أظهر سيوكورو مانابي كيف أنَّ زيادة تركيزات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوِّي تؤدِّي إلى زيادة درجات الحرارة على سطح الأرض؛ ففي السِّتينيَّات من القرن الماضي، قاد تطوير النَّماذج الفيزيائيَّة لمناخ الأرض، وكان أوَّل شخصٍ يستكشف التَّفاعل بين توازن الإشعاع والنَّقل الرَّأسيّ للكتل الهوائيَّة؛ وبذلك يُعتَبر عمله هذا هو الأساس لتطوير نماذج المناخ.
بعد حوالي عشر سنوات، ابتكر كلاوس هسلمان نموذجًا يربط بين الطَّقس والمناخ، وبذلك أجاب على سؤال: »لماذا يمكن الاعتماد على النَّماذج المناخيَّة على الرَّغم من تغيُّر الطَّقس وفوضويَّته«، كما طوَّر طُرُقًا لتحديد الإشارات، والبصمات التي تتركها الظَّواهر الطَّبيعيَّة، والأنشطة البشريَّة في المناخ، وكما اُستُخدِمَت أساليبه لإثبات أنَّ ارتفاع درجة الحرارة في الغلاف الجوِّي ناتج عن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون البشريّة.
وفي عام 1980، اكتشف جورجيو باريزي أنماطًا خفيَّة في مواد معقَّدة غير مرتَّبة، وتُعتبَر اكتشافاته من بين أهمِّ المساهمات في نظريَّة الأنظمة المُعقَّدة؛ إذ إنَّها تجعل من المُمكن فهم، ووَصْف العديد من المواد، والظَّواهر المعقَّدة والعشوائيَّة تمامًا، ليس فقط في الفيزياء؛ وإنَّما أيضًا في مجالات أخرى مختلفة جدًا، مثل: الرِّياضيَّات، وعلم الأحياء، وعلم الأعصاب، والتَّعلُّم الآلي.
التَّأثير الحراري أو الاحترار، وأثره الحيويّ في الحياة
قبل مائتي عام، درس الفيزيائيّ الفرنسيّ (جوزيف فورييه) توازُن الطَّاقة بين إشعاع الشَّمس تجاه الأرض والإشعاع من الأرض، فقد فهم دور الجوّ في هذا التَّوازن على سطح الأرض؛ حيث يتحوَّل الإشعاع الشَّمسيّ الوارد إلى إشعاع صادر -»حرارة مظلمة«- يمتصُّها الغلاف الجوَّي، وبالتَّالي تسخِّن الغلاف الجوَّي، ويُطلَق على الدَّور الوقائيّ للغلاف الجوِّيّ الآن اسم »تأثير الاحتباس الحراري«، ويأتي هذا الاسم نظرًا لتشابهه مع الألواح الزُّجاجيَّة للبيت الزُّجاجي أو الصُّوبة الزُّجاجيَّة، والتي تسمح بمرور أشعَّة الشَّمس الحراريَّة، لكنَّها تحبس الحرارة في الدَّاخل، ومع ذلك فإنَّ العمليَّات الإشعاعيَّة في الغلاف الجوِّيّ أكثر تعقيدًا بكثير.
إنَّ المهمَّة نفسها التي اضطَّلع بها فورييه للتَّحقيق في التَّوازن بين الأشعَّة الشَّمسيَّة ذات الموجة القصيرة القادمة نحو كوكبنا، والأشعَّة تحت الحمراء الصَّادرة من الأرض على المدى الطويل -والتي أُضيفَت لها التَّفاصيل من قبل العديد من علماء المناخ على مدى القرنين التَّاليين-، والنَّماذج المناخيَّة المعاصرة؛ تُشكِّل أدواتاً قويَّة بشكل لا يُصدَّق، ليس فقط لفهم المناخ؛ ولكن أيضًا لفهم الاحتباس الحراري الذي يتحمَّل البشر مسؤوليَّته.
