بدأت أزمة الصواريخ الكوبية -بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي- في السادس عشر من أكتوبر عام 1962، وانتهت في العشرين من نوفمبر 1962. حيث تزامن نشر الولايات المتحدة لصواريخها في إيطاليا وتركيا مع نشر الاتحاد السوفيتي صواريخ باليستية مماثلة في كوبا. وعلى الرغم من قصر المدة إلا أنها اعتُبرت المواجهة الأقرب -خلال الحرب الباردة- للتحول إلى حرب نووية شاملة.[1]
كانت بداية أزمة الصواريخ الكوبية ردًا على وجود صواريخ باليستية أمريكية من طراز «جوبيتر» في إيطاليا وتركيا وفشل غزو خليج الخنازير عام 1961. وافق الرئيس السوفيتي نيكيتا خروتشوف على طلب كوبا بنشر صواريخ نووية على الجزيرة لردع أي غزو مستقبلي، حيث تم التوصل إلى اتفاق في يوليو 1962 خلال اجتماع سري بين خروتشوف ورئيس الوزراء الكوبي فيدل كاسترو. وفي وقت لاحق من ذلك الصيف، تم البدء في بناء عدد من منشآت إطلاق الصواريخ.
خلفية تاريخية حول أزمة الصواريخ الكوبية
مع نهاية الحرب العالمية الثانية وبدء الحرب الباردة، ازداد قلق الولايات المتحدة بشأن توسع الشيوعية، واعتبرت الولايات المتحدة أن تحالف الاتحاد السوفيتي مع دولة من أمريكا اللاتينية أمرًا غير مقبول من شأنه -على سبيل المثال- أن يتحدى مبدأ مونرو، والذي اعتبر أن أي تدخل في الأمريكتين من قبل قوى أجنبية عملًا عدائيًا محتملًا ضد الولايات المتحدة.
وبعد فشل غزو خليج الخنازير في أبريل 1961م (وهي المحاولة الفاشلة لغزو جنوب كوبا وقلب النظام على فيدل كاسترو من قبل القوات التي دربتها وكالة المخابرات المركزية)، أصبحت إدارة كينيدي في حرج شديد. وفي لقاء بين كينيدي والرئيس السابق دوايت أيزنهاور، أخبره الأخير أن فشل غزو خليج الخنازير سوف يشجع السوفييت على اتخاذ إجراءات ما كانوا ليتخذوها لولا ذلك.[2]
وفي يناير 1962، وضع الجنرال الأمريكي إدوارد لانسديل خططًا للإطاحة بالحكومة الكوبية في تقرير سري للغاية (رُفعت عنه السرية جزئيًا عام 1989) موجهٌ إلى كينيدي والمسؤولين المشاركين في عملية النمس.
عملية النمس هي عملية عسكرية استهدفت تقويض النظام الكوبي بقيادة فيدل كاسترو في كوبا عبر اثنتين وثلاثين مهمة تخطيطية، تمر عبر ستة مراحل، تقوم خلالها وكالة المخابرات الأمريكية بعمليات ونشاطات استخباراتية وتجسسية وعمليات تخريبية في كوبا.[3]
لماذا فكر السوفيت في نشر صواريخهم في كوبا؟
كانت أزمة الصواريخ الكوبية متجذرة منذ مايو 1962، حيث تم إقناع الرئيس السوفيتي نيكيتا خروتشوف بفكرة مواجهة القيادة الأمريكية عن طريق نشر صواريخ نووية سوفيتية متوسطة المدى في كوبا، وذلك على الرغم من مخاوف السفير السوفيتي في هافانا (ألكسندر إيفانوفيتش أليكسييف). ما دفع الرئيس السوفيتي لذلك كان أنه حتى عام 1962 كان الاتحاد السوفيتي يملك 20 صاروخًا باليستيًا عابرًا للقارات قادرًا على إيصال رؤوس حربية نووية إلى الولايات المتحدة من داخل الاتحاد السوفيتي، وقد أثار ضعف دقة الصواريخ وموثوقيتها شكوكًا جدية حول فعاليتها.[4]
