يستعد عامنا الحالي إلى حزم حقائبه للانصراف، وبدأ كلٌ منا في لملمة قُصاصات أوراقه ودفاتره في تلك الأيام المتبقية للتهيؤ لدقائق جديدة من عامٍ قادمٍ، وفي وسط انشغالي بذلك، إذا بورقةٍ من بين أوراقي المُبعثرَة تجذ عيني إليها تحمل كلمة «عمَّار الشريعي». ارتبكت أفكاري وتداخلت وأخذت اتفلسف وأطوّع المنطق لخواطري التي أصابها التشوُش، عمار الشريعي.. هل هذا اسم؟ أم صفةً؟ أم جملةً موسيقيّةً؟ لا، بل نغمة تخاطب الروح تحمل داخلها نوتةً موسيقيَّة تضم جميع المقامات.
ازدات حالتي صعوبة، فلم استطع ترتيب جملة من الكلمات المفهومة لاستوعبها ،وأمسك بها خيطًا يقودني نحو تفكيرٍ مُنظَّم، فقد كان عقلي مشغولًا بشريط موسيقي بدأ يستحوذ عليه شيئًا فشيئًا ليجعل من ذاته موسيقى خلفية مصاحبة لأفكاري التي انسحبت بالسنين إلى الوراء حيث كان لقب طفلةٍ يليق بي. كنت حينها افترش الأرض وأوجّه نظري إلى رجلٍ على شاشة التلفاز، ينطق بكلمات لا يستوعبها عقلي الصغير عن الموسيقى، وجميع من حوله يتحدثون عن عبقرية الكفيف الجالس بينهم، لكنني لم أره!…
تساءلت في حيرة، جميع من يجلسون بُصراء، فأين هو ذلك الفاقد لنور عينيه؟!، ثم أصبح الاندهاش سمتي ووصفي حين عرفت ممن حولي بأنه هو الكفيف!. كيف يكون ذلك! فعينا ذلك الرجل تضيئان كما القمر في دُجى الليل، مثل شمس أصيل ساطعة تسقط أشعتها في عيون الناس فيعجزون إلا عن رؤية ضوئها الذي تحكّم في نظرتهم لما حولهم، فبدأت انجذب لسيرته، وكلما زاد عمري عامًا، زاد الانبهار بمُبصِر العينين هذا، واشتد تعلقي بجمله الموسيقية، وما زلت..
تركت كل شيء وبدأت أبحث في كل ورقة تحدَّثت عنه وقعت عليها يدي، وفي كل جملة موسيقية انجذبت لها أذناي، وانفصلَت نفسي عني وأصبحنا كشخصين يتبادلان أطراف الحديث…
منذ أن وُجد على البسيطة، كان نور عينيه منطفأ لضعفٍ في عصبه البصري، وكأن المنيا تأبى إلا أن يبصر أبناؤها على طريقتهم الخاصة -ولنا في الأديب « طه حسين » مثال-.
كان ذا حسب ونسب، فقد كان جده لوالده «محمد باشا الشريعي» نائبًا بالبرلمان المصري، وأحد كبار مُلاك الأراضي الزراعية، وجده لوالدته «مراد الشريعي» عُدّ من ضمن وفدٍ مصريّ حكم عليه الاحتلال الإنجليزي بالإعدام لنضالهم، وبتبعية النسب الكبير أصبح والده فيما بعد من كبار ملاك الأراضي الزراعية، ونائبًا في مجلس الأمة عن دائرة «سمالوط» في عهد ثورة 1952م(1).
معرفة سيرة ذاتية لشخصٍ بهذا الشكل، أكّد لي أنني سأكون أمام وزير أو سياسي أو أستاذ جامعي أو أديب مخضرم في أيام مستقبله القادمة، لكنني وجدت بين أبٍ عمله الرئيس في الخيول، وبين أمٍ تحفظ من الفلكلور الصعيدي ما يملأ كتبًا، ينشأ هذا العمّار فرسًا جامحًا بلا لجامٍ، غايته أن يحيا حياة إنسان طبيعي لا ينقصه شيء كما علّمه والده، بعيون ترسم الدنيا بمقاييس غير عادية، وأذن تنصت لأغاني الفلكلور الشعبية وتخزّن آثارها في قلبه حتي تحين لحظتها.