تستند هذه النَّماذج إلى قوانين الفيزياء، وقد تمَّ تطويرها من نماذج اُستُخدِمَت للتَّنبُّؤ بالطَّقس؛ حيث وُصِفَ الطَّقس بكميَّات الأرصاد الجويَّة، مثل: درجة الحرارة، أو هطول الأمطار، أو الرِّياح، أو السُّحُب، ويتأثَّر بما يحدث في المحيطات، وعلى اليابسة. وتعتمد النَّماذج المناخيَّة على الخصائص الإحصائيَّة المحسوبة للطَّقس، مثل: (القيم المتوسِّطة، والانحرافات المعياريَّة، والقيم الأعلى والأدنى المُقاسَة، وما إلى ذلك…)؛ ولكن لا يمكنهم إخبارنا بما سيكون عليه الطَّقس في ستوكهولم في 10 ديسمبر من العام المُقبِل مثلًا، لكن يمكننا الحصول على فكرة عن درجة الحرارة أو مقدار هطول الأمطار الذي يمكن أن نتوقَّعه -في المتوسِّط- في ستوكهولم في ديسمبر.
إثبات دور ثاني أكسيد الكربون
إنَّ التَّأثير الحراريّ أو الاحترار ضروريٌّ للحياة على الأرض؛ حيث إنَّه يتحكَّم في درجة الحرارة لأن الغازات الدَّفيئة في الغلاف الجوي -ثاني أكسيد الكربون والميثان وبخار الماء والغازات الأخرى- تمتصُّ أوَّلًا الأشعَّة تحت الحمراء للأرض، ثمَّ تطلق هذه الطَّاقة المُمتصَّة؛ ممَّا يؤدِّي إلى تسخين الهواء المحيط والأرض تحته.
في الواقع، تُشكِّل الغازات الدَّفيئة نسبة صغيرة جدًا من الغلاف الجوِّي الجاف للأرض، والذي يتكون إلى حدٍّ كبير من النيتروجين والأكسجين -وهذه تُشكِّل 99 % من حيث الحجم-، و ثاني أكسيد الكربون يمثِّل 0.04 في المائة فقط من حيث الحجم. أقوى الغازات الدَّفيئة هو بخار الماء، لكن لا يمكننا التحكم في تركيز بخار الماء في الغلاف الجوي ، بينما يمكننا التحكم في تركيز ثاني أكسيد الكربون.
كميَّة بخار الماء في الغلاف الجوِّي تعتمد بشكل كبير على درجة الحرارة، ممَّا يؤدِّي إلى آلية التَّغذية المرتدَّة، والمزيد من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوِّي يجعله أكثر دفئًا؛ ممَّا يسمح باحتجاز المزيد من بخار الماء في الهواء، وبالتَّالي يزيد من تأثير الاحتباس الحراري، ويجعل درجات الحرارة ترتفع أكثر. وإذا انخفض مستوى ثاني أكسيد الكربون، سيتكثَّف بعض بخار الماء، وتنخفض درجة الحرارة.
جاء الجزء الأوَّل المهمّ من اللُّغز حول تأثير ثاني أكسيد الكربون مع الباحث السُّويدي، والحائز على جائزة نوبل (سفانتي أرينيوس)، وعالم الأرصاد الجوِّيَّة (نيلز إيكهولم). في عام 1901، اُستُخدِمَت كلمة »دفيئة« لأوَّل مرَّة؛ وذلك في وصف تخزين الغلاف الجوِّي، وإعادة إشعاع الحرارة.
أدرك أرينيوس الفيزياء المسؤولة عن تأثير الاحتباس الحراري بحلول نهاية القرن التاسع عشر؛ حيث وجد أنَّ الإشعاع الصَّادر يتناسب طرديًّا مع الأسّ الرُّباعيّ لدرجة حرارة الجسم المُشعّ المطلَقة (T⁴). كلَّما كان مصدر الإشعاع أكثر سخونة، كان الطّول الموجيّ للأشعَّة أقصر؛ إذ تبلغ درجة حرارة سطح الشَّمس 6000 درجة مئوية، وتطلق أشعَّة في الطَّيف المرئيّ بشكل أساسي على الأرض، مع درجة حرارة سطح 15 درجة مئوية فقط، وتعيد إشعاع الأشعَّة تحت الحمراء غير المرئيَّة لنا مرَّة أخرى، فإذا لم يمتصّ الغلاف الجوّي هذا الإشعاع؛ فستتجاوز درجة حرارة السطح بالكاد -18 درجة مئويَّة.