السبب الثاني لنشر الصواريخ السوفيتية في كوبا هو أن خروتشوف أراد جذب ألمانيا الغربية -التي يسيطر عليها الأمريكيون والبريطانيون والفرنسيون- إلى المدار السوفيتي، حيث اعتبر الألمان الشرقيون والسوفيت السيطرة الغربية على برلين تهديدًا خطيرًا لألمانيا الشرقية. واعتبر خروتشوف أنه إذا لم تتخذ الولايات المتحدة رد فعل بشأن نشر الصواريخ في كوبا، فيمكنه إخراج القوى الغربية من برلين باستخدام تلك الصواريخ كجزء من المساومة مع الولايات المتحدة.[5]
ثالثًا؛ من منظور الاتحاد السوفيتي وكوبا، أرادت الولايات المتحدة زيادة وجودها في كوبا من خلال فرض عقوبات اقتصادية على كوبا، وغزوها مباشرةً، والقيام بعمليات سرية لاحتواء الشيوعية. وكمحاولة لمنع ذلك سيقوم الاتحاد السوفيتي بوضع صواريخ في كوبا، مما سيؤدي في النهاية إلى تأمين كوبا وإبقائها داخل الكتلة الاشتراكية.[6]
كان السبب الرئيسي الآخر الذي جعل خروتشوف يخطط لنشر الصواريخ في كوبا هو «تساوي مستوى الصراع» مع التهديد النووي الأمريكي. كان للولايات المتحدة اليد العليا لأنها يمكن أن تطلق صواريخها من تركيا وتدمر الاتحاد السوفيتي قبل أن تتاح لهم فرصة الرد. ولكن إذا تم نشر الصواريخ السوفيتية في كوبا، فإنه إذا ما قررت الولايات المتحدة شن ضربة نووية ضد الاتحاد السوفيتي سيكون للأخير القدرة على شن ضربة نووية انتقامية ضد الولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، كان نشر الصواريخ النووية في كوبا وسيلة لإظهار دعم الاتحاد السوفيتي لكوبا وشعبها الذي اعتبر الولايات المتحدة قوة مهددة لأمنها.[7]
نشر السوفيت للصواريخ في كوبا
كان المحفز الرئيسي لبداية أزمة الصواريخ الكوبية في أوائل عام 1962، حيث رافقت مجموعة من المتخصصين السوفيت في بناء الصواريخ وفدًا زراعيًا إلى هافانا، حيث أجروا لقاءً مع رئيس الوزراء الكوبي فيدل كاسترو. كان لدى القيادة الكوبية توقعات بأن الولايات المتحدة ستغزو كوبا مرةً أخرى ووافقت على فكرة تركيب صواريخ نووية في كوبا. ووفقًا لمصدر آخر، فقد اعترض كاسترو على نشر الصواريخ الذي كان من شأنه أن يجعله يبدو وكأنه دمية سوفيتية، لكنه اقتنع بأن الصواريخ في كوبا ستكون مصدر إزعاج للولايات المتحدة وستحقق مصالح المعسكر الاشتراكي بأكمله.[8]
وبحلول مايو، وافق خروتشوف وكاسترو على نشر صواريخ نووية استراتيجية سرًا في كوبا. إذ شعر خروتشوف أن الغزو الأمريكي لكوبا وشيكًا، وأن خسارة كوبا ستلحق ضررًا كبيرًا بالشيوعيين، خاصةً في أمريكا اللاتينية.[9] وقد انطوت عملية السوفيت منذ البداية على خداع حقيقي، حيث تم تنفيذ عمليات التخطيط والإعداد لنقل ونشر الصواريخ بسريةٍ تامة، حتى القوات التي تم تكليفهم بهذه المهمة أُعطيت لهم توجيهات خاطئة من خلال إخبارهم بأنهم متجهون إلى منطقة باردة وأنه يجب أن يتزودوا بأحذية تزلج وسترات مبطنة بالصوف ومعدات شتوية أخرى.[9]
وأصبحت القيادة الكوبية مستاءة أكثر عندما وافق مجلس الشيوخ الأمريكي في 20 سبتمبر على القرار الذي يُلزم الولايات المتحدة باتخاذ الإجراءات التي تحول دون «إنشاء أو استخدام قوة عسكرية مدعومة من الخارج في كوبا»، وذلك لأنه يعرض أمن الولايات المتحدة للخطر. وفي نفس اليوم، أعلنت الولايات المتحدة عن مناورة عسكرية كبيرة في منطقة البحر الكاريبي، والتي نددت بها كوبا باعتبارها استفزازًا متعمدًا وإثباتًا لأن الولايات المتحدة تخطط لغزو كوبا.