على يد مدرس التربية الرياضية وهاوي الموسيقي بالمركز النموذجي لتعليم وتوجيه المكفوفين «عبد الله محسن»، وبعد مراسلته لمدرسة «هادلي سكول» الأمريكية للمكفوفين لمساعدته على رعاية موهبته الصغيرة، استطاع عمار أن يصادق ألتيّ البيانو والأكورديون لدرجة أن من حولّه تشككوا في عماه لقدرته الكبيرة على العزف كالمبصرين.
واسترعى انتباهي في البحث عن بداياته أنه ترك آلة الأكورديون فترة؛ لرغبته في تعلم العزف على آلة العود الشرقية الأصيلة، ليتسنّى له ذلك، ثم يعود لاحقًا بعد وقت ليس بالقليل إلى آلته الأكورديون، ولكن ليس من نفس الباب الذي غادر منه بل من باب نبوغٍ؛ إذ سجَّلته الإذاعة المصرية عازفًا أول لهذه الآلة، وكان فضل دخوله الإذاعة يعود إلى الموسيقار «عبد الحليم نويرة» (2) الذي رأى فيه بذرة فنّان استثنائيّ.
الفن في مجمله، والموسيقى تحديدًا ليست طريقًا مفروشًا بالورود، بل أحيانًا يفترشه الشوك عندما يتعلق الأمر بالأهل، فكان سؤالي عن رد فعل أسرةٍ بهذا الشكل تجاه ابنها الذي بدأ عشقه للموسيقى يتفتّح منذ الصغر يلح عليّ بشدة، يا ترى كيف نظر الوالد إلى هذا الأمر، وماذا فعلت الوالدة؟!..
الأب كان من نوعٍ فريدٍ، تفكيره ليس بالعادي، نظرته بعيدة الأفق، فقد رحب بالموهبة الموسيقية لابنه لدرجة أنه أراد ان يسافر عمار إلى إيطاليا لدراسة أصول الموسيقى، لكن الموت كان أسبق إليه ليترك ابنه بأعوامه السادسة عشر، أما والدته فكان الغضب وسيلة تعبيرها عن عدم رضاها، فقد كانت تخاف عليه الوسط الموسيقي وما يستتبعه من آفات مثل السهر وفوضى الوقت، ففرضت عليه أوامر قاسية مثل غلق باب البيت في وجهه في ساعات الليل المبكرة، لكن هذا لم يثنيه عن حلمه الذي ما لبثت الأم بعد وقتٍ أن اقتنعت فيه وتركته يحوله لحقيقة.
استرحت لدقائق من سبْر سيرة عمار الشريعي، وبدأت أستغرق في أفكاري حول فنه، لتشاركني نفسي الحديث:
– يا لتلك الموهبة العظيمة!
= حقًا، كم من الرائع معرفة كل تفصيلة من حياة هذا الرجل.
– صدقتِ، فإنها مدعاةٌ للتأمل في قدرات النفس البشرية التي تعجز أمامها مفردات الاستحالة.
= كلُ ذلك بفضل ثقافته الموسيقية الواسعة، والتي تكوّنت بالأساس من خلال دراسته الموسيقية.
– دراسة موسيقية! لكن لم تكن دراسته الأكاديمية موسيقية.
= إذن! فمن أين استمد حسه الموسيقي الذي جعل منه أستاذًا في هذا المضمار؟
– إلى جانب الفلكلور، كان عمار متذوقًا للقرآن الذي اعتبره غذاءه الروحي، فقد انجذب لكل قارئ كان يجيد التلاوة بالمقامات الموسيقية.