كان أرينيوس يحاول بالفعل معرفة سبب ظاهرة العصور الجليديَّة المُكتَشَفة مؤخَّرًا، وتوصَّل إلى استنتاج مفاده: »إذا انخفض مستوى ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي إلى النّصف؛ فسيكون هذا كافيًا للأرض لدخول عصر جليدي جديد، والعكس صحيح؛ إذ أنَّ مضاعفة كمّيَّة ثاني أكسيد الكربون من شأنها أن تزيد درجة الحرارة بمقدار 5-6 درجات مئويَّة«. وهذا الاستنتاج -ولحسن الحظ- قريب بشكل مذهل من التَّقديرات الحاليَّة.
نموذج رائد لتأثير ثاني أكسيد الكربون
في الخمسينيَّات من القرن الماضي، كان عالم فيزياء الغلاف الجوّي الياباني سيوكورو مانابي أحد الباحثين الشَّباب، والموهوبين في طوكيو الذين غادروا اليابان بعد أن دمَّرتها الحرب، وواصلوا حياتهم المهنيَّة في الولايات المتَّحدة. قبل حوالي سبعين عامًا، كان الهدف من بحث مانابي، وبحث أرينيوس هو فهم كيف يمكن أن تؤدّي المستويات المتزايدة من ثاني أكسيد الكربون إلى زيادة درجات الحرارة. ومع ذلك، ركَّز أرينيوس على توازن الإشعاع، وقاد مانابي في السِّتّينيَّات العمل على تطوير نماذج فيزيائيَّة؛ لدمج النَّقل الرَّأسي للكتل الهوائيَّة بسبب الحمل الحراري، فضلاً عن الحرارة الكامنة لبخار الماء.
لجعل هذه الحسابات قابلة للإدارة؛ اختار تقليل النَّموذج إلى بُعد واحد -عمود رأسي- يصل ارتفاعه إلى 40 كيلومترًا في الغلاف الجوي. ومع ذلك؛ فقد استغرق الأمر مئات من ساعات الحوسبة لاختبار النَّموذج من خلال تغيير مستويات الغازات في الغلاف الجوي، فكان للأكسجين والنيتروجين تأثيرات ضئيلة على درجة حرارة السَّطح؛ بينما كان لثاني أكسيد الكربون تأثير واضح أنَّه عندما تضاعف مستوى ثاني أكسيد الكربون، زادت درجة الحرارة العالميَّة بأكثر من درجتين مئويتين.
وأكَّد النَّموذج أنَّ هذا الاحترار كان فعلاً بسبب زيادة ثاني أكسيد الكربون؛ لأنَّه تنبَّأ بارتفاع درجات الحرارة بالقرب من الأرض، بينما يصبح الغلاف الجوّي العلوي أكثر برودة. فإذا كانت الاختلافات في الإشعاع الشَّمسي مسؤولة عن زيادة درجة الحرارة بدلًا من ذلك، فيجب أن يكون الغلاف الجوي بأكمله يسخن في نفس الوقت.
قبل ستّين عامًا، كانت أجهزة الكمبيوتر أبطأ بمئات آلاف المرَّات ممَّا هي عليه الآن، لذلك كان هذا النَّموذج بسيطًا نسبيًّا، لكن مانابي حصل على الميِّزات الرَّئيسيَّة بشكل صحيح، وهو يقول إنَّه »يجب عليك دائمًا التَّبسيط حيث لا يمكنك مجاراة تعقيد الطبيعة؛ فهناك الكثير من الفيزياء المتضمّنة في كلّ قطرة مطر لدرجة أنَّه لن يكون من الممكن أبدًا حساب كلّ شيء على الإطلاق«. أدَّت الأفكار المُستمَدَّة من النَّموذج أحادي البعد إلى نموذج مناخي ثلاثي الأبعاد، نشره مانابي في عام 1975، وكان هذا معلمًا آخر على طريق فهم أسرار المناخ.
