-تتوهمين! فلن تستطيعي البقاءَ إلى جانبي مدّة يومين.. أنا رخوٌ، أزحفُ على الأرض. أنا صامتٌ طول الوقت، انطوائيٌّ، كئيبٌ، متذمرٌ، أنانيٌّ وسوداويّ. هل ستتحملين حياة الرهبنة، كما أحياها؟!.. أقضي معظمَ الوقتِ محتجزًا في غرفتي أو أطوي الأزقَّة وحدي. هل ستصبرين على أن تعيشي بعيدة كليًا عن والديكِ وأصدقائكِ بل وعن كل علاقة أخرى؟ ما دام لا يمكنني مطلقًا تصوُّر الحياة الجماعية بطريقةٍ مغايرة؟ لا أريدُ تعاستكِ يا ملينا أخرجي من هذه الحلقةِ الملعونةِ التي سجنتكِ فيها، عندما أعماني الحب..!
=وإن كنت مُجرد جثة هامدة في هذا العالم.. فأنا أُحبُّك.
يأتي كتاب «رسائل إلى ميلينا» في مقدمة كتب أدب الرسائل في العالم؛ ففي رسائل كافكا إلى ميلينا، كان كافكا مشغولًا انشغالًا بالغًا بنقل أعمق مشاعره إلى إنسانٍ آخر، وكانت ميلينا التي قامت بترجمة بعض قصصه من اللغة الألمانية إلى اللغة التشيكية امرأة مرموقة لتميزها بمميزات عدة. لكن السؤال: هل كانت من ضمن ميزاتها أنها المرأة التي أحبها كافكا أم لا؟
«إنني مُرهَق و لا أستطيع أن افكر في أي شيء. أريد فقط أن أدفن وجهي في صدركِ وأحس بيدك و هي تمسح على رأسي، و أن أظل هكذا إلى نهاية الأبدية.»
كتابة الرسائل.. هي أن يتجرّد المرء أمام الأشباح
لقد كانت رسائل كافكا إلى ميلينا بمثابةِ ثرثرات يومية يروي لها فيها أدق تفاصيل يومه. كان يخاطب ميلينا وكأنما يخاطب نفسه، وهذا ما يمكننا أن نستشعره بقراءة رسائله لها؛ فرجلٌ مثل كافكا، بكآبته وسودويته لا يسعه أن يكون بمثل هذا الوضوح أمام أي مخلوق. فقط محبوبة تتمثّل له في نفسه، يهدم أمامها قلاعه، ويخاطبها بتوسل جنديٍّ أعزل، فقدَ معها أسلحته عن عمد، رافعًا الراية البيضاء وقد خُطَّ عليها رسائل العشق والفن. تمنحه السعادة.. فيمنحها الثرثرة، وبعض الرسائل.
«المرء على أية حال لا يثرثر إلا عندما يشعر مرة بشيٍء من السعادة.»
هل كان كافكا مُحقًّا؟
«ولا ثانية هدوء واحدة قد ظفرت بها، لم أنل شيئًا.. لا يمكنني أن أحمل العالم على كتفيّ؛ فأنا لا أكاد أحتمل عبء معطفي الشتوي فوقهما.»
كافكا الحزين، يتشبّث بآخر قشّة كبعيرٍ يكاد يُقسَم ظهره، ميلينا. إنها المرّة الأولى التي يتحقّق فيها كافكا من أنه ليس حرًّا في اتخاذ قراراته. تُرى هل ستستجيب الأخيرة لنداء الحب؟ أم ستظل على عهدها ووفائها لزوجها الذي ربما لم يستحق أن يُسرَق قلب زوجته ويبقى هو يصارع الخيبات؟ ربما لم يكن كافكا سارقًا، ربما كان ضحيةً هو الآخر لحُبٍّ لم يكن في الحسبان. على كُلٍّ.. الكل في نظر نفسه مجنيّ عليه في جريمة الحُب.. التي لا جاني فيها.
من كافكا إلى ميلينا: «أنا الآن في انتظار أحد أمرين: إما أن تواصلي الصمت الذي سيكون معناه لا تخشَ عليّ أنا في خير حال، أو على الأقل.. بضع سطور قلائل.»
