حديقة الملذات الدنيوية – هيرونيموس بوش

حديقة_المَلذّات_الدُنيوية

حديقة الملذات الدنيوية||

رُغم التفاوت النسبيّ والهائل في الفكر الديني بين الجماعات البشرية، ما بين قَبولٍ أو رفض أو تباين في الرؤى يتداخل فيه الكثير من العوامل، إلا أننا كثيرًا ما نرى التراث الدينيّ يتصدر المشهد على مر الأزمان، كمادة خِصبة للخيال الفني في شتى ألوانِه، سواء نصوص أدبية أو أعمال تشكيلية؛ أو جدارية من فضلِ آثار الأقدمين؛ فالمجهول وإن أرهبنا بالخوف منه، إلا أنه يغوينا -في الآنِ ذاته- بالفضول إليه!

بينما يرتحلُ بنا (أبي العلاء المعري) في رسالة الغفران من الجنة للنار؛ يُلقي بنا (دانتي) في جحيمه أولاً، ثم يُخلصُنا، ليعرض علينا صكوك التوبة فنزلف إلى جنة الفردوس؛ (1) على درب من سبقوه يُتحِفُنا الفنان الهولندي «هيرونيموس بوش – Hieronymus Bosch» بثلاثيته الرائعة (The garden of earthly delights)؛ أو حديقة الملذات الدُنيوية! فيعود بنا لقصة الخلق الشهيرة، ثم الحياة في أوجِ زينتها، وأخيرًا فسادها وتدنيسها بأفعال البشر.

اضغط على الصورة لمشاهدة العمل بدقة ووُضوح عاليين، حتى تدرك تفاصيل اللوحة الفنية:

حديقة الملذات
حديقة الملذات

تأريخ العمل

واجه المؤرخون صعوبة في تحديد الوقت الفعلي الذي رسم فيه (بوش) هذا العمل، خاصة وأنه لم يدون تواريخ أعماله، حتى أن تاريخ ميلاده غير مُتيقَن منه، ولكن أرجح الظنون أنه وُلد في العام 1450. فتكهنوا بتواريخ تقريبية بناء على فِترة حياته، وعلى حين افترض البعض أنه بدأ برسم هذا العمل في العام 1490 حينما كان يناهز من العمر 40 عامًا، وانتهي منه في الفترة ما بين (1510-1515)، فقد ارتأى للبعض الآخر أن هذا العمل كان خلال الفترة ما بين (1480-1505).(3)
كانت أول مشاهدة مُسجلة لهذا العمل في العام 1517 بعد عام من وفاة (بوش)، حيث شاهدها المؤرخ الإيطالي (Antonio De Beatis) في قصر أحد النبلاء السياسيين ببروكسل، والذي جعل من قصره مركزًا للقاءاته الدبلوماسية الهامة، لهذا فمن المُرجح أن (بوش) قام برسمها بناء على طلب خاص منه،(4) لا سيّما وأنه كان من المتعذر أن توضع بمكان للتعبد نُظرًا لجرأتها، حتى وإن احتوت على رسالة دينية أو  اخلاقية.(3)

نظرة عامة على حديقة الملذات الدنيوية

هذه الثلاثية واحدة من أهمِ وأكثر الأعمال الفنية شهرةً، وغُموضًا في نهضة القرن السادس عشر، والتي تنطوي على دلالات دينية مسيحية، ذات منظور أخلاقي خاص، وغريب نوعًا ما.(2) وبحسب رأي الناقد (Alastair Sooke) فهي رؤية مُعَبرة عن الخطيئة والفضيلة، يظهر الشيطان بين تفاصيلها.(5)
كما نرى فهي تتجزأ لثلاث قطع مفصلية متجاورات، عَمد (بوش) إلى ملئها بالعديد من الشخوص السريالية، والكائنات الخيالية الغريبة، والتي تعكس رؤيته الخاصة لهذا العالم. إذا ابتدأنا من أقصى اليسار، حيث القطعة الأولى فسنُسحَر بمشهد خلاب لبداية الخلق، وإذا انتهينا لأقصى اليمين فسنفجع بمشهد مؤلم للجحيم، وما بين البداية والنهاية تُجسد القطعة الأم العبث الدنيويّ، أو حديقة المَلذّات الدُنيوية، وتيمُنًا بها سُميَ العمل.

