كلمة أولى
شهَد عام 1997 الإعلان الرسميّ عن فرع اقتصاديّ عالميّ جديد عُرف باسم «الاقتصاد الحيويّ»، عندما قدّم العالِمان المكسيكيان خوان إنريكيز(Juan Enríquez) ورودريجو مارتينيه (Rodriguez Martinez) ورقة بحثيّة تضمنت مصطلحًا علميًّا جديدًا هو «الاقتصاد الحيويّ» أو ما قد يطلق عليه أحيانًا مصطلح «الاقتصاد البيولوجيّ» (Bioeconomy)، وذلك ضمن فعاليات المؤتمر السنويّ للجمعيّة الأمريكيّة لتقدم العلوم (American Association for the Advancement of Science, AASS)، حيث عُرض المصطلح لأول مرة في حلقة نقاشية عن علم الجينوم وتطبيقاته، كما نُشر ملخص ورقتهما البحثية في مجلة (Science).
وعلى الرغم من أن الظهور الأوليّ لمصطلح التكنولوجيا الحيويّة في الكتابات العلميّة كان في فترة السبعينيات من القرن الماضي، فإن بداية ربط التكنولوجيا الحيويّة (Biotechnology) بالاقتصاد وما ترتب عليها من تبعات اقتصاديّة، لم يُكتب عنها بشكل صريح إلا في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، التي شهدت بداية الكتابات العلنيّة لعلمٍ جديد هو «اقتصاد التكنولوجيا الحيويّة» (Biotechnology Economy)، والذي ما لبث أن تحوّل اسمه الاصطلاحيّ إلى الاقتصاد الحيويّ، وأصبح بذلك الاقتصادي الحيويّ أحد فروع علم الاقتصاد الحديث يُتوقع أن يتغلب على كافة صعوبات الاقتصاد التقليديّ وأن يكون فاعلًا مؤثرًا على الاقتصاد العالميّ في المستقبل. [1]
تعريف الاقتصاد الحيويّ
الاقتصاد الحيويّ هو أحد فروع العلوم الاجتماعية الحديثة نتج عن دمج تخصصين علميَّين معًا، هما علم الاقتصاد وعلم الأحياء (علم البيولوجيا Biology)، لتحقيق أهداف علميّة واقتصاديّة محددة، ويتمثل في إنشاء نظريات علمية تخصصية تساهم في شرح الأحداث الاقتصاديّة الناتجة عن استخدام التكنولوجيا الحيويّة في الإنتاج والعكس بالعكس.
فبسبب التغيرات السريعة في العلوم وما نتج عنها من تغيرات في عالم الصناعة والتجارة، كان لا بد من ظهورعلوم جديدة تدرس أثر هذه التغيرات بطريقة جديدة، ظهر معها علم جديد هو علم الاقتصاد الحيويّ.
هناك العديد من المناهج العلميّة التي تضع تعريفات مختلفة للاقتصاد الحيويّ، ومنها:
النهج الأول الذي تنتهجه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) وتُعرفه على أنّه النظام الاقتصاديّ الذي تُساهم فيه التكنولوجيا الحيويّة بنسبة كبيرة من قيمة الناتج الإجماليّ، عن طريق استخدام المعارف والعلوم المتقدمة الخاصة بدراسة الجينات والهندسة الوراثية لتطويرعمليات الإنتاج وإنتاج منتجات جديدة. ليكون الاقتصاد الحيويّ امتدادًا لفروع صناعة التكنولوجيا الحيويّة.
أما النهج الثاني في التعريف، فهو تعريف المفوضية الأوروبية للبحث والابتكار الذي ينص على أن الاقتصاد الحيويّ هو أحد أقسام علم الاقتصاد يستخدم الموارد البيولوجية المتجددة البريّة والبحريّة والمستخدمة في إنتاج الغذاء والمواد والطاقة، سواء كانت ناتجة عن محاصيل زراعيّة أو غابات أو أسماك أو حيوانات أو كائنات دقيقة.
أما التعريف الرسميّ للاقتصاد الحيويّ وفق مخطط البيت الأبيض الذي وُضِع في العام 2012، فيُعرّف الاقتصاد الحيويّ على أنه الاقتصاد الذي يركز على استخدام البحث والابتكار في مجال العلوم البيولوجية لخلق أنشطة اقتصاديّة ذات منفعة عامة.
بحيث يشمل تعريف الاقتصاد الحيويّ في الولايات المتحدة جميع ما قد يحيط بنا في أي مكان من عقاقير أو مساهمات طبية جديدة لتعمل على تحسين صحة الإنسان، أو محاصيل غذائية مرتفعة الغلة، كما تشمل الوقود الحيويّ الذي يقلل الاعتماد على النفط، بالإضافة إلى المواد الكيميائية الوسيطة الحيويّة التي تساعد في إنتاج منتجات جديدة بتكاليف اقتصاديّة.[2]
أهداف الاقتصاد الحيويّ
يهدف الاقتصاد الحيويّ إلى معالجة خمسة أمور مستقبلية رئيسية تتعلق بإنتاج منتجات جديدة بتكلفة اقتصاديّة، هذه الأهداف تتمثل في ضمان الأمن الغذائي، وتحقيق إدارة مستدامة للموارد الطبيعية، والحد من استخدام الموارد الناضبة واستبدالها بموارد اقتصاديّة متجددة، والتخفيف من آثار تغيرات المناخ، والمساهمة في خلق فرص العمل وتنمية المناطق الريفية.
وذلك من خلال ما يوفره الاقتصاد الحيويّ من مواد جديدة تساهم في توفير مصادرمتجددة تستخدم لإنتاج الطاقة والغذاء، كما تساهم في زيادة حجم الناتج وتحقيق تنمية مستدامة.