كان كافكا يثور عندما يتأخر رد ميلينا عليه، حتى أنه ذات مرة أرسل إليها: «عليكِ أن تكوني أكثر مسؤولية.»، في عتابٍ رقيق لا يسعك أمامه إلا أن تبتسم. وكان يُحب أن يُطلق على نفسه تلميذ ميلينا، رغم أنه يكبرها بأربعة عشر عام، ولكن امرأة كميلينا تعرف جيدًا كيف تكون التلميذة والمُعلِّمة في آنٍ، وأيضًا رجلٌ مثل كافكا يعرف جيدًا كيف يحب، ويراسل، ويحلم!
«حلمتُ بكِ مجددًا صباح اليوم. كنتِ تعيسة جدًا لأنني تجاهلت سماع صوتكِ الذي يتكلم إليّ. ربما لم أكن أتجاهله ولكن لم أستطع الرد. قول الحقيقة صعب. إنكِ هُنا. مثلي بالضبط حتى أكثر مني. وأنتِ موجود حيث أنا موجودة. علاوة على ذلك.. أنتِ موجود بداخلي أكثر مني.»
ميلينا: أمل كافكا الأخير
انحدرت ميلينا من واحدة من الأُسر التشيكية العريقة في مدينة «براغ»، تلك الأُسر التي يُطلق عليها لقب أشراف تشيكوسلوفاكيا الحقيقيين. ولقد كانت ميلينا على غرار الشخصيات النسائية الإيطالية التي نراها في روايات «ستندال»، عاطفية، باردة، وذكية في قراراتها، لكنها طائشة في اختيار الوسائل عندما تضطرم عواطفها، ويبدو أن عواطفها في فترة شبابها كانت متأججة على الدوام، وكانت فيّاضة في مشاعرها كصديقة، لا يقف حنانها عند حد، كما لم يكن تنضب لها موارد وإن ظلَّ مصدر مواردها تلك غامضًا في أغلب الأحيان.
«وأنتِ يا ميلينا لَو أحبكِ مَليون فأنا مِنهم، وإذا أحبكِ واحد فهذا أنا، وإذا لم يحبك أحد فأعلمي حينها أنّي قد مُت.»
ولقد قاست، وتألّمت في بؤسٍ شديد تحت وطأة الاضطراب الوجداني الثقافي الذي كان يطبع الأوساط الأدبية في مقاهي ڤيينا، ولقد بددت ميلينا خلال تلك الفترة كل شيء إلى حدٍ بالغ التهوّر. بددت حياتها، ومالها، وانفعالاتها، وأحاسيسها الخاصّة، علاوة على تلك المشاعر التي عُرضت عليها، والتي كانت تعتبرها ممتلكاتها غير المشروعة، وكان يسرّها أن تتخلّص منها.
وكانت ميلينا إلى جانب كتاباتها القصصية وترجماتها ككاتبة وصحفية، تهتم وتحرّر مجلات الموضة والأزياء، فاتحةً لها ڤيينا أبواب الفن والأدب والجمال على مصرعيها لتنعم فيها بليالي الأُنس، ولكن ميلينا لم تكن لتنغمس في هذا المناخ الصخب بسبب طبعها القَلِق الذي أشبه بقلق دوستويفسكي، وإن يكن قلقها يتجاوز في حدته قلق دوستويفسكي نفسه إلى أبعد مدى وأوسع نطاق.
«على المرء يا ميلينيا، أن يأخذ وجهكِ بين راحتيه، وينظر مباشرة في عينيك، لعلكِ أن تتعرفي على نفسك في عيني الآخر.»
وعلى الرغم من ذلك فقد كان كافكا يدعوها «الأم ميلينا»، ولم يكن هذا بلا مبرر، ففي هذه الرسائل ذكر كافكا ما تتمتع به ميلينا من عدم قدرتها على أن تسبب فيما يدفع غيرها إلى المعاناة، ولقد كانت هذه حقيقة طالما أعلنها كافكا، على الرغم من معرفته بثورات غضبها التي كان يتغاضى عنها، والتي كانت انعكاساتها المؤسية اللطيفة تملأ الرسائل.
«أُحبّكِ بكل ما فيكِ، من انهيارٍ وتشتُّت وارتباك.»