= والدراسة الأكاديمية؟!!
– يا لكِ من نفسٍ خُلقَت لتشقيني!.. كفى كلامًا ولنكمل ما بدأناه…
لقد كان حديث نفسي خاطئًا، فالدراسة بالتأكيد لها المعيار الأول لكل شيء، ولكن الموهبة لا معيار لها، فدراسة عمار الشريعي أدبيّة بامتياز، فقد تخرج في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب(3)، ثم خاض السنة التمهيديّة للحصول على درجة الماجستير، واختار موضوعه عن «كذبة الحياة في أدب النرويجي هنريك إبسن»(2) ، لكن سحر الموسيقى تملّكه وجذبه لتياره.
بدون أية مساعدة أو عصا يتوكأ عليها، بدأ من الصفر، وجاب الملاهي الليلية وعمل بها عازفًا، ولم يتبرّأ يومًا في حياته من هذا، ثم ارتقى بدايات السلم الفني بالعمل مع الفرق الموسيقية المعروفة آنذاك، مثل فرقتيّ «صلاح عرّام وحمادة النادي»، كما كان يسامر الأصدقاء ليلًا ليُخرج من دندناته لحن أوَّل أغنية له «امسكوا الخشب» للفنانة «مها صبري»(1)، لتنجح نجاحًا ملحوظًا، وتكون حسن فأل له، فالبفعل على الكل أن يستعد ويمسك الخشب للموهبة القادمة.. موهبة عمار الشريعي.
أراد عمار أن يصرخ عاليًا ليسمع الجميع صوته أكثر، فخرج صراخه رنين عود يتغزّل بمحبوبته، أغنية «أقوى من الزمان» للفنانة «شادية»، أو أنشودة وطنية(1) كما يحب بعض الموسيقيين أن يطلقوا عليها. كان المعهود أن الأغنية الوطنية هي توليفة من الآلات الموسيقية ذات الصوت المرتفع لتُحدث أثرًا قويًّا في النفوس، بينما عمار زرع هذا الأثر بنعومة الحديث الرشيق بين الأدوات الوتريّة التي تتحدث بصوت شموخ أوركسترالي وكبرياء وطن، وصولو «الفلوت» الذي يقطر حنينًا. لنكون في نهاية الأمر ليس أمام مُلحن فحسب، بل مؤلف موسيقي مقاماته هواء يستنشقه ويشكله كما يريد، وتتوالى النجاحات….
بحثت بعد ذلك عن الفرق الموسيقية التي كان لها تأثير في الموسيقى المصرية وطريقة تذوقها في فترة الثلث الأخير من القرن العشرين، وأسفر البحث عن عدد لا بأس به من الفرق، من بينهم فرق: «المصريين» التي كوّنها الموسيقار «هاني شنودة» في أوخر السبعينات، و«الفور إم» التي شكّلها الفنان «عزت أبو عوف» في نفس الفترة، و«طيبة» في بداية الثمانينات على يد «حسين الإمام ومودي الإمام».
استهوت فكرة الفرق الموسيقية الشريعي، ووجد فيها ضالته في صنع توليفة بين الآلات الغربية والشرقية، ويرأسهما آلة «الأورج أو الكيبورد» الذي كان الشريعي عالمًا بكل تفصيلاته، لدرجة أنه أصبح لا يفتى ومالك في المدينة في شأن هذه الآلة، حيث أدخل نغمة «الربع تون» الشرقية إليه ليجعل الأورج يتحدث بالعربية. انطلقت الفرقة لتشهد مصر طفرة موسيقية قوامها ألحان جدّد فيها عمار دماءه، وكلمات جريئة من الشاعرَيْن «عُمر بطيشة وسيد حجاب»، وتبدأ فرقة «الحلوين تحت العشرين» نشاطها في بداية الثمانينات، بطلبة معهد الموسيقى: «منى عبد الغني، وعلاء عبد الخالق، وحنان»، وتقدم مجموعة كبيرة من الأغاني الناحجة مثل: الحدود، مع الأيام، مطلوب موظف، والموضات، وغيرها.
