في ظل الظروف العادية، تُعدُّ المياه النقية عازلًا مثاليًا. يطوِّر الماء خصائصَ فلزيةً فقط تحت ضغطٍ كبير، مثل وجوده في باطن الكواكب الكبيرة. مؤخرًا، استخدم فريق عالمي نهجًا مختلفًا تمامًا لإنتاج الماء الفلزي، ووثق هذا التحول الطوري في مركز بيسي 2 (BESSY II). نُشِرت الدراسة في مجلة نيتشر (Nature).
حتى الأطفال يعرفون أن الماء يوصل الكهرباء، ولكن هذا يكون في المياه العادية التي تحوي الأملاح والمستخدمة في الأنشطة اليومية. إلا أن الماء المقطر النقي يكاد يكون عازلًا مثاليًا. إنه يتكون من جزيئات (H2O) التي ترتبط بعضها ببعض بصفة ضعيفة عبر الروابط الهيدروجينة. تظل إلكترونات التكافؤ مقيدةً ولا يمكنها الحركة. لإنشاء نطاق توصيل (Conduction Band) به إلكترونات تتحرك بحرية، يجب أن يجري ضغطُ الماء حتى تتداخل مدارات الإلكترونات الخارجية. ومع ذلك، تُظهِر الحسابات أن هذا الضغط موجود فقط في قلب الكواكب الكبيرة، مثل كوكب المشتري.
توفير الإلكترونات
استخدم فريقُ تعاونٍ دولي من 15 عالمًا من إحدى عشرة مؤسسة بحثية نهجًا مختلفًا تمامًا لإنتاج محلول مائي بخصائصَ معدنيةٍ لأول مرة، وقاموا بتوثيق هذا التحول الطوري في مركز بيسي 2. للقيام بذلك، أجروا التجربة باستخدام الفلزات القلوية (Alkali Metals)، التي تطلق إلكتروناتها الخارجية بسهولة بالغة.
تجنب الانفجار
ومع ذلك، من المعروف أن الفلزات القلوية تتفاعل مع الماء بصفة انفجارية. في الماء، يبدأ الصوديوم والفلزات القلوية الأخرى في الاشتعال على الفور. لكن الفريق وجد طريقة لإبقاء هذه التفاعلات العنيفة تحت السيطرة؛ لم يلقوا بقطعة الفلز القلوي في الماء، لكنهم فعلوا العكس، وضعوا القليل من الماء على قطرة من الفلز القلوي، سبيكة الصوديوم والبوتاسيوم (Na-K Alloy)، التي تكون سائلة في درجة حرارة الغرفة.
إجراء التجربة في بيسي 2
في مركز بيسي 2، أُجرِيت التجربة في حجرة العينة ذات التفريغ العالي (SOL³PES) عند خط الإشعاع (U49/2). تحوي حجرة العينة صنبورًا دقيقًا تقطُر منه سبيكة الصوديوم والبوتاسيوم السائلة. تنمو القطرة الفضية لمدة 10 ثوانٍ تقريبًا إلى أن تنفصل عن فوهة الصنبور. في أثناء نمو القطرة، يتدفق بعض بخار الماء إلى حجرة العينة ويكوِّن قشرة رقيقة للغاية على سطح القطرة، فقط بضع طبقات من جزيئات الماء. يؤدي هذا على الفور تقريبًا إلى انحلال الإلكترونات وكاتيونات الفلزات من سبيكة القلويات في الماء. تسلك الإلكترونات المحررة في الماء سلوك الإلكترونات الحرة في نطاق التوصيل.
طبقة الماء الذهبية
يقول الدكتور روبرت سَيدِل (Robert Seidel)، الذي أشرف على التجارب في بيسي 2:
«يمكنك أن ترى التحول الطوري إلى الماء الفلزي بالعين المجردة. تغطي قطرة الصوديوم والبوتاسيوم الفضية نفسها بوهجٍ ذهبي اللون، وهو أمر مثير للإعجاب.»
تظل الطبقة الرقيقة من الماء الفلزي ذي اللون الذهبي مرئيةً لبضع ثوانٍ. وقد مكن هذا الأمر الفريقَ بقيادة البروفيسور بافيل يونغفيرث (Pavel Jungwirth)، من اﻷكاديمية التشكيلية للعلوم (Czech Academy of Sciences) في مدينة براغ (Prague)، من خلال التحليلات الطيفية في بيسي 2 ومعهد الكيمياء العضوية والكيمياء الحيوية (IOCB) في براغ من إثبات أنه بالفعل ماءٌ في حالة فلزية.
أدلةٌ على التحول إلى الطور الفلزي
إن الدليلين الحاسمين على التحول إلى الطور الفلزي هما تردد البلازمون (Plasmon Frequency) ونطاق التوصيل. تمكنت المجموعات البحثية من تقدير هاتين الكميتين باستخدام التحليل الطيفي للانعكاس البصري والتحليل الطيفي للإلكترونات الضوئية بأشعةٍ سينيةٍ صادرة من سنكروتون. ففي حين يبلغ تردد البلازمون في الطبقة المائية الفلزية الذهبية اللون نحو 2.7 إلكترون فولت (أي في المدى الأزرق للضوء المرئي)، يبلغ مدى نطاق التوصيل نحو 1.1 إلكترون فولت مع ظهور قمة فيرمي (Fermi Edge) بصفة حادة. يقول سايدل:
«لا تُظهر دراستنا أنه يمكن بالفعل إنتاج الماء الفلزي على الأرض فحسب، بل توضح أيضًا الخصائص الطيفية المرتبطة ببريقها المعدني الذهبي الجميل.»