هل يمكن أن يكتب الإنسان التاريخ قبل أن يحدث؟
لطالما دأب الإنسان على البحث في التاريخ ليفهم ماضيه ويستهدي به لحاضره ومستقبله، ولأن طبيعة النفس -رغم تقلبها المستمر- هي العامل المشترك بين إنسان ما قبل التاريخ وإنسان اليوم بكل ما صنع من حضارة، فإن الإنسان دائمًا ما يميل إلى سلوك نفس المسلك عندما تتشابه المعطيات والمواقف والظروف، لذلك نعتبر التاريخ مدخلًا لاستشراف المستقبل وحساب حساباته، بين هذا الماضي والمستقبل كثيرٌ من التأويل والتحليل، المثير فيه أن هذا المستقبل قد كُتِب فعلًا منذ أعوام!
يمكن القول بأن جورج أورويل قد قدَّم تصوُّرًا مذهلًا لمستقبل السياسة في روايته «1984» التي نُشِرت عام 1949م، ما لا يمكن إغفاله أن الرواية لم تكن إسقاطًا سياسيًّا فحسب، إذ لم تتناول أحداثًا من الماضي، بل استفاض الكاتب في تخيل تفاصيل المستقبل السياسي الذي لم يكن قد أتى بعد.
في هذا المقال سنبحث مدرسة أورويل الفنية والفكرية في ضوء أعماله السابقة، وملامح الحقبة السياسية التي عاصرها لندرك أبعاد تلك النظرة المستقبلية التي وثقها في روايته «1984»، وسنناقش تلك الرؤية المُتجلية في الرواية.
نبذة عن جورج أورويل
عاش أورويل في الفترة (1903-1950)، وتُوفِّي في سنٍّ صغيرةٍ نسبيًّا بعد صراعٍ مع مرض السل، وعاصر الحرب الأهلية الإسبانية والحرب العالمية الثانية.
عمل مع شرطة بورما في بداية حياته، وعندما عاد لإنجلترا عمل مدرسًا في مدرسة صغيرة.[1]
تابع أحداث الحرب الأهلية الإسبانية عن كثب وقرر الانضمام للجمهوريين[2]، وتسببت كتاباته في وضعه تحت المراقبة الأمنية لمدة اثني عشر عامًا حتى قبل نشر رواية 1984[3].
وينتمي جورج أورويل لنقاد المدرسة البديهية الذين تحرروا من القيود، وضاقوا بلا معنى المنظور الواقعي[4]، ووصف السير بيرنارد كريك جورج أورويل بأنه أول من نجح في تحويل الكتابة السياسية إلى فن.[5]
في ظل الحرب المدنية الإسبانية وما بعدها، عاش جورج أورويل حياةً حافلة عَبَّر عنها بكتابته النثرية بذكاءٍ متقد.
يوضح ستيفن إينجل أن أورويل رغم تعريفه كاشتراكي لكن أفضل ما يقال عنه أنه كاتب أخلاقي وخيالي [6]، ويتفق وايلي سيفر مع تعريف أورويل لنفسه أنه «كاتب ليبرالي في الزمن الذي تندثر فيه الليبرالية»، ويشيد باستقلال ومرونة أورويل، كما يصفه بأنه «وحده سيد النقد الاجتماعي المعاصر».[7]
لماذا ما زال فكر أورويل السياسي والاجتماعي مؤثرًا حتى الآن؟ وما طبيعة هذا التأثير؟
من أهم ما اشتهر به أورويل معارضته للشمولية وخاصة الستالينية؛ في كتابه «مزرعة الحيوان» كان جليَّا جدًّا أن المقصود به ستالين ونظامه، وبعد نشر 1984 في غضون سنوات -التي وصفت بأنها خطاب صريح ضد الشيوعية- تم الإعلان الرئيسي للحرب الباردة، وهذا الكتاب إلى جانب مزرعة الحيوان تُرجِمُوا إلى أكثر من ستين لغة، وتم بيعهم سويًّا أكثر من أي كتابين آخرين.[8]
بدأ جورج أورويل الرواية في 1946 وانتهى منها بعد 27 شهرًا. كان أورويل مريضا جدًّا طوال هذه الفترة، وكتب أنه ليس سعيدًا بهذا الكتاب وغير راضٍ عنه، وأنه عندما فكر فيه أولًا بدت الفكرة جيدة، لكن التخلص منها كان أفضل من كتابتها تحت هذه الظروف. نشر أورويل الكتاب عام 1949 أثناء الحرب الباردة، وأثار هذا المعارضة السياسية.[9]
كتب أورويل بعد نشر الرواية أن الرواية ليست هجومًا على الاشتراكية أو حزب العمال البريطاني الذي يدعمه، لكنه عرضٌ للرؤى التي يعتمد عليها الاقتصاد المركزي الذي أدركته سابقًا الشيوعية والفاشية.[10]
1984 رواية ديستوبية تصف واقعًا سوداويًا بصورةٍ بالغة
الديستوبيا هي نقيض يوتوبيا أفلاطون، المدينة الفاضلة القائمة على مبادئ الأخلاق والعلم، فعلى النقيض ديستوبيا هي المدينة التي يسود فيها الشر فيتفشَّى الشر بأركانها.