وينجح عمار هنا أيضًا…
– أتعلمين!.. كانت موهبة عمار بحجم الكرة الأرضية تقريبًا، لكن هناك أسباب أخرى أعطت تلك الموهبة رونقًا.
= الدعم الذي تلقاه من والده، إيمانه هو شخصيًا بتلك الموهبة التي تمسك بها، رغبته الجادة في تقديم فن جديد وهادف.
– صحيح.
= وكذلك دائرته الفنية المحيطة به، والتي تعد من أحلى صدف حياته على الإطلاق.
– وكيف كذلك؟
= تأثر عمار تأثُرًا شديدًا بعمالقة الموسيقى ممن سبقوه، أمثال: محمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي ومحمود الشريف وغيرهم كثير، لكنه كان كثير الحظ عندما تلاقى طريقه الفنيّ مع أناس مشابهين له في التفكير، ولديهم نفس المخزون من الفن الراقي بداخله.
– مثل من؟ّ!
= الشاعر «سيد حجاب».
– ويا له من شاعر، يتمنّى المرء لو يقابل صدفًا في حياته بجمال ورقة وعذوبة سيد حجاب…
كانت العلاقة بين الموسيقار عمار الشريعي والشاعر الغنائي سيد حجاب قصة كفاح بدأت منذ العام 1978م. أسمع عمار حجاب كل ما لحّنه من أعمال وما ينوي تلحينه، وأسمعه هو الآخر ما كتبه وما ينوي كتابته، فوجد كل منهما في الآخر مُترجمًا للفن الذي يستوعبه ويفهمه؛ حيث شعر عمار أن حجاب ينطق بالكلام الذي يريد سماعه، وحجاب وجد في ألحان عمار الموسيقى التي يبحث عنها، فقررا بدء المشوار، حيث اعتبر عمار أن سيد حجاب أفضل من يجيدون الكتابة للدراما إلى جانب الشاعرين عبد «الرحمن الأبنودي وعبد السلام أمين»(2).
اجتمعا معًا وقدما أروع أعمال الموسيقى الدرامية لتظل علامات في تاريخ الموسيقى المصرية مثل مسلسلات: وقال البحر، الشهد والدموع، وأرابيسك، وحلم الجنوبي، والعائلة و …
– ما بكِ؟ لم توقفتِ، أهذا ما تذكرينه فقط من أعمال الثنائي الرائع؟!
= لا، ولكن هناك موسيقى لأعمال درامية بدأت تداعبني.
– مثل ماذا؟
= تتر «مسلسل أبنائي الأعزاء.. شكرًا»، أو كما يطلق عليه البعض «بابا عبده».
– وما قصته معكِ؟
= مقدمة المسلسل الموسيقية لا تنم إلا عن ذكاء متقد لعمار، أُنتج هذا المسلسل عام 1979م حيث الانفتاح في أقوى صوره، وقصة المسلسل كانت تروي حكاية والد يذهب أبناؤه كلٌ في اتجاه في زمن يحكمه الانفتاح، فأراد عمار أن يجمع بين الصورتيْن في مشهد موسيقي، بتركيب كلمات سيد حجاب الرشيقة على موسيقى شبيهة بإعلانات زمن الانفتاح(1) في مشهد ساخر مُبكي في أن واحد.