ولا شك في أنها قد عانت ونالت منها المعاناة. ربما لأن كافكا كان يعاني هو الآخر، ولكنها كانت قد أحسّت أن المُعاناة كانت هي السبيل الوحيد الذي قد يُتيح لها أن تُحقّق نوعًا من الحوار الجذريّ معه. فعلى الرغم من أن المرء قد يُتاح له أن يلتقي بروح كروحه في شوارع الضواحي الهادئة، وفي فنادق ڤيينا، وفوق المروج الصيفية المُعشّبة، إلا أنه لم يكن في وسع المرء أن يندمج بروحه -على الرغم من ذلك- سوى في الجحيم..
«أنني أحاول طوال الوقت أن أنقل إليكِ شيئًا لا يمكن نقله، أن أشرح لكِ شيئًا لا يقبل التفسير. أن أخبركِ بشيٍء يسكن في عظامي ولا يمكن أن تعاني تجربة معرفته فقط سوى هذه العظام وعسى ألا يكون ذلك في الأساس شيئًا سوى ذلك الخوف الذي تحدثنا عنه مرارًا بالفعل. إلا أن الخوف قد امتد إلى كل شيء. الخوف من عظائم الأمور كالخوف من التوافه. الخوف المتشنج كي لا ينطق كلمة. ومن ناحية أخرى فلعل ذلك الخوف ألا يكون خوفًا فقط، لكنه توق في الوقت نفسه إلى شيٍء هو أكبر من كل الأشياء التي تبعث الخوف.»
وكانت ميلينا عندما التقت بكافكا امرأة متزوجة، أما كافكا فكانت قد استغرقته بالفعل علاقاته وخِطباته المتعددة؛ لهذا لم يكن لتعلقهما أيةِ غاية سعيدة، بل لقد بدأ هذا الافتتان العاشق يتحطّم بالفعل بعد فترة لم تكد تبلغ العام.
«أخافُ الأشياء التي تلامس قلبي يا ميلينا؛ لذلك أهرب منها دائمًا، وأهربُ منكِ!»
أما الرسائل التي نتجت عن هذا التعلُّق فهي رسائله إليها، وقد فقدت هي رسائلها إليه، وهذه خسارة بالغة نتج عنها بتر هذه النجوى الغرامية النادرة. ليست رسائل كافكا هذه إلى حبيبته ميلينا، رسائل مؤثرة غاية التأثير في ذاتها فحسْب؛ بل هي فوق هذا رسائل تتجاوز المتوقع بين كاتب فنان كبير، ومعشوقة فنانة، مثقفة، قوية الشخصية، متمردة، مضطربة، بالغة الجاذبية؛ ذلك أننا يسعنا من قراءة رسائله هذه بالذات أن نلتقط لمحة من امتداد شخصية كافكا، لا يسعنا أن نحصل عليها من قراءتنا لكتاباته الإبداعية التي تخلط الواقع بالحُلم لتنتهي بهذا الامتزاج الذي ينصهر فيه الحلم مع الواقع.
-كافكا: رأيت طفلًا يتوسل إلى الإله بالحُب.. فأحسستُ أننا بعيدان كل البعد عن الحُب!
=ميلينا: أنا الطفل وأنت الإله.
ماذا يريد كافكا؟
«نصحتك بالأمس بعدم الكتابة إليّ يوميًا، وما يزال هو ما أراه اليوم وسوف يكون هذا خيرًا لكلينا، ومرة أخرى أعود إلى هذا الاقتراح اليوم، وفوق ذلك فإنني أطلبه بمزيد من الإلحاح – فقط، أرجوك يا ميلينا ألّا تلتزمي بهذا الاقتراح، بل اكتبي إلي يوميًا، على الرغم من ذلك، قد تكتبين في اختصار شديد، رسائل أقصر من الرسائل التي ترسلينها إلي الآن، سطرين فقط، أو سطر واحد، المهم هو أن حرماني من هذا السطر الواحد، سيكون معناه عذابي الرهيب.»
كانت ميلينا في الثالثة والعشرين من العمر حين بدأت علاقتها الزوجية تنهار، وهو ما أدى للانفصال التام. كما فسخ كافكا خطوبته من فليسيه باور التي ترجاها الليالي لمدة خمس سنوات كي تقبل به. ففي رسالة لفيليس باور قال: «أنتِ دائما عند نقطة الزوال تمامًا، وأنا عند نقطة إنهاك نفسي بنفسي.» كان يضغط عليها بحبه كمطرقةٍ تدق على مسمارٍ نحيلٍ بلا رحمة، فرضخت لرغبته رغم ما يراودها من شكوك حياله. فهي لا تشعر نحوه بالدفء وهما يجلسان على ذات الأريكة. وكيف لها ذلك وهو الذي فسخ خطوبته مرتين قبل الزفاف بأيام قلائل، وبها يُتمّ الثالثة.
