في سبعينات القرن الماضي أدرِجت نظرية النموذج القياسي التي تصف الجسيمات الأولية المكونة للمادة بدقة شديدة وهي (الفيرميونات) والجسيمات حاملة القوى (البوزونات)، وتعد أفضل تفسير لكيفية ارتباط الجسيمات الأولية والثلاث قوى الأساسية المكونة للكون (ما زالت الجاذبية غائبة عن النموذج القياسي).
الفرميونات أو جسيمات المادة
تنقسم إلى مجموعتين: الكواركات واللبتونات، وكل مجموعة تتكون من ٦ جسيمات:
الكواركات: جسيمات تتواجد دائمًا في حالة ترابط إما ثلاثية لتشكل الباريونات أو ثنائية لتشكل الميزونات. وتتكون من: الكوارك العلوي والسفلي (وهما الجسيمان الأخف وزنًا والأكثر استقرارًا ليشكلوا البروتونات والنيوترونات)، بالإضافة إلى الغريب والجذاب والقمِّي والقعري، وهذه الجسيمات غير مستقرة، وتنتج عند طاقة عالية كما في الإشعاع الكوني أو مسرعات الجسيمات، وسرعان ما تتحول لجسيمات أكثر استقرارًا وتتواجد بأحد الألون الثلاثة: الأحمر والأخضر والأزرق.
اللبتونات: جسيمات توجد بشكل مستقل، تتكوّن من: الإلكترون والإلكترون نيوترينو (وهما الجسيمان الأخف وزنًا والأكثر استقرارًا)، والميون والميون نيوترينو، والتاو والتاو نيوترينو.
البوزونات أوالجسيمات حاملة القوى
الفوتون: الجسيم الحامل للقوة الكهرومغناطسية؛ حيث تتبادل الجسيمات المادية المشحونة، الفوتونات، منتجة حقولًا كهربائية ومغناطسية. وتحافظ القوة الكهرومغناطسية على تماسك النواة في ارتباط الإلكترونات بالذرة.
الغلوون: الجسيم الحامل للقوة النووية القوية يعمل على ربط الكواركات معًا بقوة أكبر من القوة الكهرومغناطيسية، لتشكل النيوترونات والبروترونات، التي ترتبط معًا لتشكل النواة.
فبدون القوة الضخمة، ستفجر كل نواة نفسها إلى قطع صغيرة.
البوزن W+و W-و Z0: الجسيمات الحاملة للقوة النووية الضعيفة المسئولة عن التفكك الإشعاعي والاندماج النووي. فعندما يتحلل النيوترون إلى بروتون، يكون البوزون Wهو المسئول.
بوزن هيجز: تساءل العلماء عن سبب كون بعض المواد لها كتلة (الكواركات واللبتونات والبوزونات W و Z)، بينما البعض الآخر ليس له كتلة (الفوتونات والغلونات)، مما أدى إلى افتراض وجود جسيم يعطي للمواد كتلة بناءً على التفاعل معه، وسُمّي «جسيم هيجز»، وأُثبِت وجوده داخل مسرع الجسيمات بسويسرا عام ٢٠١٢. وجسيم هيجز متعادل الشحنة الكهربية والعزم المغناطيسي له يساوي الصفر.
تختلف الفيرميونات عن البوزونات في بعض الخواص
تحتوي الفرميونات على نصف عدد كمي مغزلي متكامل (½ ، 1½ ، 2½ ، وما إلى ذلك)؛ بينما البوزونات لها أرقام كمية مغزلية متكاملة (0 ، 1 ، 2 ، إلخ). وطبقًا لمبدأ الاستبعاد لباولي لا يمكن للفرميونات أن تشغل نفس المكان في نفس الوقت على خلاف البوزونات التي يمكن لها أن تشغل أكثر من حيز في نفس الوقت. [1] [2]
ولتلخيص ذلك؛ دعونا نأخذ جولة داخل الذرة لنتعرف على ماهيتها.
جميعنا يعلم أن الذرة تتكون من إلكترونات سالبة الشحنة تدور حول نواة مركزية موجبة الشحنة داخل بناء متماسك، ولكن عند تسخين المادة إلى بضعة آلاف درجة تتأين ذراتها؛ أي تنفصل الإلكترونات عن الأنوية المركزية. وفي درجات حرارة أعلى من تلك، مماثلة للظروف التي يمكن الوصول إليها في معجلات الطاقة العالية الصغيرة نسبيًّا، تتفكك الأنوية إلى مكوناتها الأساسية من بروتونات ونيوترونات.