– وما القطعة الموسيقية الأخرى التي أعجبتكِ؟
= موسيقى مسلسل «الأيام»، إنها…
– لالا، اتركيني أنا لأحدثِك عن ذلك العمل الرائع، عمار الشريعي في هذه العمل الدرامي كان طه حسين بذاته؛ حيث نافس الفنان «أحمد زكي» في تجسيد دور الأديب، فيستطيع الجمهور أن يرى عمار يقفز بموسيقاه في كل مشهدٍ معبرًا عن ما يدور في خلجاته أو خلجات طه حسين، لا يهم فالاثنان شخص واحد هنا، فبينهما الهم واحد والحزن مشترك والنجاح شعار نهاية طريقهما…
كما كان لعمار أعمالًا موسيقية بإمضاء شعراء آخرين غير سيد حجاب ونجحت نجاحًا كبيرًا أيضًا، مثل: الجزء الأول لمسلسل أبو العلا البشري وشيخ العرب همام والرحايا للشاعر عبد الرحمن الأبنودي، زيزينيا والجزء الثاني لمسلسل أبو العلا البشري للشاعر «أحمد فؤاد نجم،» وحديث الصباح والمساء للشاعر «فؤاد حجاج».
كان عمار الشريعي يرى أن الموسيقى الدراميّة، أو كما اعتاد الجمهور على تسميتها بالموسيقى التصويرية، هي أعلى أنواع الموسيقى وأقربهم لنفسه، فقد استطاع أن يجعل الجمهور يحفظ أعمالًا موسيقية بحتة بدون أي كلمات ويتعلقون بها، ويجعل عقولهم وقلوبهم تنصت إليها قبل آذانهم، ولنا في أعمال: الراية البيضا، ودموع في عيون وقحة، وأم كلثوم خير دليل، إلى جانب الأعمال الدينية مثل: رجل الأقدار(4) وهارون الرشيد، وذو النون المصري.
– تصرين على النسيان!
= نسيان ماذا؟!
– كيف تأتي على ذكر كل هذه الأمثلة ويسقط من ذاكرتك العمل الموسيقي الرائع لمسلسل «رأفت الهجان»!
= العقل لا ينسى جزءًا من تكوينه، عمل رأفت الهجان هو ذاته عمار الشريعي بكل ما يمتلك من قدرات لحنيّة ومعرفة بطبيعة المقامات الموسيقية.
– لا أفهم، وضحِ أكثر.
= عمار الشريعي كان يعشق تراب وطنه، وظهر هذا جليًا في موسيقى هذا العمل، فقد ألّف موسيقى تحكي قصة العمل قبل أن تراه، أحس ببطل العمل وكل ما يدور داخله من أفراح تتعلق بانتصار وطنه وعذابات بُعدُه عنه. انهى الشريعي موسيقى هذا العمل في سبع وثلاثين ساعة متواصلة، ليثير داخل كل من يسمعها استفهامات التعجب.
– ومن أين تأتي استفهامات التعجب تلك؟!
= حملت موسيقى العمل التضاد المثير للدهشة؛ تبدأ الموسيقى عنيفة ونسمع صرخاتها التي تهز القلب وتثير دهشة العقل، ليشعر بعدها المستمع بأنه في مكان غير بلده باستخدام آلة «الكورنو»، ثم يحس عمار داخله باشتياق وحنين البطل إلى وطنه فيستخدم آلة «الكَوَلَة» (الشبيهة بالناي) والتي يستخدمها فلاحو وطنه الذين هم مِلح الأرض، كما يعبر عن التداخلات التي تحدث داخل نفس البطل، فيجمع بين العود والناي(1)…
السينما.. حلم عمار الشريعي الذي أبعده الكثيرون عنه، وسعى بكامل قوته التي يحملها في نفسه إلى الدخول في معتركها، لكن لا استجابة لمن حوله، وبعد إبعاده عن حلمه لسنوات، أخيرًا، تحقق الحلم الذي كان يرى أنه تأخّر عنه، ولكن المهم أنه تحقّق…
– لحظة.. ما سبب منعه من التلحين للأعمال السينمائية؟!
= كان مبرر الرفض أنه أنّى لكفيف أن يؤلف موسيقى للسينما وهو لا يرى مشاهدها.