«كلما حاولت أن أرفع عيني إلى وجهك.. كلما اندلعت النيران عندئذ.. فلا يسعني أن أرى شيئًا بعد ذلك سوى النيران، ذاك البريق الذي يسكن عينيك.. يزيل معاناة العالم.»
ويحقّ القول أنّه كان يعاني من فوبيا الزواج. وعلاقته بالأطفال ليست جيدة أبدًا، وتخلو من الود. فقد تعرض لمحاولات عديدة للتخلص منه، تقودها ثلاث شقيقات صغيرات يقيم معهن، أكبرهن تكاد تبلغ الخامسة. وكان يصفها بمحاولات قتل، بينما أمه التي تكور بطنها وزوجها يضحكان على عراك الأطفال المستمر معه.
«قليلة هي الأشياء المؤكدة، و أحدها هو أننا لن نعيش معًا مطلقًا.. في نفس الشقة، جسدًا لجسد، و نجلس إلى نفس المائدة.. أبدًا.»
كافكا لم يكن بحاجة لتبادله ميلينا الحب- كما ثقافتها وإرادتها وجمال ذهنها وحضور روحها. إيمانها كناقدة، به ككاتب لم يكن سببًا محوريًا لهذا التعلق والافتتان بها. تعلّق سرعان ما تحوّل لعشق ناضج، حاولا تبديده بعقلانيتهما، لكنه لم يصل أبدًا حد الزوال. وقد ترجمت هذا بوادره القصصية القصيرة التي مهدت لحياته الأدبيّة. فعبّر عن مشاعره تجاهها بأبسط الكلمات.
«أنتِ تنتمين إليّ حتى ولو قُدّر لي ألا أراكِ مرّة ثانية على الإطلاق.»
نهايةٌ لن تُروى
«الجو كئيب، أشعر بقلبي يثقل بين ضلوعي، فلم أستلم منك رسالة بعد، أعرف أنه مازال باكرًا أن أستلم منك رسالة، لكن.. أشرحي ذلك لقلبي!»
على عكس مُعظم قصص الحُب التي كانت ترويها لنا الجدّات والتي عادةً ما تُتوَّج بنهاياتٍ سعيدة يُقبّل فيها الأمير حبيبته، كانت نهاية كافكا وميلينا لا تختلف كثيرًا عن حياتهما، بائسة وحزينة؛ فبعد عامٍ من غرامهما، هاجمَ السُّل جسد كافكا المسكين، وأما ميلينا فقد قبعت سجينة في السجون النازية لا يعلم عنها أحدٌ شيئًا.. في حكايةٍ لن ترويها الجدّات أبدًا!
كان بإمكاننا إصلاح الأمور
أن تكوني أنتِ الطرف الأفضلوتتنازلي قليلًاكما كنت أفعل أنا!كان من المُمكن أن تستمري بقوْل صباح الخير،وأنا بدوري أنتظر الصباح لكي تقوليها..وتودعينني ليلًا، وأغلق الكونَ بعدكِ!ما أشعر به ليس حُبًّا يا ميلينا!أو قد يكون حُبًّا،ولكن ليس كما تتخيلينه..إنهُ أكبر من ذلك!انا الآن من دون روح، من دون إحساسومن دون أي شيء!لم أشعر يومًا أنني بحاجة أحد كما أشعر الآن!صدقيني يا ميلينا، أنتِ روعة الأشياء البائسة..وأنتِ الحياة لكل جذوري اليابسة،أفتقدكِ كثيرًا،أكثر مما تخيلتُ بأن الفقد مؤلم!ما الفائدة من إغلاقكِ للأبواب،إن كانت روحي عالقه على جدران بيتكِ؟!أنتِ الآن تُزيدين البُعد شوقًا..أفتقدكِ..*وعدٌ..سيكون هذا آخر ما أكتبه إليكِ..
وداعًا.. يا عظيمتي..
كتابة وإعداد: هبة خميس
المصادر:
ترجمة الدسوقي فهمي فرانتس كافكا.رسائل إلى ميلينا. ص352, دار آفاق للنشر والتوزيع, 2017.