وفي 7 سبتمبر، أكد السفير السوفيتي للولايات المتحدة (أناتولي دوبرينين) لسفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة (أدلاي ستيفنسون) أن الاتحاد السوفيتي يُزود كوبا بأسلحة دفاعية فقط. وفي 17 أكتوبر، قدم المسؤول بالسفارة السوفيتية جورجي بولشاكوف للرئيس كينيدي رسالة شخصية من خروتشوف يطمئنه بأنه «لن يتم إرسال صواريخ أرض-أرض إلى كوبا تحت أي ظرف».[11]
وفي وقت مبكر من أغسطس 1962، اشتبهت الولايات المتحدة في أن السوفيت يبنون منشآت صواريخ في كوبا، حيث عثرت طائرات التجسس U-2 على مواقع صواريخ أرض جو S-75 Dvina في ثمانية مواقع مختلفة. كان مدير وكالة المخابرات المركزية جون ماكون متشككًا، ورأى أن إرسال صواريخ مضادة للطائرات إلى كوبا يعني أن الاتحاد السوفيتي ينتوي استخدامها لحماية قاعدة للصواريخ الباليستية التي تستهدف الولايات المتحدة في كوبا. وفي 10 أغسطس، كتب مذكرة إلى كينيدي يخبره فيها أن السوفيت يستعدون لإدخال صواريخ باليستية إلى كوبا. وفي 31 من أغسطس، حذر السناتور كينيث كيتنغ في مجلس الشيوخ من أن الاتحاد السوفيتي «على الأرجح» يبني قاعدة صواريخ في كوبا، واتهم إدارة كينيدي بالتستر على تهديد رئيسي للولايات المتحدة.[12]
نظرة على الداخل الأمريكي بعد نشر الصواريخ السوفيتية
منذ فشل غزو خليج الخنازير، كانت الولايات المتحدة ترسل طائرة استطلاع من طراز U-2 للمراقبة في كوبا، وقد توقفت الرحلات الاستطلاعية في الثلاثين من أغسطس، عندما حلقت طائرة من طراز U-2 فوق جزيرة سخالين في الشرق الأقصى السوفيتي خطأً، احتج السوفيت واعتذرت الولايات المتحدة في النهاية.
وفي 10 سبتمبر (في اجتماع مع لجنة الاستطلاع الجوي) فرض وزير الخارجية دين راسك ومستشار الأمن القومي ماكجورج بوندي قيودًا شديدة على المزيد من رحلات U-2 فوق المجال الجوي الكوبي. وبعد استقبال تقارير تفيد نشر الاتحاد السوفيتي لصواريخ باليستية في كوبا (حيث تلقت المخابرات الأمريكية تقارير لا حصر لها عن نشر السوفيت للصواريخ)، حاول المسؤولون الأمريكيون الحصول على تغطية لعمليات الانتشار العسكرية السوفيتية المبلغ عنها. ومع ذلك، فإن الصور التي تم الحصول عليها في 1 أكتوبر كانت مغطاة بالغيوم والضباب وفشلت في توفير أي معلومات استخباراتية قابلة للاستخدام.[13]
وفي سبتمبر 1962، لاحظ محللون من وكالة الاستخبارات الدفاعية (DIA) أن مواقع الصواريخ الأرض-جو الكوبية تم ترتيبها على غرار تلك التي يستخدمها الاتحاد السوفيتي لحماية قواعده من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، مما دفع DIA إلى الضغط لاستئناف رحلات U-2 للاستطلاع.[14]
وعندما أعيد تفويض مهام الاستطلاع في 9 أكتوبر؛ أدّى سوء الأحوال الجوية إلى منع الطائرات من الطيران. وفي 14 أكتوبر حصلت الولايات المتحدة لأول مرة على دليل فوتوغرافي للصواريخ، عندما التقطت طائرة U-2 بقيادة الرائد ريتشارد هيزر 928 صورة على مسار اختاره محللو DIA للطائرة.[15]
وفي 15 أكتوبر، استعرض المركز الوطني لترجمة الصور الفوتوغرافية التابع لوكالة المخابرات المركزية (NPIC) صور U-2 والأشياء التي فسروها على أنها صواريخ باليستية متوسطة المدى. وقبل ذلك، كان العقيد السوفيتي أوليغ بنكوفسكي قد أبلغ المملكة المتحدة والولايات المتحدة حول نصب الاتحاد السوفيتي صواريخًا في كوبا، وقد ساعدت تقارير بنكوفسكي مع الصور الفوتوغرافية محللي NPIC على تحديد الصواريخ بشكل جيد على صور U-2.