– ثم؟
= استمرت هذه الحال إلى أن أصرت الفنانة شادية على أن يلحن لها فيلمها «الشك يا حبيبي» عام 1979م، ليحقق نجاحًا ويثبت أن الرؤية لا تتعلق بالعيون، طالما هناك مخيلة تتلمّس الواقع.
– بالفعل، وكانت بداية لأعمال حافلة بالنجاح أثرت السينما المصرية، لكن لكي نوضح هذا الإبداع، لنذكر مثالين لأعماله السينمائية؟
= موافقة، لنبدأ بفيلم «حب في الزنزانة» من بطولة الفنان «عادل إمام» والفنانة «سعاد حسني». في إحدى مشاهده حيث يرى البطلان بعضهما لأول مرة من نوافذ السجن، يمنح كاميرا البطل آلة العود، وكاميرا البطلة آلة الفلوت، وفي لقطة الكاميرا التي تجمع بينهما يمزج الآلتين، وعند سقوط منديل البطلة في لحظة حزن تطير جميع الآلات الموسيقي في جملة موسيقية حزينة(2).
– كيف فعل ذلك وهو لا يرى المشهد؟!
= لقد قاس عمار حركة الكاميرا بمقدار العشرة من الثانية الواحدة، وطوع الموازين الموسيقية وفقًا لهذه المقاييس، وبالمناسبة، حاز على جائزة وزارة الثقافة لموسيقاه التصويرية عن هذا الفيلم.
– رائع!!.. هل هناك نموذج آخر؟
= نعم، نموذج جميل ورشيق، وبسيط أيضًا، لكنه بنى منه إبداع كعادته، موسيقى فيلم «الأراجوز» التي كتب كلماتها الشاعر سيد حجاب على غرار المُسامر الشعبي الذي يحدث تفاعل في الغناء بينه وبين جمهوره. جعل عمار منه جملة موسيقية بسيطة تشعر المستمع أن الفنان «عمر الشريف» يغني منذ سنوات، وأنه يمكن أن يكون مؤديًا تستسيغ الأذن صوته إلى جانب كونه ممثلًا.
– وبالطبع اندرج هذا الأمر على فن الاستعراض؟
= كان يؤلف ألحانًا رائعة طبقًا للتصورات التي يصدّرها له مخرج العمل ومصمم الحركات.
– وماذا عن صوته، ألم يغني ولو مرة واحدة؟
= كيف ذلك! فقد تمتّع بصوت ذي نبرة دافئة. شارك في غناء تتر البداية والنهاية لفيلم «كتيبة الإعدام»، وأدّى أغاني فيلم «البرئ»، وكذلك بعض المسلسلات التليفزيونية مثل المشاركة في مسلسل «عصفور النار»، وغناء رباعيات داخلية في مسلسل «ريا وسكينة»…
المسرح الذي كان يرغب عمار الشريعي في أن يكون أبًا لفنونه كلها التي خاض فيها بحورًا وبحورًا فأحسن الوصول إلى شاطئ الفن، أبدع فيه كعادته بتقديم مجموعة من أعماله الموسيقية في مسرحيات مثل: علشان خاطر عيونك، والكل في واحد، وشباب امرأة، والواد سيد الشغال. لكن ظلت تلك الأعمال تمثل نذرًا قليلًا من قدرات عمار وإمكانياته، فعمار كان يعشق المسرح، وينمنى لو أنه وُجد في زمن المسرح الاستعراضي والغنائي حيث اليد العليا له، لذا، دائمًا ما رأى نفسه عاشق المسرح سيء الحظ.
– وبذلك يكون عمار الشريعي قد غطى معظم جوانب استخدامات الموسيقى المتعارف عليها.
= بقيت فئة شاءت الأقدار له أن يخاطبها، وتلقت إبداعاته بحب رغم عدم قدرتها الكبيرة على استيعاب الموسيقى.
– بالطبع تقصدين الأطفال.