في حال أغلقنا اللوحتين المِفصَليتين اليُمنى واليسرى، تتكون لنا لوحة تُصور الأرض في اليوم الثالث من الخلق؛ (2) حيث لم يكن من حيوان أو إنسان.. فقط النباتات، في إشارة للآية بالكتاب المُقدس «فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ». ونلاحظ في تلك اللوحة الافتتاحية للعمل الداخلي أنها تم رسمها بلون واحد، فيما يُعرف بتقنية الـ(Monochrome)، بحيث ألا تكون كثرة الألوان بها ملهاة عن العمل الداخلي. (3)، (4)

(صورة رقم 2)

جنة عدن

في هذه اللوحة -الأولى من جهة اليسار- نرى تصوير للرب في جنة عدن وهو يقدم حواء (Eve) لآدم والذي استيقظ لتوه من النومِ، بعد أن خلقها الرب من ضلعه. ونلاحظ في المشهد خلفهم ما هو أشبه بسطح جزيرة صغيرة مُظلمة يظهر على صفحة ماء البحيرة الصافية -في دلالة ضمنية لما يخبئه المُستقبل لهم-، وتهرب منها الزواحف والهوام السوداء إلى أرض الجنة، ونرى حَيَّة تتسلق النخلة الممتلئة بالثمار، ومن أحد فتحات الهيكل المُتوِج لقمة هذه الجزيرة يطِل طائر البوم برأسه مُحدِقًا بهم. (2)

الحياة الدنيا

تعتبر هذه اللوحة -في المنتصف- تطورًا للتي سبقتها ويحاول الفنان أن يُظهر فيها معنى أن خطيئة واحدة قد تقود لما بعدها من الخطايا؛ فصَوَر مظاهر البذخ والمتعة بالعديد والعديد من الرمزيات، متمثلة في الفواكه كبيرة الحجم، والطيور الضخمة، والجموع العارية من الرجال يركبون الحيوانات ويُشكلون دائرة حول الفاتنات في البحيرة الصغيرة، في إشارة إلى الغواية، والنافورة هنا كبديل لنافورة الحياة في جنة عدن إلا أن هذه الأخيرة تعج بالخطايا، فبأسفلها نرى رجلًا يصعد مركبًا بجوار حسناء، ويترك رفيقته تغرق بجوارهِ وهي تمُدُ يدها نحوه مستنجدةً إياهُ، بلا جدوى!(2)

وإذا أمعنَّا النظرَ في الجانب الأيسر من اللوحة، وتحديدًا بجوار الطيور كبيرة الحجم فسنلاحظ آدم يمسك بيد إيف مانعًا إياها من قبول الفاكهة التي يُقدمها لها الطائر، وخلفهم مباشرةً نرى الفنان وقد صور لون أجساد من سَولت لهم أنفسهم بالأكل منها بالدرجات الرمادية في تعبير عن موتِ أرواحهم، ويتكرر ظهور طائر البوم بحجم أكبر مُوجهًا عيناه قِبالة المُشاهد في تحدٍ ساخر! واقتلاع الزهور والفواكه إشارة إلى التهافت على العلاقات الجنسية؛ كما نلاحظ في هذه اللوحة غياب الرب كنتيجة لما يحدث عندما يحصل بني البشر على حريتهم الكاملة. (2)

بخلاف ذلك فبعض النقاد رجحَ أن يكون الهيكل الزجاجي في هذه اللوحة، والذي يلتم شمل المُحبين أسفله أثناء تلاطفهم، به إسقاط على المثل الهولندي القائل: «السعادة كالزجاج.. سُرعان ما تتهشم». (3)
ولم تمر مَشاهد الطيور كبيرة الحجم -كطائر أبي الحناء، والبط، ونقار الخشب- على النُقاد مرور الكِرام بل صرَحَ بعضهم أن الصيغة الجمعية للطيور يرادفها في اللغة الهولندية كلمة (vogelen) والتي تُستعمل لديهم أيضًا للإشارة إلى إقامة علاقة جنسية، مما يتناسب مع رسالة ذم العبث الدنيوي التي تحملها اللوحة بين طياتها. (5)

ويزيد من حيرتنا الناقد الفني «كيلي غروفييه – (Kelly Grovier)» قائلًا:

«لا زال هناك الكثير من الرسائل المخفية، التي تستلزم منّا كشف الغموض عنها»! في إشارة منه إلى أن (بوش ) ترك لنا بعض التفاصيل التي تؤكد على احتواء العمل على معانٍ خفية تستلزم منّا بعض التدقيق؛ ويستطرد في الشرح مُوَضِحًا أنه حال قيامنا برسم حرف (X) تتصل نهايات محوريه بكل ركن من أركان اللوحة، فإننا سنجد أن بجوار نقطة التقاطع رسم صغير لبيضة عيد الفصح محمولة على الأعناق!(5)

