تصبح العلاقات في أفضل حالاتها عندما تمتلك فيضًا من المشاعر والحب المتبادل بين الطّرفين، وتجري الأمور بسلاسة عندما نكون متناغمين مع رغبات واحتياجات الطّرف الآخر، وكذلك عندما يكون هو أيضًا متناغم مع احتياجاتنا ورغباتنا، ولكن كما يعلم معظمنا أن هذه التّفاعلات التي تبدو بسيطة في ظاهرها وجميلة غالبًا ما تكون ممتلئةً بالتّعقيدات، فربما يريد شخصٌ مزيدًا من الاقتراب، بينما يريد الآخر بعض المساحة، غالبًا ما يشعر أحد الأطراف بعدم الأمان ويحتاج إلى إعادة طمأنته وتأكيده، بينما يشعر الآخر بأنه يتمّ التّطفّل عليه ويحتاج بعض المساحة.
وهذه الميول متعلقة كثيرًا بأنماط ارتباطنا في المراحل المبكرة، ربما يكون معرفة أنماط ارتباطاتنا له دور في منحنا فهمًا لكيف نفكّر، ونشعر، ونتصرّف في علاقاتنا.
سنناقش فيما يلي كيف يتكوّن نمط التعلّق القَلِق/المرضي في الطفولة، وكيف يستمر في التّأثير علينا في علاقاتنا البالغة.
نموذج التعلّق القَلِق في المراحل المبكرة
عندما يشعر الطّفل بالأمان، وبالسّكينة، وأنه تتمّ رؤيته بشكل مستمر من الوالدين، فإن الطّفل في هذه الحالة يكون قادرًا على بناء علاقة آمنة مع الوالدين، ولكن أحيانًا يكون الآباء متاحين ومتناغمين بطريقة جيّدة مع أطفالهم، وأحيانًا أخرى يكونون متبلدي الإحساس تجاههم،.في هذه الحالة، كثيرًا ما يعاني الطّفل من نموذج التّعلّق القَلِق، والطّفل الذي يعاني من هذه المشكلة، من الممكن أن يشعر برغبة مُلِّحّة في التّشبث بوالديه لكي يُشبع احتياجاته، وربما يشعر بالإحباط نتيجة ابتعاد والديه عاطفيًّا عنه، كما يواجه مشاكل في الشّعور بالهدوء والسّكينة عندما يُلَمّ الشّمل مرة أخرى.
يمكن لهذا النّموذج من التعلّق أن يتكوّن نتيجة الجوع العاطفيّ الموجّه من الوالدين للأطفال بدلًا من إعطائهم الحب الصّادق، فربما يستخدم الوالدين الطّفل لإشباع احتياجاتهم، إذا كان لديهم جوع عاطفيّ، على سبيل المثال، فربما يعانقون طفلهم لأنهم يحتاجون العناق، أو يريدون الشّعور بالطّمأنينة وتأكيد ذواتهم، فعندما يرغبون في الشّعور بالراحة، يحققون ذلك من خلال الطفل، وحين يريد الطّفل الشّعور بالحب وبعواطف والديه تجاهه، يصير الوالدان مشغولين باحتياجاتهم.
غالبًا ما يفقد الوالدان اللذان أنشئا بينهما وبين طفلهما نموذجًا من التعلّق القلِق طريقهم لإشباع احتياجات طفلهم، وعندما يعطون الطّفل احتياجاته، يحدث ذلك بطريقة تطفليّة أو تتعلق بهم أكثر وليس بالطّفل، فربما يهتم الوالدان أكثر بمظهرهم كوالدين جيِّدين عن إعطاء الطّفل احتياجاته. وعلى سبيل المثال تهتم أم بإعدادها لحفلات أعياد الميلاد لطفلتها، فتعلق الزّينات والزّخارف بشكل سخيٍّ مُبالغ فيه، وتهتم بالتّزين ولباس الحفل آملة في جذب الانتباه لها كأمٍ جيِّدة، وعلى الرغم من هذا الحفل الجميل لأجلها فإن الفتاة شعرت بالقلق وعدم الرّاحة وواجهت ضغوطًا لكي تظهر أمام النّاس بمظهر الفتاة المثاليّة المهذبة لكي تجعل والدتها في الصّورة التي تسعى إليها، وفي نهاية الحفل شعرت الطّفلة بالفراغ وأنها مستنزفة من الحفل الذي لم يكن حقًا من أجلها.