الديستوبيا تبدو للوهلة الأولى مبالغًا فيها، لكن بالتعمق في النظر فيها نجد ما تقوله يصبح واقعًا، وهذا الأمر المخيف مهمٌّ جدًّا لتوعية الناس بأهمية التوقف ومراجعة أحوالهم حتى لا ينتهي بهم المطاف إلى هذا المصير المؤلم.
وحيث لم تتغير سياسات كثير من الدول القمعية التي ظلت معتمدة على سياسات القمع وتغييب الوعي وتشويه الشخصية عامة، فقد تحققت نبوءة أورويل رغم أنه نفسه لم يتوقع أن يتحقق الكثير منها، حيث عَقَّب أورويل على روايته قائلًا:
«لا أعتقد أن المجتمع الذي وصفته سيتحقق بالضرورة، لكني أصدق أن شيئًا مشابهًا سيحصل، كما أصدق أن الأفكار الشمولية تَجذَّرت في عقول المفكرين في كل مكان. حاولت أن أصوِر هذه الأفكار وعواقبها المنطقية؛ خلفية الكتاب في بريطانيا لتوضيح أن السباق الانجليزي ليس أفضل من غيره، وأن هذه الشمولية إذا لم تتم محاربتها ستسود في أي مكان».[11]
قصة رواية 1984
تحكي الرواية قصة وينستون سميث الموظف بوزارة الحقيقة، وزارة الحقيقة هي منظمة تعمل على إعادة كتابة التاريخ ليلائم رواية الحزب الحاكم والأخ الأكبر، رئيس الحزب الحاكم.
الحب جريمة في قانونهم الذي لا يعترف إلا بالكراهية وشعاره أن الحرب هي السلم، والحرية هي العبودية، والجهل هو القوة.
مجتمع استبدادي قمعي، لكن في آلة القمع الرهيبة هذه لا بد من تمرد. يرتكب وينستون جريمةَ فكر عندما يصيح داخل عقله «يسقط الأخ الأكبر»، والجريمة الأكبر أن وينستون سيتمرد التمرد الإنساني الأسمى عندما يقع في الحب.
للتعبير عن إذعانه المطلق، يتحدث وينستون بلهجةٍ توّاقة عندما يفكر بجوليا أو بسير حياته. يصيح في نفسه بالقوة «أحب الأخ الأكبر»، ففي تصوره وظيفته المطلقة أن يحبه وأن يعمل على خدمته.
أشار فرويد إلى أن الصراع الجوهري في الرواية الديستوبية «الأب المَهيب» إلهٌ يطلب الإذعان والطاعة العمياء، وبالذات عندما تصبح طبيعة الاختبار شهوانية.
الحب هو جوهر الإنسان وشعوره هو ما يميزه عن الجماد، وهذا ما يُعلِّي قيمة الفردية ويحث على التمرد، وتمرد الفرد على الدولة في 1984 تجسد في تمرد شعوري، الصراع للحرية ضد السلطة القهرية. يكرر وينستون سميث خطيئة آدم التي أخرجته من الجنة، وهي عصيان الإله.[12]
عيون الحزب تتربص به هو وجوليا وتلاحقه الشرطة ويعذبوه بأسوأ مخاوفه، يتوسّل أن يعذبوا جوليا بدلًا منه، وبهذه الخيانة يعود عضوًا في الحزب، هنا فقط يُعترَف به كحزبيّ جيّد، حتى يتوقف عن الحب ويستعيد انتماءه للحزب.