الطقس الفوضوي
بعد حوالي عشر سنوات من مانابي، نجح كلاوس هسلمان في الرَّبط بين الطقس والمناخ؛ من خلال إيجاد طريقة للتَّغلُّب على التَّغيُّرات المناخيَّة السَّريعة والفوضويَّة التي كانت صعبة جدًا للحسابات. ويشهد كوكبنا تغيُّرات هائلة في طقسه؛ لأنَّ الإشعاع الشَّمسي موزَّع بشكل غير متساوٍ جغرافيًّا أو زمانيًّا، وبذلك فإنَّ كمِّيَّة أقلّ من أشعَّة الشَّمس يصل إلى خطوط العرض الأعلى من تلك الموجودة في الأسفل حول خط الاستواء. ليس هذا فقط، فمحور الأرض المائل ينتج عنه اختلافات موسميَّة في الإشعاع الوارد. تتسبَّب الاختلافات في الكثافة بين الهواء الأكثر دفئًا وبرودةً، في حدوث عمليَّات نقل هائلة للحرارة بين خطوط العرض المختلفة، وبين المحيطات والأرض، وبين الكتل الهوائية الأعلى والأدنى، مما يعكس الطَّقس على كوكبنا.
كما نعلم جميعًا، فإنَّ إجراء تنبُّؤات موثوقة حول الطَّقس لأكثر من العشرة أيَّام القادمة يُمثِّل تحدِّيًا. قبل مائتي عام، صرَّح العالم الفرنسي الشَّهير (بيير سيمون دي لابلاس) بأنَّه إذا عرفنا للتَّوّ موقع وسرعة جميع الجسيمات في الكون؛ فسيكون من الممكن حساب ما حدث وما سيحدث في منطقتنا العالميَّة. من حيث المبدأ، يجب أن يكون هذا صحيحًا؛ فقوانين الحركة القديمة لنيوتن منذ ثلاثة قرون -والتي تصف أيضًا النَّقل الجوِّي في الغلاف الجوِّي- حتميَّة وصحيحة تمامًا، ولا تحكمها الصُّدفة.
ومع ذلك، لا شيء يمكن أن يكون أكثر خطأ عندما يتعلَّق الأمر بالطَّقس، وهذا استنتاج جزئيّ؛ لأنَّه من النَّاحية العمليَّة، من المستحيل أن تكون دقيقًا بدرجة كافية لتحديد درجة حرارة الهواء، أو الضَّغط، أو الرّطوبة، أو ظروف الرِّياح لكلِّ نقطة في الغلاف الجوي. وأيضًا المعادلات غير خطيَّة؛ إذ يمكن للانحرافات الصَّغيرة في القيم الأوليَّة أن تجعل نظام الطَّقس يتطوَّر بطرق مختلفة تمامًا. استنادًا إلى مسألةٍ ما؛ إذا كانت فراشة ترفرف بجناحيها في البرازيل، يمكن أن تسبِّب إعصارًا في تكساس، فقد سمِّيت هذه الظاهرة »تأثير الفراشة«.
من النّاحية العمليَّة، هذا يعني أنَّه من المستحيل إصدار تنبُّؤات جوِّيَّة طويلة الأجل لأنَّ الطَّقس فوضوي. تمَّ هذا الاكتشاف في السّتّينيَّات من قِبَل عالم الأرصاد الجوّيَّة الأمريكي (إدوارد لورنز)، الذي وضع الأساس لنظريَّة الفوضى الحاليّة.
فهم البيانات المعقدة
كيف يمكننا إنتاج نماذج مناخيّة موثوقة لعدَّة عقود، أو مئات السِّنين في المستقبل، على الرغم من كون الطَّقس مثالًا كلاسيكيًّا على النِّظام الفوضويّ؟
نحو عام 1980، أظهر كلاوس هسلمان كيف يمكن وصف ظواهر الطَّقس المتغيِّرة بشكل فوضوي بأنَّها ضوضاء متغيّرة بسرعة، وبالتّالي وضع التَّنبُّؤات المناخيَّة طويلة الأجل على أساس علمي ثابت، كما طوَّر طرقًا لتحديد تأثير الإنسان على درجة الحرارة العالميّة المرصودة.
في الخمسينيّات من القرن الماضي، كطالب دكتوراه شاب في الفيزياء في هامبورغ بألمانيا، عمل هاسلمان على ديناميكيَّات الموائع، ثمَّ بدأ في تطوير الملاحظات، والنَّماذج النَّظريَّة لأمواج وتيَّارات المحيطات، ثمَّ انتقل إلى كاليفورنيا واستمرَّ في علم المحيطات، حيث التقى بزملاء مثل (تشارلز ديفيد كيلينغ)، والذي بدأ معه هاسلمان ومادريجال كيلنج- في عام 1958- ما هو الآن أطول سلسلة من قياسات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، وذلك في مرصد (مونا لوا) في هاواي. لم يعرف هاسلمان كثيرًا أنَّه في عمله اللّاحق سيستخدم منحنى كيلنج بانتظام، والذي يُظهِر التَّغيُّرات في مستويات ثاني أكسيد الكربون.