وفي ظل درجات حرارة أعلى من تلك، تتفكك هذه الجسيمات إلى جسيماتها الأولية وتنتج بلازما من الكواركات حرة الحركة وهذه الكواركات هي ما تعطي البروتونات الشحنة الموجبة والنيوترونات تبقيها متعادلة، حيث أن البروتون يتكون من كواركين علويين وثالث سفلي، فيما يتكون النيوترون من كواركين سفليين وثالث علوي.
وطبقًا للشحنة الكهربية للكواركات، (يحمل الكوارك العلوي شحنة مقدارها 2/3+ بينما يحمل الكوارك السفلي شحنة 3 / 1-) فإن الشحنة الكهربية الإجمالية للبروتون أو النيوترون هي مجموع الشحنات المنفردة للكواركات، وهكذا فإن شحنة البروتون (كواركان علويان وكوارك سفلي) تساوي +2/3 +2/3 -1/3 = 1 ، وشحنة النيوترون (كواركان سفليان وكوارك علوي) تساوي -1/3 -1/3 +2/3 = 0.
ولكن كيف تبقي الذرة متماسكة؟
تهيمن أربع قوى أساسية على الكون: قوة الجاذبية والقوة الكهرومغناطيسية، إلى جانب القوة النووية الشديدة والقوة النووية الضعيفة، ولكن نظرًا لأن الجاذبية قوة تعمل على الأجسام الكبيرة التي تحتوي على كتل كبيرة لذلك لن يكون لها أي تأثير يذكر على استقرار الذرة وهي على خلاف القوة الكهرومغناطيسية التي يكون تأثيرها قويًا جدًا على مستوى الذرات فهي تبلغ من الشدة 4010 مرة من قوة الجاذبية داخل النواة وبهذه الشدة تحافظ على تماسك الذرات والجسيمات معًا، مكونة المادة الكثيفة؛ فأنا وأنت وكل شيء آخر متماسكون بفضل القوة الكهرومغناطيسية، يعمل هذا التجاذب الشديد على دوران الإلكترونات في مساراتها الذرية حول النواة موجبة الشحنة من خلال الفوتونات. ولكن التنافر بين الشحنات المتشابهة يخلق معضلة تهدد بنية النواة ذاتها؛ فالنواة مضغوطة بإحكام، وترجع شحنتها الموجبة إلى احتشاد البروتونات المتعددة موجبة الشحنة داخلها.
لذا كيف يمكن لهذه البروتونات التي تعاني من ذلك التنافر الكهربي الشديد، أن تبقى متماسكة؟
إن سبب جعل هذه الشحنات متماسكة رغم تنافرها هو وجود القوة النووية الشديدة، وسميت بذلك مقارنةً بالقوة الكهرومغناطيسية فهي تتغلب على التنافر وتبقيهم متماسكين، كما أنها هي والقوة النوية الضعيفة تعملان داخل حدود الأنوية فقط لذلك لا نشعر بوجودهما. تعمل القوة النووية الشديدة عن طريق تماسك الكواركات ببعضها البعض لذا فهي تعمل داخل حدود اللبتونات فقط وليس لها تأثير على الإلكترونات. تعمل هذه القوة من خلال تباين الشحنات اللونية بين الكواركات التي تحمل اللون الأحمر والأزرق والأخضر مجازًا وبالمثل تتجاذب الألوان المختلفة وتتنافر المتشابهة من خلال جسيم بوزون يسمى الجلون، لذلك تتكون اللبتونات (البروتونات والنيوترونات) من ثلاثة كواركات فقط ولا يمكن أن ينجذب إليهم رابع وإلا تنافر مع شبيهه، ولكن ماذا يحدث إذا تم حشد عدد كبير من البروتونات معًا داخل الذرة؟
إن استقرار أنوية العناصر الذرية يمكن أن يكون نتيجة التوازن بين قوى الجذب وقوى التنافر الكهربي المتنافسة. لذلك ليس بالإمكان حشد عدد كبير للغاية من البروتونات معًا، وإلا سيتسبب التنافر الكهربي في جعل الذرة غير مستقرة. مما يؤدي إلى حدوث تحلل بيتا الذي تحدثه القوة النووية الضعيفة، تحول القوة الضعيفة النيوترونات إلى البروتونات والعكس، بحيث تتسبب في جعل نواة أحد العناصر الذرية تتحول إلى نواة لعنصر آخر من خلال نشاط بيتا الإشعاعي تحملها جسيمات W،Z بوزون.
هل نحن على مشارف فيزياء جديدة؟
على الرغم من دقة النموذج القياسي، فقد سُجِّلت نتائج تشذ عن النموذج القياسي، والتي تؤكد وجود خلل ما؛ إما في الحسابات الدقيقة، أو في فهمنا للنموذج القياسي، أو أن هناك خطأً في النموذج القياسي، أو وجود بعض الجسيمات أو القوى الخفية غير المعروفة التي تؤثر على الجسيمات!