«عيون الأخ الأكبر (تراقبك) دائمًا واستخدام الشعارات، (الحرب هي السلام والحرية هي العبودية)».[13]
في الرواية صورٌ كثيرة واقعية عن تغييب الوعي وطمس الحقائق، حتى إنهم حذفوا كلماتٍ مثل الحرية والثورة من المعاجم حتى لا يستطيع المتمردين أن يثوروا، فهم لن يجدوا ما يعبروا به عن شعورهم فيموت هذا الشعور.
التفكير في 1984 جريمة تعاقب عليها شرطة الفكر، الحزب فقط هو المنوط بالتفكير والقرار والباقي تروسٌ في آلة الحزب.
ما يعطي الرواية صلاحيتها حتى يومنا الحالي هي فِطنة أورويل للآليات النفسية التي يعتمدها المستبدّ والتي لا تتغير بتغير الزمن، يقول في الرواية:
«لن يثوروا حتى يعوا، وهؤلاء لن يعوا، حتى إذا ثاروا».
في إشارةٍ إلى دور الجهل في قمع الحريات والفكر.
في الرواية نقطة جيدة، هي تصوير الدولة بصورة القوة والسلطة المطلقة وطلب الطاعة العمياء.
في العمل الديستوبي الدولة دائمًا هكذا، مثل الأخ الكبير في 1984 [14]، وهذه الصورة هي صورة المجتمع الحالي في كثير من الدول القمعية.
تتجلَّى رؤية جورج أورويل الديستوبية للقيم في تلك الدولة؛ جميع القيم مفروضة قسريًا من وزارة الحب!
يتمنى وينستون الموت بسرعة وهو ما زال يكره الأخ الأكبر ويحب جوليا، رغبة روحه، لكنه سيُجبَر على خيانة جوليا ليحب الأخ الأكبر.
يتم تفريغه من حب شخص ليحل محله شخص آخر، يؤخذ للغرفة 101 غرفة التعذيب الذي يقال عنها «أسوأ شيء في العالم» وبها أسوأ مخاوفه، في حالة وينستون أكبر مخاوفه هي الفئران، عندما يضعوا وجهه في قفص الفئران سيغلِب ذُعره على شجاعته أو جبنه وعلى أي اختيار منطقي.
انتصار الدولة الأكبر يتحقق عندما يخرج وينستون من السجن «بعد إصلاحه» ولا يشعر بشيء سوى الذنب نحو جوليا، وخسارة الحب تجعله خاويًا من الشخصية.
غرض الدولة «تمزيق العقل البشري لأشلاء وإعادة تشكيلها بالطريقة التي يختارها الحزب»، وستحقق الدولة غرضها مع وينستون.
نأتي هنا لإجابة السؤال الذي طرحناه سابقًا، هل كانت روايته مبالغة درامية أم نبوءة تحققت بالفعل؟
الواقع أن كل الأفكار التي طرحها أورويل قد تحققت بنسبٍ متفاوتة، وأن سياسات الاستبداد لم تتغير، ويبدو أنها لن تتغير ما حيينا، سيظل المستبد بنفس العقلية، وسيظل المواطن يواجه الاستبداد بغريزته التي تدفعه للنجاة وتجنب الخطر، فالإنسان هو الإنسان، والخوف هو الخوف، والطمع هو الطمع، وبين هذه المعاني يحدث الظلم والإذعان وتتحقق النبوءة دائمًا وأبدًا.
المصادر:
[1] (Bernard Crick Interview with Geoffrey Stevens in George Orwell: A Life).
[2] (Notes on the Spanish Militias” in Orwell in Spain، p.278)
[3] (National Archives,Freedom of Information)
[4] Jeffrey Meyers, the critical Heritage-George Orwell
[5] The Social and Political Thought of George Orwell, stephen Ingle, p.16
[6] The Social and Political Thought of George Orwell, stephen Ingle, p.2
[7] Jeffrey Meyers, the critical Heritage-George Orwell
[8] The Social and Political Thought of George Orwell, stephen Ingle, p.15
[9] Jeffrey Meyers, the critical Heritage-George Orwell
[10] Aldous Huxley, Letters, ed. Grover Smith (London: Chatto & Windus, 1969), pp. 502
[11] Aldous Huxley, Letters, ed. Grover Smith (London: Chatto & Windus, 1969), pp. 502
[12] Of Man’s Last Disobedience: Zamiatin’s “We” and Orwell’s “1984”
Gorman Beauchamp
[13] Gorman Beauchamp, previous reference
[14]Gorman Beauchamp, previous reference