يمكن توضيح الحصول على نموذج مناخي من بيانات الطَّقس الصَّاخبة من خلال تمشية كلب؛ حيث يركض الكلب بعيدًا عن الصَّدارة للخلف وللأمام، وحول ساقيك. كيف يمكنك استخدام مسارات الكلب لمعرفة ما إذا كنت تمشي أم لا تزال واقف؟ أو هل تمشي بسرعة أو ببطء؟
إنَّ مسارات الكلب هي التَّغيُّرات في الطًّقس، والمشي الخاص بك هو المناخ المحسوب، فهل من الممكن حتى استخلاص استنتاجات حول الاتّجاهات طويلة الأجل في المناخ باستخدام بيانات الطقس الفوضويّة والصّاخبة؟
تتمثَّل إحدى الصُّعوبات الإضافيَّة في أنَّ التَّقلُّبات التي تؤثِّر على المناخ متغيّرة للغاية بمرور الوقت؛ فقد تكون سريعة كقوّة الرّياح أو درجة حرارة الهواء، أو بطيئة جدًا كذوبان الصَّفائح الجليديَّة واحترار المحيطات. على سبيل المثال، قد يستغرق التَّسخين المنتظم بدرجة واحدة فقط ألف عام للمحيطات؛ بينما يستغرق فقط بضعة أسابيع للغلاف الجوي. كانت الحيلة الحاسمة هي دمج التّغيُّرات السَّريعة في الطَّقس بالحسابات كالضوضاء، وإظهار كيف تؤثِّر هذه الضَّوضاء على المناخ.
ابتكر هاسلمان نموذجًا مناخيًّا عشوائيًّا، ممَّا يعني أنَّ الفرصة مدمجة في النموذج. وقد جاء إلهامه من نظريَّة (ألبرت أينشتاين) للحركة البراونيَّة، والتي تُسمّى أيضًا »المشي العشوائي.« باستخدام هذه النظرية، أوضح هاسلمان أنَّ الغلاف الجوّي سريع التغيُّر، يمكن أن يتسبَّب في الواقع بتغيرات بطيئة في المحيط، ويترك آثاراً مميَّزة لتأثير الإنسان.
بمجرَّد الانتهاء من نموذج التَّغيُّرات المناخيَّة، طوَّر هاسلمان طرقًا لتحديد تأثير الإنسان على النّظام المناخي. وجد بأنَّ النَّماذج -وإلى جانب الملاحظات والاعتبارات النَّظريَّة- تحتوي على معلومات كافية حول خصائص الضَّوضاء والإشارات. على سبيل المثال، التّغييرات في الإشعاع الشَّمسي، أو الجسيمات البركانيّة، أو مستويات غازات الدَّفيئة، تترك إشارات فريدة وبصمات أصابع يمكن فصلها. يمكن أيضًا تطبيق هذه الطَّريقة لتحديد بصمات الأصابع لتأثير البشر على نظام المناخ. وهكذا مهَّد هاسلمان الطّريق لمزيد من الدّراسات حول تغيُّر المناخ، والتي أظهرت آثارًا لتأثير الإنسان على المناخ باستخدام عدد كبير من الملاحظات المستقلَّة.
أصبحت النَّماذج المناخيّة مُحسَّنة بشكل متزايد؛ حيث تُرسَم خرائط أكثر شمولًا للعمليّات المتضمَّنة في التّفاعلات المعقَّدة للمناخ، وذلك من خلال قياسات الأقمار الصناعيَّة ورصد الطقس. تُظهِر النَّماذج بوضوح تأثير الاحتباس الحراري المتسارع؛ فمنذ منتصف القرن التاسع عشر، زادت مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوّي بنسبة 40 في المائة، ولم يكن الغلاف الجوّي للأرض يحتوي على هذا القدر من ثاني أكسيد الكربون لمئات الآلاف من السّنين. وفقًا لذلك، تُظهِر قياسات درجة الحرارة أنَّ العالم قد ارتفعت درجة حرارته بمقدار درجة مئوية واحدة على مدار الـ 150 عامًا الماضية.