= نعم، وكان ذلك بالصدفة البحتة؛ حيث كان من المفترض أن يؤلف الملحن الكبير «بليغ حمدي» موسيقى كلمات أغاني كتبها الشاعر سيد حجاب للأطفال، ولانشغاله آلت إلى عمار الذي من فرط إعجابه بها؛ قام بتلحين سبع أغنيات من أصل تسع في ليلة واحدة(2)، ثم وقع اختيار عمار وحجاب على صوت الفنانة «عفاف راضي» التي تحمّست، وكان اختيارًا موفقًا، فقد كان صوتها -كما اتفقا الفنانان- صديقًا للطفل وليس واصيًا عليه(1)…
شهدت مصر في الفترة من أواخر الخمسينات وحتي أوائل الستينات ازدهارًا فنيًا، حيث رأى الشريعي أن الفن في تلك الآونة كان مواكبًا لكل ما يحدث في المجتمع، حيث مثّل طاقة مُجمِّلة لمجتمعٍ ليس بالقبيح، فكان يدفع إلى بناء السد العالي، ويقف مع ثورة الجزائر، ويساند عاطفة نبيلة، بينما في وقتنا الحالي، انفصل الفن عن المجتمع، فأصبح المجتمع بمشكلاته في اتجاه، والفن في اتجاه آخر، وبعدما كان الفن في أول القائمة، تراجع دوره إلى المرتبة التاسعة أو العاشرة، وبقى وكأنه شيء مصاحب في خلفية الأحداث، وانخفض الرسم البياني لحرفية الغناء والموسيقى(2).
لم يكتف الشريعي بوضع الأسباب وبناء النظريات، ولكنه حمل على كاهله هذا الثقل من أعباء الفن، وأراد أن يسهم في الارتقاء به، فكانت النتيجة مجموعة من البرامج الإذاعية والتليفزيونية، التي سعى من خلالها إلى تقديم تحليل مُبسَّط للجمل الموسيقية بشكل حسي يفهمه رجل الشارع. ومنها البرنامج الإذاعي الشهير: غواص في بحر النغم، وبرنامج مع عمار الشريعي، بالإضافة إلى البرنامجين التليفزيونين: سهرة شريعي، والمسحراتي.
– ولا تغفلين أيضًا أن عمار الشريعي قدم ألحان لأوبريتات احتفالات أكتوبر التي كانت تقيمها القوات المسلحة المصرية بالتعاون مع وزارة الإعلام!
= حقًا، ففي فترة امتدت لاثنى عشر عامًا شارك في تلك الاحتفالات بعددٍ كبيرٍ من المؤلفات الموسيقية صاحبة العلامات المميزة مثل: على الخريطة، واخترناك وغيرها، ويمتنع بعدها عن تلك الاحتفالات لمدة وصلت لعشر سنوات.
– وهل تعارضت أعماله هذه مع موقفه من ثورة يناير؟
= مطلقًا، فقد كان من أوائل من أعلنوا تأييدهم لهذه الثورة قبل أن يرى نتيجتها النهائية، ولكن..
– ولكن ماذا؟!
= كانت هذه المرحلة بداية النهاية لعمار، فقد أتعبه حزنه على وطنه الذي تغنى بألحانه له، ولم يستطع قلبه الذي طالما أتعبه منذ سنوات أن يرى مصر في مفترق طرقٍ صعبة، فرحل…
صال عمار الشريعي وجال في ميادين الموسيقى الفسيحة، ما بين الأغاني بتنوعاتها الكثيرة، والموسيقى الدرامية التي وضع لها أسس مشى عليها لاحقيه، وروائع سينمائية لا زالت تدرّس، واستعراضات رشيقة تراقصت على أنغامها القلوب، وأعمال مسرحية ذكرتنا ببوادر المسرح الغنائي، وهدايا موسيقية للأطفال كانت خير معين للأسر على تربيتهم.