ومن الممكن لمثل هؤلاء الآباء أن يصبحوا مشتّتي الذهن بسبب شعورهم بالقلق، أو شعورهم بعدم الأمان، وأيضًا من الممكن أن يتعاملوا مع أطفالهم بطريقة متعجرفة أو تجاهليّة دون إدراكهم ذلك، ولأن الوالدين قد يعاملان طفلهم بالطّريقة الصّحيحة أحيانًا ويحقّقون التّناغم والتّجاوب مع احتياجاته في بعض الأوقات فقط، فإن الطّفل ربما يشعر بأنه بائس ومُحتاج لوالديه.
غالبًا ما يشعر الأطفال الذين جرّبوا نموذج الارتباط القَلِق أنهم مستنزفون أكثر من كونهم مُعتنَى بهم من الوالدين، وذلك لأن العناية التي يوفرها الوالدان في حقيقتها ضعيفة، وفارغة، ويميل هؤلاء الأطفال للتّشبث بوالديهم بدافع من الحاجة أحيانًا وبدافع من الذّنب أحيانًا أخرى، مثل إحساسهم بأنّ والديهم يحتاجون العناية.
والوالد الذي لديه نموذج الارتباط القَلِق ربما يبالغ في التّصرّف تجاه طفله، في محاولة الحصول على الحب والطمأنينة من خلاله، وفي مثل هذه النّماذج من الارتباطات بالوالدين لا يشعر أو يستبطن فيها الطّفل الرّاحة، ممّا يترك الطّفل في حيرة إذا ما كان يستطيع الاعتماد على الآخرين أو لا، حيث إن الطّفل لا يستطيع الاستفادة من المرات المتقطّعة التي يكون فيها الولدان في انسجام وتناغم معه؛ وذلك لأن بين هذه الفترات العديد من التّعاملات الجافّة والتّفاعلات الباردة المؤلمة.
غالبًا ما يكون الوالد/الوالدة ممن يُنشئ علاقة ارتباط قَلِق مع طفله، قد تعرّض هو نفسه لهذا النّوع من العلاقة عندما كان طفلًا، فلقد كانت لديه احتياجاته العاطفيّة ولم يتمّ إشباعها بطريقة مناسبة مما تركه يشعر بالفراغ، وعندما يكبر هؤلاء الأشخاص الذين تعرضوا لمثل هذا النّوع من الارتباط ويصبحون آباءً، فإنهم غالبًا يستغلون أبناءهم في محاولة لسدّ هذه الفجوة العاطفيّة، وهذا النّموذج من العلاقات يكون بمثابة مثال ونموذج للطفل عن كيف تعمل العلاقات، كما أنهم يحملون هذا النّموذج أيضًا إلى علاقتهم الرّاشدة، وبهذا يتكرر هذا النّموذج من العلاقات خلال الأجيال.
نموذج الارتباط القَلِق في العلاقات الرّاشدة
عندما يعاني الشّخص من علاقة ارتباط قَلِق من أبويه عندما كان طفلًا، فربما يستمر في تكوين ارتباطات قَلِقة مع شريكه في علاقته العاطفيّة الرّاشدة، ولأنه اعتاد عدم وجود أحد الأشخاص في حياتهم بطريقة ثابتة، فإن هذا الشّخص يميل إلى الشّعور بعدم الأمان وينشد الطّمأنينة في علاقاته، وربما يعاني في نفس الوقت من مشكلة الثّّقة في مشاعر شريكه ووعوده، ويرجع ذلك لأن هذه الأمور كانت خالية من المعنى أو فارغة عندما كان يستخدمها الأبوان، وكانت تفتقر هذه المشاعر إلى المعاني الحقيقيّة التي يحتاجها هذا الشّخص عندما كان طفلًا.
ربما يشعر هؤلاء الأفراد أنهم مجبورين على طلب إشارات أو علامات توضح أنهم مميّزون عند شريكهم، وذلك في محاولة لخفض مستوى القلق، وربما تكون مشاعرهم تجاه شريكهم هي مجرّد جوع عاطفيّ كالذي لاقوه من الآباء في أثناء طفولتهم، وربما يأملون في إنقاذ أو إكمال شريكهم لهم، وهذا أمر من المستحيل على أي شخص أن يفعله، كما يرون أنهم ينشدون الشّعور بالأمان والقرب وذلك عن طريق التّشبث بشريكهم، فإن مثل هذه التّصرفات البائسة غالبًا ما تدفع شريكهم للمغادرة.