ساهم كلٌّ من سيوكورو مانابي، وكلاوس هاسلمان -وبروح ألفريد نوبل- في تحقيق أكبر فائدة للبشريّة؛ من خلال توفير أساس مادِّي متين لمعرفتنا بمناخ الأرض. لم نعد قادرين على القول إنَّنا لم نكن نعرف أنَّ النَّماذج المناخية لا لبس فيها. هل تسخن الأرض؟ نعم فعلًا، هل سبَّب زيادة كميّات غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي؟ نعم فعلًا، هل يمكن تفسير ذلك فقط بالعوامل الطّبيعيّة؟ لا، هل الانبعاثات البشريّة هي سبب ارتفاع درجة الحرارة؟ نعم فعلًا.
طرق النَّظم المضطربة
نحو عام 1980، قدَّم جورجيو باريزي اكتشافاته حول كيفيَّة تحكُّم الظَّواهر العشوائيَّة بقواعد خفيَّة. يُعتَبر عمله الآن من بين أهمّ المساهمات في نظريَّة »الأنظمة المعقَّدة .«
تعود جذور الدِّراسات الحديثة للأنظمة المعقَّدة إلى الميكانيكا الإحصائيَّة، والتي طوَّرها (جيمس سي ماكسويل) و(لودفيج بولتزمان) و(جيه ويلارد جيبس) في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر، وأطلقوا على هذا المجال اسمه في عام 1884.
تطوَّرت الميكانيكا الإحصائيَّة من فكرة أنَّ مفهومًا جديدًا حول نوع الطَّريقة كان ضروريًّا لوصف الأنظمة، مثل الغازات أو السوائل التي تتكون من أعداد كبيرة من الجسيمات. كان على هذه الطريقة أن تأخذ في الاعتبار الحركات العشوائيّة للجسيمات؛ لذلك كانت الفكرة الأساسيَّة هي حساب متوسّط تأثير الجسيمات بدلًا من دراسة كل جسيم على حدى. على سبيل المثال، درجة الحرارة في الغاز هي مقياس لمتوسّط قيمة طاقة جزيئات الغاز. تحقّق الميكانيكا الإحصائيَّة نجاحًا كبيرًا؛ وذلك لكونها تقدِّم تفسيرًا مجهريًّا للخصائص العيانيَّة في الغازات والسَّوائل، مثل درجة الحرارة والضغط.
يمكن اعتبار الجزيئات الموجودة في الغاز على أنَّها كرات صغيرة، تطير بسرعة تزيد مع ارتفاع درجات الحرارة. عندما تنخفض درجة الحرارة أو يزداد الضَّغط، تتكثَّف الكرات أوَّلاً لتصبح سائلًا، ثمَّ تتحوّل إلى مادّة صلبة. غالبًا ما تكون هذه المادة الصّلبة عبارة عن بلّورة، حيث يتمُّ تنظيم الكرات في نمط منتظم. ومع ذلك، إذا حدث هذا التَّغيير بسرعة، فقد تشكِّل الكرات نمطًا غير منتظم، لا يتغيَّر حتى لو تمَّ تبريد السَّائل أو ضغطه معًا. إذا تكرَّرت التَّجربة، ستفترض الكرات نمطًا جديدًا، على الرغم من حدوث التَّغيير بالطّريقة نفسها تمامًا. لماذا النتائج مختلفة؟!