*(لمن لا يعلم فتعبير بيض عيد الفصح أو (Easter eggs) كثيرًا ما يُتخذ للدلالة عن كشف الغموض عن شيء ما، ففي عيد الفصح تُقام خُدعة يمارسها الآباء، بإخفاء البيض المُلون عن الأطفال، ومن يجده أولًا يكون له جائزة، وأحيانًا ما تكون البيضة في حد ذاتها هي الجائزة، لاسيّما وإن احتوت بداخلها على بعض الحلوى).

باختصار فاللوحة الثانية إما تعبير-تقريري- من الفنان عن انغماس جموع البشرية في سلوكيات فاسدة، رأي أنها تقود بهم لمصيرهم المحتوم وهو العذاب الذي صوره في لوحته الثالثة، وضياع فرصتهم في النعيمِ الأبديّ. أو أنها –في رأي آخر- تصوير لجأ إليه الفنان للتعبير عن كونِها مُفترق طرق إما تؤدي إلى الهلاك علي اليمين أو النعيم على اليسار؛ أو أنها رسالة تحذيرية فحسب.(3)

العذاب

أخيرًا ينتهي بنا (بوش) لمصيرنا المحتوم -من وجهة نظره- في لوحته الأخيرة، فيُلقينا في أهوال العذاب بلا رحمة، فاستحضر الليل بظلماته، واختفى اللون الأخضر الذي لجأ إليه في اللوحتين السابقتين تعبيرًا عن نبض الحياة، وقَسّمَ لوحته هذه لثلاثة أجزاء، ففي الأعلى نرى حشود هائلة من البشر تهرب من نيران مستَعِرة تطاردهم من كل صوب، فيسيرون في دروبٍ تائهة، لا نرى لها نهاية!(2)

وفي الجزء اللاحق نرى (بوش) وقد صوَّر نفسه بشكل سريالي جمع فيه ما بين الجسد البشري وجذع الشجرة، فاستبدل ذراعاهُ بجذوع أشجار راسخة في مركبين، وعلى وجهة ارتسمت نظرة ساخرة بالتفافة بسيطة تناسب الغموض الذي ألحقه بعمله! بحسب وصف المُؤرخ الفني «هانز بيلتينج – (Hans Belting)»، فهو ليس محض بورتريه شخصي وسط العمل. (3) وفوق رأسه وضع آلة عزف على قطاع دائري أشبه بالطبق كرمز للشهوة والشيطان، ومن خلفه نرى أذنين مثقوبتين بسهم، ومشقوقتين بنصل سكين في رمزية لصم الآذان عن وصايا الرب، وبالتحديد كإشارة للآية في الكتاب المُقدس: «مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ». (2)

وفي آخر جزء من لوحة العذاب، يُواجَه المُذنبون بذنوبِهم، وتحديدًا من اجترأوا على اقتراف الخطايا السبع المميتة.. فنرى امرأة مغرورة مُدانة، ومقيدة بجوارِ أرجل الشيطان، وآخَر شرِه/نَهِم يُجبَر على التقيؤ في حفرة، وهذا البخيل يتغوط نقوده التي اكتنزها، وهذا الصياد يقوم أرنب بريّ بثقب جسدِه، والآخَر تنهشه كلابهُ.. وعلى ما يبدو فـ (بوش) كانت نظرته للموسيقى بها نوع من الإدانة، فقد اختص جزء ليس بالقليل من لوحة العذاب للموسيقيين! وقد يكون هذا عائدًا إلى أنه كان عضوًا بأخوية العذراء، وهي أحد الجماعات الدينية الكنَسية، فنراه صوّرَ الموسيقيين مُعذبين بجوار مُجسمات عملاقة لآلات العزف. (2)

