق، في قاعه تقع عوالم مثل الخلقيّة، وإنسان بلتداون، والتنجيم.

ولكن قد كان هذا هو الحال أيضًا مع بدايات العلوم الحديثة، عندما كان جمع المعلومات هو المُسيطر، وكانت التفسيرات قليلة، ولم يكن لدى أحد أيُّ فكرة عمَّا يعنيه اختبار الفرضيَّات، ورُغم ذلك، ندعو ما كان «كارولوس لينيوس» و«تيخو براهي» يفعلونه علمًا. أزيد من الشعر بيتًا، فحتى بعض عمل الخيميائيين كان يُصنَّف علمًا؛ فلقد حسّنوا عمليّات مثل: التقطير، والتسامى.

في النهاية، يعدُّ علم النَّفس -من وجهة نظري- في ما قد نسميه المرحلة اللينيوسيّة (نسبةً إلى نظام لينيوس للتصنيف) حيث تجميع المعلومات، وتصنيفها، ومحاولة إيجاد النظريَّة الصحيحة لوصف تعقيداتها.

بالنسبة لي، تشبه الجدالاتُ الحادَّة عن علم النَّفس التطوريّ وعلم النَّفس الإيجابيّ جلسة محاكمة بالتّعذيب. والتي يخوضها كلُّ مجال في مراحله الأولى، حتى ننتقي الثمين من بين الغثّ. إنك إذا قمت بتطبيق تعريفٍ ضيقٍ للعلم؛ فقد يكون من الصعب وصف علم النَّفس بأنه علم. ولكن ما يهم بالنهاية هو ما إذا كان مفيدًا، ويبدو لي أن المجال -بالتأكيد- له استخداماته.

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي