فجأة تمَ إغلاقُ العالم! توقفَ العمل، وتأثرَ الاقتصاد، وازدهرتْ الأعمالُ الرقميّة عبرَ المنصاتِ الإلكترونيّة، وأصبحت التجارةُ الإلكترونيّة الملاذَ الوحيد للاستمرارِ في العمل. ولكن بعضُ القطاعاتِ الاقتصاديّة كانت ضعيفةً ولم تستطع تحمّلَ الأزمة، فخسرَتْ الكثيرَ، وخرجَتْ من السوقِ؛ نتيجة التغيراتِ التي حدثتْ في بُنية الاقتصادِ المستقبليّ، وغيرها من الأمور التي نتجتْ عن انتشارِ جائحة كوفيد 19.
يُناسبُ «زلزال كوفيد 19» وصفًا لتلك الأحداثِ التي امتدَتْ لفترةٍ تزيدُ عن عامٍ ونصف، والتي بدورها تَطرحُ تساؤلاتٍ، وتُلقى الأضواءَ على القطاعاتِ التي ستهيمنَ على اقتصادِ المستقبل؛ لتصلَ بنا إلى تصورٍ بسيط عن الاشكالِ المحتملة لاقتصادِ المستقبل، وعن أهم القطاعاتِ الاقتصاديّة التي ستسودُه.
بدايةُ التغيرات
في بداية التسعينياتِ ومع دخولِ الإنترنت إلى عالمِ الأعمال، تغيرَتْ موازينُ السوق، وتغيرَتْ معها مراكزُ القوى الاقتصاديّة التي كانت تسيطرُ على العالم؛ ووُلِد نموذجٌ اقتصاديٌّ جديد بعد أن كانت الغَلَبَةُ فيه لشركاتِ الطاقة. فأصبحتْ الشركاتُ التكنولوجيّة على رأسِ الترتيب؛ لتحلَ شركاتُ التكنولوجيا الرقميّّة العالميّة مثل: شركة أبل (Apple)، ومايكروسوفت (Microsoft)، وأمازون (Amazon) مَحَْلَ شركاتِ النفط العالميّة مثل: شركة إكسون موبيل (ExxonMobil)، وشركة الاجهزة الإلكترونيّّة جنرال الكتريك (General Electric)، وشركة الغاز الطبيعيّ جاز بروم (Gazprom)، وغيرها من شركاتِ الطاقة التي ظلّت متربعةً على عرشِ الاقتصاد العالميّ قبل 15 عامًا فقط كأكبرِ ثلاث شركاتٍ في العالمِ فيما يتعلقُ بالقيمة السوقيّة لأسهمها. فتأتي الرّقمنة؛ لتصبحَ القطاعَ الاقتصاديّ الأول على مستوى العالم، ويليه قطاعًا اقتصاديًا، يراعي الاهتمامَ بتغيراتِ المناخ عند الإنتاج، علاوة على اهتمامِه الأول: التنميةِ الخضراء.
اقتصاد المستقبل
على الرغمِ من التطوراتِ العالميّة المتتالية والسريعة في عالم التكنولوجيا، كانت تواكبها تطوراتُ الاقتصادِ على نفسِ الوتيرة. إلا أن آثارَ الصدمةِ المُفاجئة التي وقعَتْ بسبب جائحةِ كوفيد 19؛ قد أحدثَتْ هزّاتٍ عنيفة للعديدِ من القطاعاتِ الاقتصاديّة بجانبِ أثرها الإيجابيّ، أيّ مساهمتِها في تحديدِ طبيعة القطاعات الاقتصاديّة المستقبليّة، ومستقبلِ الاقتصاد المستدام. وذلك لأن جائحةََ كوفيد 19 قد حدّدَتْ الخطوطَ العريضة للقطاعاتِ الاقتصاديّة الجديدة التي تنامى دورُها -بشكلٍ مُلحوظ- في فترةِ الجائحة من بين القطاعاتِ الاقتصادية الأخرى، والتي مازالت تعتمدُ الطرقَ التقليديّة للمساهمةِ في الناتج المحليّ الإجماليّ. علاوة على ما سبق، يُتَوَقعُ أن آثارَ تلك الجائحة، وما صاحبَها من توفيرِ تقنياتٍ جديدة، وخدمات للبشريّة؛ ستعملُ كمحركاتٍ للنمو الاقتصاديّ في المستقبلِ، إذ كان أبرزُها الاقتصادَ الفضيّ، وما يرتبطُ به من وظائفٍ خاصة بمجالِ العناية، والرعاية وتحديدًا لكبارِ السن.
كما أنها سلطَتْ الضوءَ على كلٍ من: التحوّل الرقميّ، وعملياتِ الرقمنة لجميعِ السلع والخدمات الموجودة، مع ضرورةِ مراعاة الاحتياجات البيئيّة. إذ أن التحوّل الرقميّ سيكون العمودَ الأساسيّ لاقتصادِ المستقبل، كالزراعةِ الذكيّة، وما تحويه من توظيفٍ للتكنولوجيا الحديثة في الزراعةِ، والتسميد، والريّ، بل وحتى في مكافحةِ الآفاتِ والحشرات. سيتمكنُ المزارعون من تعظيمِ محصولِهم، عن طريقِ ترشيدِ الزراعة وفقًا لخصائصِ الأرض، وتوقعاتِ الطقس؛ مما يعني أن قطاعَ الزراعة المستقبليّ سيختلفُ تمامًا عن الزراعةِ التقليديّة في كل من: طريقةِ الزراعة، وطبيعيةِ المحصول، وهذا بالإضافة إلى المحافظةِ على النظامِ البيئيّ. وبالفعل تحققَ هذا الهدف، وأصبح حقيقةً واقعيّة في المدنِ الذكيّة، ومن المتوقع أن يقفزَ إلى القرى، لتصبحَ قرى ذكية بدورها.
الثورة الصناعيّة الرابعة، والاقتصاد الرقميّ
أجبرِتْ الثورةُ الصناعيّة الرابعة بكل ما فيها من تكنولوجيا جديدة الشركاتِ على التكيّفِ مع العالمِ الجديد. فقد ساهمت الأولى بأدواتٍ تكنولوجيّة حديثة من بياناتٍ كبيرة (Big Data)، والتي تُستخدم في جمعِ كميةٍ هائلة من المعلوماتِ وتحليلها؛ لتُساعد تلك البياناتُ في اتخاذِ قراراتِ الأعمال الصحيحة. ساعدَ كلٌ من: إنترنت الأشياء (IOT)، والذكاءِ الاصطناعيّ، وتعلّمِ الآلة في إحداثِ ثورةٍ في عالمِ الصناعة والأعمال؛ مكّنتها من تحقيقِ الكفاءةِ، والجودةِ في عملياتِ الإنتاج، واتخاذِ أفضل القرارات فيما يتعلق بحجمِ الانتاج، وخَفَضْ حجمِ الهدر في الموارد.
ومع ذلك تُشكلُ الصناعةُ الحديثة تحديًا حقيقًا للدولِ النامية، إذ أن هناك ما يقاربُ من 3.6 مليارِ شخصٍ في العالم لا يتمكنون من الوصولِ إلى الإنترنت؛ مما يحرمُهم من استخدامِ هذا المورد الأساسيّ للتنميةِ، والثروة في القرن الحادي والعشرين. يُعرفُ هذا التفاوتُ التكنولوجيّ في الوصولِ إلى شبكةِ الإنترنت بين الدولِ باسم «الفجوة الرقميّة» (Digital Divide)، ولابد من العملِ على ردمِ هذه الفجوة؛ حتى يستطيعَ الجميعُ الاستفادةِ من هذا التقدم بنفسِ الوقت. ولذلك ركزَتْ أهدافُ التنميةِ المستدامة التابعة للأمم المتحدة على عدالةِ استخدامِ التكنولوجيا، والإنترنت بين الدول.
أزمةُ كوفيد 19، والاقتصاد الأخضر (التعافي الأخضر)
أثّرت جائحةُ كوفيد 19 بشدةٍ على الاقتصادِ العالميّ، كما أصرَّت الهيئاتُ الدوليّة، وحكوماتُ الدول المتقدمة على ضرورةِ تحويلِ قطاع الأعمال، والقطاع الماليّ إلى التعافي الأخضر. وقُدِمَ المقترحُ الأوروبيّ للصفقةِ الخضراء (European Green Deal)، والذي عرضَ مجوعتين أساسيّتين لأسبابِ التحوّل إليه، وهما:
- الأولى: خاصة بتوليدِ العمالة والثروة. وتركزُ حسبُ تقريرٍ صادرٍ عن جامعة أكسفورد بضرورةِ استخدامِ سياساتٍ جديدة، وهي سياساتُ التحفيز، والتنمية الخضراء؛ التي ستولدُ وظائفَ أكثر من تلك السياساتِ التقليدية. إذ أشارت منظمةُ العملِ الدوليّة إلى أن التغييراتَ في طرقِ إنتاج الطاقة، واستخدامِها لمكافحةِ تغيّر المناخ؛ يُمكنُ أن تخلقَ 18 مليون وظيفةٍ فضلاً عن عوائدَ أعلى على المدى القصير، وتأثيرٍ مُضاعفٍ على المدى الطويل.
- الثانية: تتعلقُ بمكافحةِ تغيّر المناخ. فيمكنُ أن تُهدِدَ بعض الآثار المُرتبطة بالاحتباس الحراريّ العالميّ -الذي أدى إلى ارتفاعِ منسوبِ مياه البحر، وفقدانِ التنوع البيولوجيّ، وزيادةِ خطر الأوبئة، وغيرها من التغيراتِ البيئيّة- بآثارٍ اقتصاديّة مُماثلة. ويمكنُ أن تكونَ أسوأ من تلك التي نتجتْ عن حائجةِ كوفيد 19، كما يحذرُ الخبراء. لذلك لا بد من التركيزِ على مبادراتٍ تحافظُ على المناخِ، عن طريقِ إنتاج الغذاءِ المستدام، وتصميم وسائلِ نقلٍ خضراء تحافظُ على البيئة.
قطاعات الأعمال المستقبليّة
تسببتْ جائحةُ كوفيد 19 وما نتجَ عنها من إغلاقاتٍ، وتغيّرِ في أشكالٍ العمل وطرق تأديتها، وتحوّل الشركات للعملِ عن بعد عبر الإنترنت نموًا غير مسبوقٍ لبعضِ القطاعات الاقتصادية. كان أهمها نموَ قطاع الأعمال الرقميّة، وما يرتبطُ بها من تجارةٍ إلكترونية، إذْ شهدَ قطاعُ مبيعاتِ التجزئة الإلكترونيّة تناميًا غير مسبوقٍ، وازدادت آمالُ منصاتِ الترفيه الإلكترونيّة، أىّ بمعنى آخر كان لقطاعاتِ الأعمال الرقميّة النصيبُ الأكبر من النموِ نتيجة الجائحة؛ فبرزَتْ قوتُها، ووصلتْ تلك القطاعاتُ إلى أوضاعٍ تُمَكِنُها من قيادةِ النمو الاقتصاديّ في المستقبل، بالإضافة إلى قُدرتِها على تحقيقِ الاستدامة في الأعمالِ. ومن أهم القطاعاتِ الاقتصاديّة التي يُتوقعُ لها قيادة النمو الاقتصاديّ:
1- قطاعُ الطاقة الخضراء
تهتمُ هذه القطاعات بمكافحةِ تغيّر المناخ، والمحافظةِ على بيئة الأرض، وفي نفس الوقت توفيرِ الموارد الاقتصاديّة اللازمة لحياة البشر. وذلك من خلالِ استخدامِ مصادر الطاقة المتجددة، والتوجهِ نحو اقتصادٍ خالي من الكربون. وهناك اتجاهاتٌ حثيثة من العديدِ من المستثمرين؛ للتوجهِ نحو هذا القطاع، إذ يدركُ المستثمرون أن الطاقةَ الخضراء الاستثمارُ الحقيقيّ في المستقبل.
2- قطاعُ وسائل النقل المستدامة
يعدُ الحدُ من التلوثِ العنصرَ الأساسيّ للتقليلِ من آثارِ تغير المناخ. وللقيام بذلك، لا بد من استخدامِ وسائلِ نقل مستدامة (Sustainable mobility)؛ لتُحِدْ من التلوثِ، وتُقَلِلَ من الانبعاثات الكربونيّة. وقد أشارَتْ تقاريرُ بلومبرج نيف (Bloomberg NEF) إلى أنه من المتوقع أن ينمو قطاعُ النقل المستدام لتصلَ حصته السوقيّة بحلولِ 2040 إلى 58٪ من حصةِ السوق، بمبيعاتٍ سنويّة متَوَقَعَة من السياراتِ الكهربائيّة والتي يمكنُ أن تبلغَ 54 مليونَ سيارةِ. كما ستساعدُ تقنيات إنترنت الأشياء (IOT)، وتقنياتِ الجيل الخامس (5G)، والذكاء الاصطناعيّ في نموِ هذا القطاع؛ مما سيساهمُ في تقليلِ التلوث.
3- قطاعُ الخدمات الرقميّة
ساهمَ في نمو قطاعِ الخدمات الرقميّّة كل من الآتي: التحويلاتُ الحاليّة للخدمات الإلكترونيّة (Digital services)، وما صاحبها من إمكانياتٍ للعملِ عن بعد، والإعتمادِ المتزايد على مكالماتِ الفيديو، والتدريبِ الإلكترونيّ، والتطبيقاتِ الرياضيّة الإلكترونيّة وغيرها من الخدماتِ الإلكترونيّة، وما يرتبطُها من أهميةٍ متزايدة لأمنِ المعلومات. وعليه، نتجَ عنه تزايدُ أهميةِ المهاراتِ الرقميّة للشركات، مما دفعَها إلى رّقمنةِ الملفاتِ الشخصيّة للعاملين.
4- قطاعُ الغذاء المستدام
يتميزُ قطاعُ الغذاء المستدام ((Sustainable Food بقدرتِه على مضاعفةِ حجم الإنتاج بالتوالي مع قدرته على المحافظةِ على المناخ، وحمايةِ الغابات، وتحسينِ الصحة، والحفاظِ على موارد المياه. ففي القرن الحادي والعشرين، تضاعفَ حجمُ الإنتاج من الزراعةِ العضويّة أربع مرات، وهناك العديدُ من الدولِ التي تتجهُ لإداريّ الاستدامةِ الغذائيّة في سياساتِها الزراعيّة مع إصدارِ أدلة تثقيفيّة، توضحُ مزاياها للمستهلكين.
5- قطاعُ التنميّة الحضريّة المستدامة
نتيجةُ البرامجِ التنمويّة التي تُركزُ على التنميةِ الحضريّة للمناطق الريفيّة، فإنها في المستقبل ستمثلُ أماكنَ جذبٍ للسكان؛ مما سيدفعهم إلى تركِ المدنِ، والانتقال إلى الريف. وهنا، سيبرزُ دورًا جديدًا للتنمية الحضرية المستدامة (Sustainable urban development)، والتي تهدفُ إلى ايجادِ التوازن بين المدنِ والريف، عن طريق بناءِ مدنٍ جديدة صالحةٍ للعيش، وأكثر استدامة وشموليّة. ولتأديةِ هذا الغرض، لا بد من إنشاءِ بنية تحتيّة مستدامة، تركزُ على التحوّلِ الأخضر والرّقمنة، وستكون المدنُ الذكيّة الحلَ لهذه المشكلة.[1]