نتج هذا الخلل في بعض التجارب
1- تجربة LHCb (وهي واحدة من التجارب التي تصدم البروتونات بعضها ببعض في مصادم الهادرونات الكبير في سيرن)، وتجربة (بيلي-Belle) (تبع منظمة أبحاث تسريع الطاقة العالية في اليابان التي تصدم الإلكترونات بنظيرها المضاد البوزيترون): وقد اكتشفوا أنه عندما يتحلل جسيم (الميزون بي-(Meson B، ينتج أعدادًا متساوية من الإلكترونات والميونات والتاو (بعد أخذ الكتل المختلفة للجسيمات في الاعتبار)، وعلى الرغم من ذلك سُجِّلت زيادة في جسيمات التاو.
2- وفي عام 2001، وجدت تجربة(E821) في مختبر (بروكهافن الوطني في نيويورك)، إشارات إلى أن العزم المغناطيسي للميونات ينحرف عن الحسابات النظرية، وفي ذلك الوقت، لم يكن ذلك الاكتشاف قويًّا بما يكفي لأن دلالته الإحصائية بلغت 3.3 سيجما أي أقل من 5 سيجما لكنها كانت كافيةً لإثارة اهتمام الباحثين بإجراء تجارب مستقبلية.
3- أعيدت تجربة (الميون جي-2) بعد 20 عام، في مختبر (فيرمي الوطني في باتافيا بولاية إلينوي) لقياس العزم المغناطيسي للميونات بشكل أدق، وقد تم تسجيل انحراف في القيمة التجريبة عن النظرية بمقدار ضئيل للغاية (00000000251.)، وهي ذات دلالة إحصائية مقدارها 4.2 سيجما.
حيث أن سيجما تشير إلى الانحرافات المعيارية، ولكي يكون الناتج ذا دلالة إحصائية يجب أن تصل إلى 5 سيجما، ويعني ذلك أن يكون احتمال المصادفة البحتة في هذه التجربة هو 1 إلى ثلاثة ملايين ونصف المليون احتمال، عندها يمكن أن نترك المصادفة جانبًا.
سعى العلماء لتفسير هذه النتائج، أشار البعض إلى أنه من الممكن أن يكون هذا نتيجة نوع جديد من «بوزون هيغز» أثقل من الجسيم الذي تم اكتشافه في عام 2012 في مصادم الهادرونات الكبير، وله صفات مختلفة، على سبيل المثال، يجب أن يكون له شحنة كهرومغناطيسية، وذلك للتأثير على اضمحلال الميزون بي، بينما يتنبأ التناظر الفائق ببوزونات هيغز إضافية غير تلك التي نعرفها. ومع ذلك، لن تخلق جسيمات هيغز المتوقعة هذه تناقضًا كبيرًا مثل الذي ظهر في التجارب.
«هذا يعني أن هيجز الذي اكتشفناه حتى الآن ليس الوحيد المسؤول عن توليد الكتلة لجميع الجسيمات».
بينما اقترح البعض جسيمًا افتراضيًا أكثر غرابة يسمى (ليبتوكوارك -leptoquark)مركب من كوارك ولبتون، يتفاعل هذا الجسيم مع جسيمات التاو بقوة أكبر من تفاعل الميون والإلكترون. وعلى الرغم من عدم وجود هذا الجسيم إلا أنه يمكن أن يحل جسيم الليبتوكوارك لغزًا كبيرًا آخرًا: لماذا تمتلك عائلات مختلفة من الجسيمات كتلًا مختلفة؟ [3] [4]
لماذا لا يفسر النموذج القياسي كل شيء؟
على الرغم من قوة النموذج القياسي في شرح الجسيمات الأولية والقوى التي تشكّل الكون، إلا أنه لا يمكن من خلاله تفسير بعض الأشياء:
- لماذا تمتلك النيوترونات كتلة؟ يتنبأ النموذج القياسي بأنها مثل الفوتونات، يجب ألا يكون للنيوترينوات كتلة ولكن، تحتوي النيوترينوات على كتلة صغيرة جدًا، وتتفاعل بشكل ضعيف مع بقية الجسيمات بحيث يصعب اكتشافها بشكل استثنائي.
- لماذا يوجد الكثير من المادة في الكون؟ عندما تلتقي جزيئات المادة والمادة المضادة المتساوية، فإنها تقضي على بعضها البعض، لماذا إذًا هناك الكثير من المادة في الكون!
- لماذا يتسارع تمدد الكون؟ قبل أن يتمكن العلماء من قياس توسع كوننا، اعتقدوا أنه بدأ سريعًا بعد الانفجار العظيم، وبمرور الوقت، بدأ في التباطؤ. ولكن ثبت أن الكون في الواقع يتسارع!