وباجتيازنا منطقة عذاب الموسيقيين نراه وقد صوَّر المقامرين مُعذبين، مُشوَهين بجوار طاولة الزهر، يتلقون الطعنات في ظهورهم من قِبل مخلوقات بشعة، حتى أن هذه المخلوقات لم تكتفِ بتعذيبهم وفقط، بل وتقامر بهم، وكأنها إشارة إلى أن الجزاء من جنس العمل! وعلى خلاف الأعمال الفنية في القرون الوُسطى، التي تناولت الجحيم، فصورت الأشخاص يُحرقون أو يُؤكلون أحياء فـ (بوش) لجأ لمُستوى آخر من التعذيب، حيث أنه لم يولِ اهتمامًا بالعذاب الجسدي بقدر ما تمادي في تصوير العذابات النفسية للمُذنبين، بأن يتم التلاعب بهم بشكل يُخيفهم ويُقلقهم ويشتتهم.. حتى يقودهم للجنون! (5)
وأخيرًا وفي تلخيصه لأسباب العذاب يصَوِر يد الرب مقتطعة ومطعونة بسكين بجوار طاولة القمار ويعلوها نرد، في تعبير عن تدنيس الإنسان لكلمة الرب، وكرسالة تحذيرية لما قد يلحق بهِ إذا لم يهب حياتَه للرب.(3)

الدلالات اللونية بالعمل

لجأ (بوش) لاستخدام اللون الزهري في العمل كإشارة رمزية لـ (اللاهوت)، فنراه استخدمه في رسم رداء الرب، ونافورة الحياة باللوحة الأولى، بينما عمد إلى استخدام اللون الأزرق للتعبير عن الأرض، وملذاتها كثمرة التوت للأكل منها، وبرميل الشراب للنهل منه، والبركة الزرقاء بمنتصف اللوحة الثانية للمرح فيها. ثم يغمس فرشاته في اللون الأحمر للتعبير عن الشهوات، فنرى العشاق يتقاذفون الثمار الحمراء لهوًا، أما إذا نظرنا لاستخدامه لـ اللون الأخضر الزاهي فسنجد أنه يربط بينه وبين النقاء والصلاح، حتى يختفي -تقريبًا- في اللوحة الأخيرة؛ ونظرة على التدرج اللوني بشكلٍ عام في اللوحات الثلاث، من أعلى لأسفل فستجد أن الألوان تكون نقية في أعلى العمل ثم تأخذ درجاتها الرمادية نزولًا لأسفل، يظهر هذا جليًا في اللون الأزرق في اللوحة الوُسطى على سبيل المثال، حتى ننتقل للوحة العذاب فلا نرى إلا الدرجات الداكنة المُظلمة في تصوير الأرض، بل وبعض الأفراد نجدهم وقد لُوِنوا بالرماديات فحسب، كإشارة رمزية لفقدان الإنسان رُوحه باقترافه الخطايا.

 هيرنيموس بوش رائد السريالية

لم تظهر السريالية بقوة على الساحة الفنية إلا في العام 1920، مع بزوغ نجم الفنان «سلفادور دالي – (Salvador Dali)»، وتنامي إعجابه بأعمال (بوش)، إلا أن ذلك لم يكن حائلًا أمام بعض النقاد ليصفوا (بوش) بكونه أول سريالي في العالم، لا سيّما وأنه سبق دالي إليها بما يقرب من الـ400 عام.(3)

في نهاية طرحنا هذا، ورُغم التحليلات التي عرضناها مُسبقًا، إلا أن هذا العمل يظلُ مليئًا بالتوريةِ والرمزيات التي تجعلك في حيرة من أمرك، فبرغم ما يبدو لنا من الوهلة الأولى من استناد العمل إلى رؤيةٍ دينية، لكن بإعادة النظر في الكثير من تفاصيلِه -كتكرار تصوير الراهبة في غير محل تبجيل- ينتابك شعور بأن العمل في مُجملهِ هو حالة من الإبداع الفانتازي الساخر، الذي يتوائم تمامًا مع نظرة (بوش) قِبالتُنا في مشهد العذاب! وحيرتنا هذه أمرٌ محمود في الفن، فالعمل المبدع هو الذي يدفع موجات التساؤل بعقلك، ولا يكتفي بتقديم مُسَلمات واضحة للمُشاهِد على طبقٍ من فِضة.
نختتم مقالنا هذا بتعقيب قصير على لسان المؤرخ الفني رايندرت فالكينبورغ – (Reindert Falkenburg):

«هذه الثلاثية تم تنفيذها، بحيث ألا تكون قابلة للتفسير»! (5)

________________
إعداد: عُمر عون
مراجعة: إسلام سامي
المصادر:
1- http://sc.egyres.com/uAoY3
2- http://sc.egyres.com/cXxBl
3- http://sc.egyres.com/NgtjL
4- http://sc.egyres.com/wGsXC
5- http://sc.egyres.com/RwHRF

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي