يقيم المتحف البريطاني معرضًا كبيرًا يسرد فيه نهاية أحد أهم رجال السياسة والدين في العصور الوسطى، وهو توماس بيكيت، في السطور التالية نلقي الضوء على حياة بيكيت وعلاقته الشهيرة بملك إنجلترا هنري الثاني.
المولد والنشأة
كان توماس بيكيت نجلَ تاجرٍ ثريٍّ في لندن، ولد توماس في 21 ديسمبر 1118م وبدأ تعليمه في دير «ميرتون بريوري» Merton Priory ثم تابع تعليمه في لندن وباريس وإيطاليا، لم يحقق توماس بيكيت تفوقًا أكاديميًا فقط، بل كان شابًا طموحًا مصممًا على الاعتماد على نفسه(1)، ورغم شهرته الكنسيّة إلا إن بيكيت لم يعمل في الكنيسة في سنٍّ مبكرة، فقد عمل في عام 1143م كاتبًا لتاجرٍ مصرفيّ في لندن(3) ثم ما لبث أن قرر أن الطريق الأنسب لتحقيق طموحه هو دخول الكنيسة، فانضم في العمل داخل منزل «ثيوبالد» رئيس أساقفة كنيسة كانتربري حيث سرعان ما تم ترشيحه ليصبح شماسًا ثم رئيسًا لشمامسة كانتربري.(1)
الالتحاق بالبلاط الملكي
وفي عام 1154م وبناء على توصية ثيوبالد؛ تم تكليف توماس بيكيت بمنصبه كمستشارٍ لملك إنجلترا هنري الثاني (1133- 1189م) وعلى مدار السنوات الثماني التالية جَمعت بين هنري وتوماس صداقةٌ كبيرةٌ ووثيقةٌ حيث كان بيكيت إداريًا ماهرًا يتمتع بالدعم الكبير من صاحبه الملك وكان بيكيت أكبر المناصرين لسياسة هنري الثاني التي تهدف إلى توحيد كلٍّ من سلطة الملك والكنيسة في يد الملك(1)، ووصلت العلاقة بين الطرفين حدّ أن يتشاركا لعب الشطرنج والصيد حتى قال الناس عنهم: «رجلين بقلبٍ واحدٍ وعقلٍ واحد».(2)
وفي عام 1162م اختار هنري الثاني صديقه بيكيت ليصبح مستشاره الدنيوي والرئيس الجديد لأساقفة كانتربري معتقدًا أن هذه الخطوة هي أفضل الخطوات في تنفيذ سياسته المنشودة لتوحيد الجبهتين المملكة والكنيسة في يد الملك.(1)
كانت الكنيسة مستثناةً من أي قوانين ملكيةٍ في البلاد، فقد كان لها محاكمها الخاصة وقوانينها الذاتية وفيها يمكن للكهنة الذين قَتلوا أو اغتصبوا أن يتجنبوا المثول أمام محاكمٍ عاديةٍ وعامة، بل يقومون بالمثول أمام محاكمٍ أسقفية، ولم تكن العقوبات رادعةً في تلك المحاكم الأسقفية لذا استغل الأساقفة ورجال الدين تلك السلطات الواسعة حتى أصبح الكثير منهم من الأثرياء ذوي المكانة والسلطة الكبيرة التي يمكن أن توازي الملك نفسه.(2)
وعلى الناحية الأخرى كان كرسي رئيس أساقفة كانتربري منذ إنشاءه عام 597م يمثل نقطةً محوريةً هامةً لكنيسة إنجلترا، ولعب هذا المنصب دورًا مهمًا في تاريخ البلاد حتى أصبح صاحبه هو المنصب الثاني في البلاد بعد الملك من حيث السلطة والأهمية، لذا إذا كان صاحب هذا الكرسي شخصية قويةً وطموحة فسيؤدي ذلك بشكل تلقائيّ إلى ظهور صدامٍ بينه وبين الملك في أغلب الأوقات.
فمن وجهة نظر الكنيسة؛ يخضع الملك لسلطان البابوية سلطانًا مطلقًا، ومن وجهة نظر الملك؛ فإنّ تدخل البابوية والكنيسة في أمور الحكم يؤخر البلادَ عن أن تصبح دولةً قويةً وموحدةً بالإضافة إلى المرارة التي كان يشعر بها الملك نتيجة الأموال التي تخرج من أراضيه لصالح البابوية في روما مما يؤثر بشكلٍ طبيعي على موارد الدولة والمملكة.(1)
بداية الصراع بين هنري الثاني وتوماس بيكيت
ومن هنا؛ بدأ الصراع جزئيًا بين هنري الثاني وتوماس بيكيت عندما صمم الأول على فرض العدالة العلمانية على رجال الدين المخطئين الذي أطلق عليهم هنري «الكتبة الإجراميين»، وشيئًا فشيئًا بدأ هذا الصدام يزيد بين الطرفين، فعندما تولى توماس بيكيت منصبه الجديد كرئيسٍ لأساقفة كانتربري بعد ترددٍ كبير نجده يبدأ في إظهار سماتٍ شخصيةٍ تتفق مع منصبه الجديد، فاستقال من عمله كمستشارٍ للملك هنري الثاني قائلًا: «لا أستطيع خدمة سيدين معًا»، ثم تبنى توماس حياة الزهد والتقشف والرهبانية في كانتربري عندما أعلن قائلًا:
«تغيرتُ من كوني راعيًا للممثلين المسرحيين ومتابعًا لكلاب الصيد إلى كوني راعيًا للنفوس»(1)
ومنذ ذلك الوقت أصبح لبيكيت نظامٌ روحانيٌّ كبير ونظامٌ غذائيٌّ ضعيف وأصبح شرابه الوحيد هو الماء دون غيره.(2)
يبدو أن هذا التغيّر سيؤدي لا محالةَ إلى الصدام بين الطرفين، فقد كانت السياسة التي يرمي إليها هنري تهدف إلى جعل القانون مطبَقًا على الجميع في المملكة بمن فيهم رجال الدين، فقد كان أكثر ما يزعج الملك هو أن العديد من رجال الدين الذين يقترفون أخطاءً شنيعةً لم يطلهم العقاب من المحكمة الكنسية لتساهلها معهم، فأعتى ما يتم الحكم به عليهم هو الحرمان من المنصب أو السجن لبعض الوقت ولم يصدر من تلك المحاكمِ الكنسيةِ أي عقوباتٍ قاسيةٍ على رعاياها داخل الكنيسة من رجال الدين، تلك الأحكام القاسية التي كان يرى هنري الثاني أنها ضرورية للحفاظ على النظام والقضاء على الإضطرابات.(1)
ومهما كانت أسباب التغير في شخصية بيكيت بعد توليه منصبَه الجديد فقد بدأ النزاع سريعًا بين الطرفين بخصوص سياسة هنري السابق ذِكرها أو بسبب بعض الأمور الأخرى التي لم يكن بيكيت متورطًا فيها من الأساس، لذا وجد بيكيت دعمًا كبيرًا من رجال الدين في أسقفية كانتربري في بداية صراعه مع الملك، ذلك الصراع الذي وصل ذُروته في «مُجمّع كلاندرون» في العام 1164م حيث خاض كلٌّ من الكنيسة والدولة صراعًا مريرًا قرر بعدها الملك اتخاذ بعض الإجراءات القاسية ضدّ الكنيسة ومنها: حظر تقديم طلبات استئنافٍ إلى البابوية في روما دون موافقة الملك، ومنع رجال الدين من مغادرة البلاد دون موافقة وليّ العهد، وسحب سلطة الكنيسة في حماية أي رجلِ دينٍ يُدان، وغيرهم من القرارات التي أُطلق عليها «دساتير كلاندرون».(1)
بداية المحنة والهروب
تعرض بيكيت -نتيجةَ رفضه لتلك الدساتير- لحملةِ تهديدٍ وهجومٍ كبيرةٍ ما جعله يسلم بالأمر، فتعمد الموافقة عليها دون أن يوقع عليها بختمه واستمر في دعم محاكمة رجال الدين داخل الكنيسة، ورغم هذا التوافق المبدئي بين الطرفين إلا أن هنري قرر أن مصلحة التاج هو التخلص من رئيس الأساقفة المعارض لسياسته، وفي أكتوبر 1164م أمر هنري الثاني توماس بيكيت بالمثول أمام مُمثلِ الملك «إيرل ليستر» لمواجهته باقتراف بعض الأمور التافهة في نورثهامبتون كذريعةٍ للتخلص من بيكيت، وخلال هذه المحاكمة؛ طالب ليستر بمحاسبةٍ صارمةٍ للأوضاع المالية الحالية والسابقة لكنيسة كانتربري ومحاسبة عائدات كرسيّ رئيس الأساقفة حتى قبل أن يصل بيكيت للكرسي ذاته، وهي مطالب غير عادلةٍ فيما يخص توماس بيكيت.(1)
ومع استمرار الصراع بين الطرفين اقترح بعض رجال الدين على بيكيت بضرورة ترك منصبه في كانتربري، ولكن اعترض على تلك الفكرة العديد من رجال الدين الذي وجدوا في هذه الفكرة إضعافًا للمنصب واستحالة صمود الكنيسة ضد الملك بعد ذلك، ومن هنا بدأت الشائعات بنية الملك هنري في سجن بيكيت مدى الحياة، ذلك الأمر الذي أثر على صحة بيكيت وأصيب حينها بحصوات الكلى التي أقعدته لفترةٍ من الوقت ولكن بعدها بأيام قليلةٍ عاد بيكيت مرةً أخرى للدفاع عن نفسه ضد التهم الفاسدة وضد منتقديه، وعاد ليرد على ليستر ممثل الملك بأنه ليس من حقه ولا من حق من يمثله أو أي فردٍ في البلاد محاكمته، وأن البابا هو الوحيد المنوط به القيام بهذا الأمر، واستطاع بيكيت بعدها الهروب من المحكمة.(1)
في الثاني من نوفمبر من نفس العام غادر بيكيت إنجلترا وهبط مع أتباعه إلى فلاندرز حيث مكث لفترة في دير «سانت بيرتين» St. Bertin ومن هناك بدأ بيكيت القيام بسلسلةٍ من الإجراءات لمواجهة دبلوماسية هنري الثاني، فقد قام الأخير بإرسال مبعوثيه إلى ملك فرنسا لويس السابع يطلب منه عدم تقديم الدعم وتوفير الملاذ إلى بيكيت، ولكن رد لويس السابع على المبعوثين بأنه ملكٌ مِثله مِثل ملكهم هنري، وأنه لا يملك أن يقيل أضعف الكتبة في كنائس مملكته، لذا وجد بيكيت مساعدةً ومعاونةً من ملك فرنسا لويس السابع خلال هذه الفترة.
وقرر بيكيت التواصل مع البابا «ألكسندر الثالث» لمعاونته، ولكن لم يكن حال البابا في هذا الوقت بأفضل من حال بيكيت؛ فقد قام ملك روما في هذا الوقت فريدريك برباروسا (1122- 1190م) بطرد البابا من البلاد بسبب خلافهما حول سيادة الحكم في إيطاليا ونُفي البابا إلى «سانس» ولم يكن يملك تقديم أي مساعدة لبيكيت ولكنه نصحه بالمكوث في أقرب دير حتى يستطيع التفكير في أمر مستقبله.(1)
دبلوماسية هنري الثاني
لم يقف هنري الثاني مكتوف الأيدي أمام مكوثِ بيكيت وداعميه، فقام بالقبض على حوالي 400 من أصدقاء وأقارب بيكيت وأرسلهم إلى المنفى، ثم أرسل تحذيرًا شديد اللهجة لجماعة «السيسترستين» الذين يعيش بيكيت في ديرهم الخاص طالبًا منهم عدم الاستمرار في معاونته مهددًا إياهم بمصادرة جميع الأملاك التي تخصهم داخل أراضيه.
وتجنبًا لهذه الاستفزازات قام ملك فرنسا لويس السابع بنقل بيكيت إلى «دير البندكتيين» في «سانت كولومبا» بالقرب من سانس، بينما أمر البابا -الذي عاد إلى روما خلال فترة تفوقٍ له على ملك روما- توماس بيكيت بمحاولة تجنّب أي شيءٍ قد يثير غضب هنري الثاني في محاولةٍ من البابا لتهدئة الأزمة، لذا حاول البابا التوسط بين الطرفين من خلال إرسال مبعوثَين بابويَين للجمع بين الطرفين ولكن فشل المبعوثان في مسعاهما، ولكن بحلول عام 1168م كان العديد من أنصار بيكيت قد ضاقوا ذرعًا بالمنفى وطالبوا بيكيت بمحاولة التوصل لاتفاقٍ مع هنري للعودة إلى البلاد، فرضخ بيكيت إلي طلبهم والتقى الطرفان في مؤتمر «مونتميرايل» Montmirail في عام 1169م ولكن سرعان ما اندلعت الخلافات مرةً أخرى بين الطرفين ولعن كل منهما الآخر.(1)
بحلول عام 1170م كان كِلا الطرفان قد سئم النضال والخلاف بشكلٍ كبير، فكان للبابا دورٌ مهمٌ في إنهاء هذا الصراع بسبب رغبة الملك هنري الثاني في تتويج ابنه هنري الثالث ملكًا على إنجلترا بموافقة البابا، ولكن نجد هنري الثاني يتجاوز قيام رئيس أساقفة كانتربري بتتويج هنري الثالث وتكليفه بأساقفة دورهام وسالزبري ولندن بتتويج الملك الجديد في عام 1170م، وفي 27 يوليو من نفس العام التقى ملك فرنسا وملك إنجلترا في مؤتمر «فرتيفال» Freteval بوجود بيكيت كأحد المدعوين في المؤتمر، وخلال هذا المؤتمر بدأت ملامح الود تعود بين الطرفين وأظهر هنري الثاني حماسًا كبيرًا تجاه بيكيت، ثم التقى الرجلان مرات عديدة بعدها ويبدو أنهما تناسيا خلافاتهما نسبيًا خلال هذه الفترة، مما دعا هنري إلى إعلان التصالح الرسمي بينه وبين صديقه القديم.(1)
سلام ما قبل النهاية
بموجب هذا التصالح عاد بيكيت مرةً أخرى إلى كانتربري في ديسمبر عام 1170م، وفي خطبته في يوم عيد الميلاد قال بيكيت للحاضرين: «جئتُ لأموت بينكم»، وبعد عودته أظهر بيكيت بعض التصرفات العدائية تجاه بعض رجال الدين الذي خذلوه ولم يناصروه في صراعه الماضي وهاجمهم بقسوةٍ ومنهم رئيس أساقفة يورك ومعه الأساقفة الذين قاموا بتتويج الملك الجديد هنري الثالث، خرج هؤلاء لمقابلة هنري الثاني الذي كان وقتها في نورماندي حيث عرضوا عليه أفعال بيكيت وأشار عليه رئيس أساقفة يورك بضرورة التخلص من بيكيت قائلًا: «أؤكد لك يا سيدي أنه مادام توما حيًّا لن تكون لك أيامٌ جيدة ولا أوقاتٌ هادئة ولا مملكة مستقرة».(1)
أعطى هنري الثاني أوامره بالتخلص من بيكيت إلى أربعة فرسان هم «ريجنالد فيتذيورس»، و«هيو دي موريفيل»، و«ويليام دي تريسي»، و«ريتشارد لوبريتون». شق الفرسان طريقهم إلى كانتربري(1) وعندما وصلوا إلى الكنيسة وجدوا بيكيت عند المذبح (حيث سماع صلاة الغروب) فاقترب منه أحد الفرسان وضرب بيكيت على كتفه بشق سيفه، ويبدو أن الفرسان لم ياخذوا أمرًا بقتله ولكن بالقبض عليه ولكن عندما قاومهم بيكيت بعد الضربة الأولى هاجمه الأربعة وقتلوه(2).
وبعد مقتل بيكيت ظهرت إدانةٌ كبيرةٌ لمقتله في المملكة كلها في الوقت الذي أعلن فيه هنري حزنه الشديد على ما حدث وقام بزيارة قبر بيكيت بعدها بسنوات، بينما ظهرت في كنيسة كانتبري عبادةٌ جديدة وتبجيلٌ كبير لمنصب رئيس أساقفة كانتبري بتأثّر على مصير بيكيت، وبعدها أعلن البابا لقب القداسة لتوماس بيكيت في عام 1173م، وظلّ ضريح بيكيت مشهورًا طِوال العصور الوسطى حتى دُمّر أثناء مراحل الإصلاح الإنجليزي.(3)