وفي ذلك المساء، أبلغت وكالة المخابرات المركزية وزارة الخارجية، واختار بوندي (مستشار الأمن القومي) الانتظار حتى صباح اليوم التالي لإخبار الرئيس. وفي منتصف الليل، تم إطلاع ماكنمارا (وزير الدفاع الأمريكي آنذاك) على صور U-2. في صباح اليوم التالي، التقى بوندي بكينيدي وقدم له صور U-2 وأطلعه على تحليل وكالة المخابرات المركزية للصور. وفي المساء، عقد كينيدي اجتماعًا للأعضاء التسعة في مجلس الأمن القومي وخمسة مستشارين رئيسيين آخرين، في مجموعة أطلق عليها رسميًا اسم اللجنة التنفيذية لمجلس الأمن القومي.[16]
وفي 16 أكتوبر، أخطر الرئيس كينيدي وزير العدل روبرت كينيدي بأنه مقتنع أن روسيا وضعت صواريخًا في كوبا وأن ذلك يمثل تهديدًا. رد روبرت كينيدي بالاتصال على السفير السوفيتي أناتولي دوبرينين. أعرب روبرت كينيدي عن «قلقه بشأن ما يحدث» وتلقى دوبرينين تعليمات من الرئيس السوفيتي نيكيتا خروتشوف ليؤكد للرئيس كينيدي أنه: «لن تكون هناك صواريخ أرض-أرض أو أسلحة هجومية موضوعة في كوبا». وأكد خروتشوف كذلك لكينيدي أن الاتحاد السوفيتي ليس لديه نية «لتعكير العلاقات بين البلدين»، وذلك على الرغم من الأدلة المصورة المقدمة أمام الرئيس كينيدي.[17]
لم يكن لدى الولايات المتحدة أي خطة في بداية أزمة الصواريخ الكوبية لأن استخباراتها كانت مقتنعة بأن السوفيت لن ينصبوا أبدًا صواريخ نووية في كوبا. ناقشت EXCOMM العديد من مسارات العمل الممكنة:
- لا تفعل شيئًا.
- الدبلوماسية: استخدام الضغط الدبلوماسي لحمل الاتحاد السوفيتي على إزالة الصواريخ.
- النهج السري: تقديم عرض إلى كاسترو، إما الانفصال عن الروس أو التعرض للغزو.
- الغزو: غزو كامل لكوبا والإطاحة بكاسترو.
- الضربة الجوية: استخدام سلاح الجو الأمريكي لمهاجمة جميع مواقع الصواريخ المعروفة.
- الحصار: استخدام البحرية الأمريكية لمنع أي صواريخ من الوصول إلى كوبا.
تُرى ماذا كان قرار الولايات المتحدة؟ في الجزء الثاني من هذا المقال نستعرض لكم قرار الولايات المتحدة، والنقاشات داخل مجلس الأمن القومي مع الرئيس جون كينيدي، وكيف تعامل كينيدي مع أزمة الصواريخ الكوبية، وما حدث في خضم واحدة من أكبر الأزمات الدولية التي كادت أن تتحول إلى حرب نووية شاملة تدمر الكوكب، وتأثيرها على الداخل الأمريكي، وكيف انتهت أزمة الصواريخ الكوبية، وعواقبها على الساحة الدولية وعلى الثقافة الشعبية.