محاولة فهم التعقيد
تُعتَبَر هذه الكرات المضغوطة نموذجًا بسيطًا للزجاج العادي والمواد الحبيبيَّة، مثل الرَّمل أو الحصى. ومع ذلك، كان موضوع عمل باريزي الأصلي نوعًا مختلفًا من النظام »زجاج الدوران .« هذا نوع خاص من السَّبائك المعدنيَّة؛ فعلى سبيل المثال، تُخلَط ذرَّات الحديد بشكل عشوائي، في شبكة من ذرَّات النُّحاس. على الرغم من وجود عدد قليل من ذرَّات الحديد، إلَّا أنَّها تغيِّر الخصائص المغناطيسيَّة للمادّة بطريقة جذريَّة ومحيِّرة للغاية. تتصرَّف كلّ ذرَّة حديد كمغناطيس صغير، أو تدور، وتتأثّر بذرَّات الحديد الأخرى القريبة منها. في المغناطيس العادي، جميع الدَّورات تدور في نفس الاتجاه، لكنَّها مُحبَطَة في الدَّوران الزُّجاجي؛ فبعض أزواج الدوران تشير في نفس الاتّجاه، وأخرى في الاتجاه المعاكس، فكيف تجد الاتّجاه الأمثل؟
في مقدّمة كتابه عن الدَّوران الزُّجاجي، كتب باريزي أنَّ دراسة الزُّجاج المُسَّنن أشبه بمشاهدة المآسي الإنسانيَّة لمسرحيَّات شكسبير. إذا كنت ترغب في تكوين صداقات مع شخصين في نفس الوقت، لكنَّهما يكرهان بعضهما البعض؛ فقد يكون الأمر مُحبِطًا. هذا هو الحال بشكل أكبر في مأساة كلاسيكيّة، حين يلتقي الأصدقاء والأعداء العاطفيّون بشدَّة، على خشبة المسرح، كيف يمكن تقليل التوتُّر في الغرفة؟
توفِّر النَّظَّارات الدَّوَّارة، وخصائصها الغريبة نموذجًا للأنظمة المعقَّدة. في السّبعينيّات، بحث العديد من الفيزيائيِّين -بمن فيهم العديد من الحائزين على جائزة نوبل- عن طريقة لوصف نظَّارات الدوران الغامضة والمحبِطة. كانت إحدى الطُّرق التي استخدموها هي خدعة النّسخ المتماثلة؛ وهي تقنية رياضيَّة تتمُّ فيها معالجة العديد من النّسخ، والنّسخ المتماثلة للنِّظام في نفس الوقت. ومع ذلك -فيزيائيَّاً- كانت نتائج الحسابات الأصليَّة غير مُجدية.
في عام 1979، حقَّق باريزي تقدُّمًا حاسمًا عندما أوضح كيف يمكن استخدام خدعة النّسخة المتماثلة ببراعة لحلِّ مشكلة زجاج الدَّوران. لقد اكتشف بنية مخفيَّة في النّسخ المتماثلة، ووجد طريقة لوصفها رياضيًّا. استغرق الأمر سنواتٍ عديدة حتى أُثبِتت صحّة حل باريز رياضيًّا. منذ ذلك الحين، اُستُخدِمَت طريقته في العديد من الأنظمة المضطربة، وأصبحت حجر الزَّاوية في نظريّة الأنظمة المعقَّدة.
يُعتبَر كلٌّ من الزُّجاج الدَّوراني، والمواد الحبيبيَّة أمثلة على الأنظمة المعقَّدة؛ حيث يجب على المكوِّنات المختلفة ترتيب نفسها بطريقة تكون بمثابة حلّ وسط بين القوى المواجهة. السُّؤال هو: كيف يتصرَّفون؟ وما هي النَّتائج؟ إنَّ باريسي هو خبير في الإجابة على هذه الأسئلة للعديد من المواد والظَّواهر المختلفة، وكانت اكتشافاته الأساسيَّة حول بنية النَّظارات الدَّوَّارة عميقة جدًا، لدرجة أنَّها لم تؤثِّر على الفيزياء فحسب؛ بل أثَّرت أيضًا على الرِّياضيَّات، وعلم الأحياء، وعلم الأعصاب، والتَّعلُّم الآلي؛ لأنَّ كلّ هذه المجالات تتضمَّن مشكلات مرتبطة مباشرة بالإحباط.
درس باريزي أيضًا العديد من الظَّواهر الأخرى التي تلعب فيها العمليَّات العشوائيَّة دورًا حاسمًا في كيفيَّة إنشاء الهياكل، وكيفيَّة تطوّرها، وتعاملت مع أسئلة مثل: لماذا تتكرّر العصور الجليديّة بشكل دوري؟ هل يوجد وصف رياضي أكثر عموميّة للفوضى والأنظمة المضطّربة؟ أو كيف تنشأ الأنماط؟ قد يبدو هذا السؤال بعيدًا، ومع ذلك قال باريزي إنَّ معظم أبحاثه قد تناولت كيف تؤدِّي السُّلوكيَّات البسيطة إلى سلوكيَّات جماعيَّة معقَّدة.
One Response