فسجل أكثر من أربعين عملًا للسينما، ونحو ستين أخرين للمسلسلات التليفزيونية، وما يقارب أصابع اليدين في المسرح، وعشرات وعشرات الأغاني. صحيح أنه لا يسعنا كتابة جميع أسماء هذه الأعمال، لكن يكفي أن نقول أنها تندرج بشكل علمي وموضوعي ودون تحيز إلى ما يطلق عليه «فن» بكل ما تحمل الكلمة من قواعد ومعايير مشى عليها بحذافيرها ممتطي الإبداع وسيلة وغاية إليه. إلى جانب اصطياده لعدد من المواهب الفنية والإسراع إلى تبنيها من أمثال: هدى عمار وأحمد علي الحجار وسماح سيد الملّاح، وعلى إثر نجاحاته نال العديد من الجوائز تقديرًا لما فعله من داخل مصر وخارجها.
– هل نجح عمار الشريعي في رفع مستوى أذواق الجمهور في اعتقادك؟
= واجه الفن وما زال صيحات لا تمسه من قريب أو بعيد، وجاراها الجمهور، لكنهم مقتنعين في داخلهم أن هذا ليس فنًا، وأن هناك أناسًا اجتهدوا لتعريفهم بالفن الحقيقي وعلى رأس هؤلاء عمار الشريعي.
– وهل ما زال أحد يتذكر ما أبدعه عمار في الموسيقى؟
= عمار لم يكن مجرد إنسان انتهى ذكره بموته، بل إنه نغمة ترددها الألسن وتحتضنها الآذان.. عصية على أن يوقفها العقل وذلك القلب مؤمن فيها.
– ومن هو عمار برأيكِ؟
= هو خلاصة الفن التي صاغها سابقيه، فهو محمد عبد الوهاب في ابتداعه للجديد كما فعل في الموسيقى التصويرية، وبليغ حمدي في تفرده اللحني، ومحمد فوزي الذي غنّى للأطفال، وسيد درويش الذي رغب في أن يعلم الناس الموسيقى.
رحل عمار الشريعي بعد أربع وستين سنة مرت بسرعة الريح لتطيل عمرنا نحن بأزهار إبداعاته، بعد أن أرانا الدنيا بعيونه.
ونكفي أن نتشاطر الحزن مع رفيق دربه الشاعر سيد حجاب الذي رحل بعده بخمس سنوات، عندما رثاه قائلًا:
يا خي روحي.. يا روح حرة.. يا كروان زماني
مع مين هفضفض وابوح إذا رماني زماني!
هتروح ورا الريح .. وانوح عليك أنا والأغاني
….
وكلنا مروحين…
وكل حي في معاده حين يحين الحين
بس إحنا إن رحلنا برده مش رايحين
هنعيش في ريم وفي مراد
وفي دندنات الولاد بغنوة فارشة على ممشى الشقى رياحين
إعداد: هدير جابر
المصادر:
- فيلم “عمار الشريعي.. نغم في وجدان وطن”، قناة الجزيرة الوثائقية، عام 2016م، متاح من خلال: https://www.youtube.com/watch?v=e6S_m3vg8KE
- برنامج “من الألف إلى الياء”، حوار الإعلامي طارق حبيب مع الموسيقارعمار الشريعي، متاح من خلال: https://www.youtube.com/watch?v=zH5muo8z9i0
- إيهاب حامد، محمود عبد الفتاح، تفيدة أحمد، راجي إبراهيم، إسلام عادل (2018)، “أسلوب صياغة التراكيب الإيقاعية المستحدثة على آلة الدرامز لمقدمة موسيقى برنامج سهرة شريعي (دراسة تحليلية)”، مجلة التربية النوعية، العدد السابع، ص ص 131-160.
- شيرين عبد اللطيف (2010)، “أسلوب صياغة ألحان المقدمات الموسيقية الغنائية لبعض المسلسلات التليفزيونية الدينية”، المجلة الأردنية للفنون، المجلد الثالث، العدد الأول، ص ص 1-22.