الاقتصاد الحيويّ والنمو الاقتصادي والتنمية المستدامة
تعتَبر المفوضية الأوروبية الاقتصاد الحيويّ واحدًا من أهم الوسائل التي يمكن أن تستخدم لتحفيز النمو الاقتصاديّ للاقتصادات المتقدمة، بما يضمن تحقيق تنمية مستدامة لها. كما يمكن لبقية الدول النامية والدول التي حققت أشواطًا من النمو أن تستخدمه كطريقة فعالة لزيادة الإنتاج وتحقيق معدلات نمو اقتصاديّ مرتفعة، وذلك لأن الاقتصاد الحيويّ يهدف إلى تقليل الاعتماد على الموارد الطبيعية الناضبة أو التي تتأثر -أو تأثرت بالفعل- بالتغيرات المناخية والتلوث البيئي.
والتحول إلى أنظمة إنتاجية تعتمد على التصنيع، وتعزيز الإنتاج المستدام للموارد المتجددة من الأراضي، واستخدام مصائد حيويّة لتربية الأسماك وتربية الأحياء المائية وتحويلها إلى أغذية وأعلاف وألياف ومنتجات وطاقة حيويّة جديدة تستخدم في إيجاد منتجات ووظائف جديدة ضمن صناعات اقتصاديّة حيويّة.
فوائد الاقتصاد الحيويّ
يساهم الاقتصاد الحيويّ في توفير منتجات اقتصاديّة جديدة ومتنوعة بتكاليف منخفضة مما يحقق رفاهية المجتمعات، من خلال إيجاد موارد إنتاجية اقتصاديّة جديدة ومتجددة، كما إنه يركز على طرق إنتاجية مبتكرة تحقق العديد من الفوائد والمزايا الاقتصادية. بالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من المزايا التي يمكن أن تعود على الدول، من أهمها أنه:
1- نهج واسع ومبتكر ينطوي على تعاون مختلف أصحاب المصلحة، وتعزيز الحوار والتعاون على نطاق عالميّ، بما قد يوفره من إمكانيات كبيرة لجميع الدول.
2- يمكن أن يساعد الاقتصاد الحيويّ في تقليل التلوث وتقليل انبعاثات الغازات الضارة، وبالتالي الحد من آثار الاحتباس الحراريّ.
3- يقلل الاعتماد على الموارد الأحفوريّة الناضبة من خلال توفير مواد جديدة تستخدم في إنتاج الطاقة، مما يساعد في إعادة هيكلة إنتاج الطاقة والغذاء.
4- يساهم في إدارة أكثر حكمةً للموارد الطبيعية.
5- يشجع على البحث والابتكار والتطوير من خلال تخصصات جديدة واسعة الحدود.
6- يخلق فرص عمل جديدة وآفاق واسعة، في المناطق الحضريّة والريفيّة.[3]
الفرق بين الاقتصاد الدائري والاقتصاد الحيويّ
قد يعتقد البعض أن الاقتصاد الحيويّ مرادفٌ آخر للاقتصاد الدائري، ولكن هناك اختلافات وفروقات جوهريّة بين الاقتصادين، فبينما الاقتصاد الدائري يتمحور حول كيفية تقليل الهدر من الموارد الطبيعية وإعادة استخدام المواد المهدورة في إنتاج سلع أخرى، بمعنى أنه يدور في فلك سؤال «ماذا ننتج من الهدر؟» أي النتيجة التي يجب تحقيقها من استخدام المواد المهدورة من الموارد الطبيعية، في حين يدور الاقتصاد الحيويّ حول سؤال «كيف ننتج مواد جديدةً باستخدام التكنولوجيا الحيويّة؟» كنوع من تعزيز العمليات الحيويّة لتحقيق نتائج اقتصاديّة.
بمعنى آخر: يمكن اعتبار الاقتصاد الحيويّ مكملًا للاقتصاد الدائري، فحسب البيان الصادر عن القمة العالميّة للاقتصاد الحيويّ، يجب أن تسير مبادئ الاقتصاد الحيويّ المستدام جنبًا إلى جنب مع مبادئ الاقتصاد الدائري، خاصة فيما يتعلق بوضع التدابير المختلفة لسياسة الابتكار التي تهدف إلى تحسين قيمة الاقتصاد الحيويّ وتقليل الفقد والخسائر.[4]
كلمة أخيرة
بالرغم من الجوانب الإيجابية والآثار الاقتصادية التي يمكن أن يحققها الاقتصاد الحيويّ، فإن هناك العديد من التحديات التي تواجهه، أهمها الفجوة العلمية والفكرية بين العالم المتقدم والعالم الناميّ، التي تحرم جزءًا كبيرًا من العالم الاستفادة منه. كما إن حقوق الملكية الفكريّة وبراءات الاختراع تشكل عائقًا أمام الدول المتقدمة التي يمكن أن ترفع تكاليف الإنتاج بدلًا من تخفيضها. كما يعتبر ارتفاع تكاليف الاستثمار في هذا المجال من أكبر التحديّات المواجهة له، لما يفرضه الواقع من ضرورة تحقيق أرباح طائلة تغطي التكاليف، وهناك تطبيقات عمليّة لهذا الفرع في مجال التكنولوجيا الحيويّة الزراعيّة التي وصلت إلى نتائج رائعة في هذا المجال، ولكنها لم تصل إلى مرحلة الإنتاج الاقتصاديّ نتيجة ارتفاع تكاليف البحث والتطوير للوصول إلى المواد الحيّوية الجديدة.
ولكن يبقى هناك أملٌ في أن يكون للاقتصاد الحيويّ مخرجٌ اقتصاديٌّ آمنٌ هدفه تحقيق التنمية المستدامة وتحقيق الرفاهية في المستقبل.