- هل هناك جسيم مرتبط بقوة الجاذبية؟ لم يتم تصميم النموذج القياسي لشرح الجاذبية. لا يبدو أن هذه القوة الرابعة الأضعف في الطبيعة لها أي تأثير على التفاعلات دون الذرية التي يشرحها النموذج القياسي.
- ما هي المادة المظلمة؟ لاحظ العلماء أن المجرات تدور أسرع بكثير مما ينبغي لدرجة أنه كان من المفترض أن يمزقوا أنفسهم، بناءً على قوة الجاذبية للمادة المرئية. لذلك اعتقدوا وجود مادة لا يمكننا رؤيتها تسبب هذا التسارع، والذي أطلق عليه العلماء اسم (المادة المظلمة). [7]
البحث عن فيزياء جديدة
دأب الباحثون للبحث عن فيزياء جديدة -فيزياء تتجاوز النموذج القياسي- فهناك بعض الفرضيات التي تفسر الخلل في النموذج القياسي:
- التناظر الفائق (SUSY): يفترض أن كل جسيم في النموذج القياسي له نظير أثقل لم يُكتشف بعد، يسمى الشريك الفائق. يمكن أن يكون الشركاء الفائقون من بين “الجسيمات الافتراضية” التي تنبثق باستمرار وتخرج من الفضاء الفارغ المحيط بالجسيم، وهو تأثير كمي من شأنه أن يساعد في تفسير سبب كون المجال المغناطيسي لجسيم الميون أقوى من المتوقع. توقع الكثيرون أن الاصطدامات في مصادم الهادرونات الكبير (LHC) بسويسرا، ستنتج عددًا كبيرًا من هذه الجسيمات الجديدة، لكن لم يتحقق أي منها حتى الآن، يتنبأ أيضًا التناظر الفائق بوجود بوزونات هيغز إضافية، غير تلك التي نعرفها.
يقول بعض العلماء أنه طبقًا لتجربة (الميون جي-2) هناك طريقة واحدة يمكن بها إحياء التناظر الفائق وتقديم دليل أيضًا على المادة المظلمة، وذلك بافتراض أنه لا يمكن أن يكون هناك شريك فائق واحد، لكن اثنين يظهران في تصادم مسرعات الجسيمات، لنقل أنه عند تصادم حوالي 550 بروتون مع 500 بروتون ستخلق الاصطدامات الجسيم الأكثر ضخامة، والذي سوف يتحلل بسرعة بعد ذلك إلى جسيمين: الشريك الفائق الأخف وزنًا بالإضافة إلى جسيم نموذجي عادي يحمل 50 بروتون من فرق الكتلة. ومن الممكن كشف هذا النوع من الانحلال طالما أن الجسيم العادي -الجسيم الذي يحمل فرق الكتلة بين الشريكين الفائقين- كبير بما يكفي. [5] [6]
- نظرية الأوتار: تفترض هذه النظرية أن الجسيمات ليست بالحقيقة جسيمات أولية، بل هي وكل المادة الموجودة في الكون تتألف من مكونات أصغر وهي أوتار مهتزة صغيرة جدًا.
تعتبر نظرية الأوتار؛ نظرية للجاذبية الكمومية، حيث أنها تحاول توحيد كل القوى الأربعة الأساسية في نظرية واحدة. تبدأ نظريات الأوتار من نظرية الكم على المستوى الذري (نظرية الكم هي مزيج من جميع التفاعلات الأساسية باستثناء الجاذبية)، لتعمل على توحيد القوى الأربعة الأساسية. [6] - نظرية الجاذبية الكمية الحقلية: تعتبر أيضًا نظرية للجاذبية الكمومية. ولكن على عكس نظرية الأوتار، فإن الجاذبية الكمية الحقلية، لا تحاول توحيد التفاعلات الأساسية. وإنما تعتمد بشكل أساسي على النسبية العامة والجاذبية. على عكس نظرية الأوتار، التي تركز بشكل أساسي على الخواص الكمومية للمادة، فإن الجاذبية الكمية الحقلية تركز أساسًا على الخواص الكمومية للفضاء والجاذبية.[6]
يوجد الكثير من الافتراضات التي لجأ إليها العلماء لإصلاح هذا الخلل، ولكن لم يثبت أي دليل على صحة أي منها، على الرغم من أن النموذج القياسي من أدق النظريات التي تفسر الجسيمات الذرية، إلا أن هذا الخلل يصفه بعض العلماء بأنه ربما يكون بداية حقبة جديدة، وما زال العلماء يدأبون في البحث عن نظرية كل شيء.