ونظرًا لعدم الأمان المتأصّل من الماضي لدى هذا الشّخص، فإنه من الممكن أن يتصرف بطرق تبدو بائسة وغير مستقرة ولحوحة كثيرة المطالب، أو تملّكية، أو بها نوعٌ من الغيرة أو التّحكم في شريك العلاقة، غالبًا ما يسيئون تفسير تصرفات شريكهم ويرونها خالية من الشّعور أو يشعرون بالرّفض حيالها، وغالبًا ما يفكرون في أمور مثل «هو لا يحبني حقًا»، أو «لو كان يحبني لفعل…»، أو «هي سوف تتركني»، أو «كيف يعاملني بهذه الطريقة؟»، «ألا يعلم ماذا فعلتُ لأجله؟» أو «لقد كنت محقًا بعدم الوثوق بها» ويرجع هذا للقلق الموجود لدى هذا الشّخص بشأن مشاعر شريكه تجاهه، يميل هؤلاء الأشخاص المبالغة في التّصرف تجاه شريكهم، وذلك لأن والديهم قد فعلوا ذلك لهم محاولةً منهم للحصول على الحب.
بينما يبدو أن الشّخص الذي لديه نموذج الارتباط القلق سيميل للارتباط بشخص يتفرغ له ويعتني به، إلا أن غالبًا ما ينتهي به المطاف للارتباط بشخص لديه نموذج الارتباط التجنبيّ والذي يعاني من مشاكل في إشباع حاجاته العاطفيّة، بينما يبدو ذلك غير معقول أو جنونيّ، فإن هذه المشاعر تتمّم بعضها، خاصة المشاعر المكبوتة لدى من لديه نموذج الارتباط التّجنبيّ، فكلٌّ منهما يقوِّي نموذج الارتباط لدى الآخر من خلال تفاعلاتهم المؤلمة، فيقوِّي الشخص الذي لديه نموذج الارتباط التجنبيّ هذا النوع من الارتباط، حيث أن شريكه كثير المطالبة، وبما أن الشخص الذي لديه نموذج الارتباط التجنبيّ مبتعد، فإن الشّخص الذي لديه نموذج الارتباط القلق سيلاحقه ويضغط عليه.
وعلى الرغم من تجربة الشّعور بعدم الأمان أو الطمأنينة مؤلمة إلا أنّ النّاس غالبًا ما يشعرون أنهم مجبرون على إعادة معايشة مناخ مشاعر الطفولة، لذلك من المهم أن نفهم أنماط ارتباطاتنا ونعقلها، وبذلك نستطيع تغيير نمطنا في الارتباط.
من الممكن أن يسبّب نموذج الارتباط القَلِق صعوبة في العلاقات الرومانسيّة، ولكن من الممكن إقامة علاقة آمنة كبالغ، ولكي نبني علاقات بها أمان نفسيّ داخليّ أكبر، فعلينا فهم تاريخ ارتباطاتنا، ومن أين نأخذ نماذج علاقاتنا، بهذا الفهم نستطيع الوصول إلى تسلسل مترابط عن نماذج علاقاتنا السّابقة، والتي سوف تعطينا فطنة عن كيف سنرتبط في الوقت الحاليّ.
من المفيد أيضًا بناء علاقات مع الناس الذين لديهم نماذج ارتباط أكثر أمنًا واستقرارًا، فإذا تم الارتباط بهم، وبدأت الأمور أن تكون غير مريحة، أو غير مألوفة، فإنه من الممكن التّوافق مع هذا النّوع الجديد من الارتباط، وتشكيل ارتباط آمن ومستقر مع هؤلاء الأشخاص، أخيرًا قد يكون العلاج قيِّمًا، وأداةً جيِّدة لتغيير حياتك، وجعل علاقاتك أكثر أمنًا واستقرارًا، فالمعالج لا يساعدنا فقط في استكشاف حياتنا المبكرة، وكيف تؤثر علينا، ولكن العلاقة الوثيقة والموثوقة مع المعالج تساعدنا في تطوير الأمن الداخليّ لدينا، كما يمكن للتعاطف مع الذّات والشّجاعة في مواجهة الماضي من تغيير أنماط ارتباطنا.