بعد أيام من اعتراف روسيا بجمهورتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، الواقعتين في منطقة دونباس في شرق أوكرانيا، وبعد سماح مجلس الاتحاد الروسي بالإجماع للرئيس باستخدام القوة العسكرية خارج الحدود الروسية. أعلن الرئيس فلاديمير بوتين، في 24 فبراير/ شباط 2022، وفي كلمةٍ متلفزةٍ، شنَّ هجومٍ عسكريٍّ ضد الأراضي الأوكرانية، وهو ما أشعل الحرب الروسية الأوكرانية.، قائلًا إن الهدف من هذه الحملة العسكرية هو تجريد أوكرانيا من السلاح وإزالة أثر النازية منها. (1)
وفي أعقاب ذلك، هاجمت القوات الروسية الأراضي الأوكرانية من عدة اتجاهات، وقصفت مدنًا أوكرانيةً شملت العاصمة كييف، ومدن خاركوف، وكراماتورسك، وماريوبول، وميكولايف وأوديسا. وردًا على ذلك، أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الأحكام العرفية، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع روسيا، والتعبئة العامة.
وكان للغزو الروسي للأراضي الأوكرانية، ردود أفعال دولية واسعة النطاق، والتي شملت بعضها الإدانة والشجب وبعضها العقوبات، ومنها العقوبات الأمريكية، التي تضمنت: (2)
- عقوبات الحظر على “البنك الروسي للتنمية” (VEB)، والبنك المركزي الروسي، وعقوبات على ديون روسيا السيادية.
- عقوبات ضد أكبر مؤسستين ماليتين في روسيا؛ وهما شركة الأسهم العامة (سبيربنك)، وشركة VTB Bank العامة للأوراق المالية المشتركة.
- عقوبات ضد نحو 25 شركة تابعة لسبيرنك الروسي، بما فيها مؤسسات وصناديق إئتمانية وشركات تأمين في روسيا وستة بلدان أخرى.
- عقوبات ضد شركة روستليكوم العامة للأوراق المالية، وشركة الأسهم العامة “روس هيدرو”.
- عقوبات ضد شركة السكك الحديدية الروسية المفتوحة، وهي واحدة من أكبر شركات السكك الحديدية في العالم.
فيما أقر رئيس الوزراء البريطاني، حزمةً من العقوبات ضد شخصيات ومؤسسات روسية، منها منع مليارديرات روس من السفر إلى بريطانيا وسحب الجواز الذهبي منهم، والذي يسهل عليهم الاستثمار في الأراضي البريطانية.
فيما هدفت العقوبات الأوروبية إلى تقييد قطاع الطاقة الروسي. الجدير بالذكر أن روسيا تعتبر أكبر مُصدِرًا للغاز في العالم، وثاني أكبر مُنتِجًا للغاز ، وثاني أكبر مُصدِرًا ومُنتِجًا للنفط، مما يعني أن أي عقوبات ضد هذا القطاع يمثل تهديدًا للاقتصاد الروسي، وفي مساء السبت الموافق 26 فبراير/ شباط 2022، أعلن البيت الأبيض، بالتنسيق مع المفوضية الأوروبية وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة وكندا، استبعاد بنوكًا روسيةً من نظام “سويفت” البنكي الذي يربط آلاف المؤسسات المصرفية حول العالم.(3)
وفي أعقاب الغزو، شهدت العواصم الأوروبية تظاهرات للتنديد بالغزو الروسي، أما عن الداخل الروسي فقد شهدت العاصمة موسكو، تظاهرات قُوبِلت باعتقالاتٍ من سلطات الأمن الروسية. (4) نتناول في هذا المقال، جذور الحرب الروسية الأوكرانية، وما يدور بداخل عقل الرئيس الروسي بوتين، والأهمية الاستراتيجية لأوكرانيا بالنسبة إلى روسيا.
جذور الحرب الروسية الأوكرانية
قبل 1991
في أعقاب الثورة البلشفية وانهيار روسيا القيصرية، تحت وطأة الحرب والخلافات السياسية، أنشأ الأوكرانيون هيئة تنسيق بإسم “سنترال رادا”، والتي سرعان ما تطورت إلى برلمان ثوري. منحت الحكومة الروسية المؤقتة أوكرانيا حكمًا ذاتيًا تحت اسم الجمهورية الشعبية الأوكرانية، لكن البلاشفة، رفضوا ذلك، وغزوا أوكرانيا من أجل ضمها إلى الأراضي السوفيتية.
وفي أعقاب الحرب الأهلية الروسية (1917-1922)، تم إنشاء جمهورية أوكرانيا السوفيتية لتصبح عضوًا مؤسسًا للإتحاد السوفيتي. وفي أوائل الثلاثينيات، دبر ستالين عملية عُرِفت بالهولودومور (القتل من خلال الجوع)، والتي لقى خلالها حوالي 4 ملايين فلاح أوكراني حتفهم، و في أعقاب اتفاقه مع هتلر بشأن تقسيم شرق ووسط أوروبا بينهما، غزا ستالين بولندا في سبتمبر 1939 ودمج الأراضي الأوكرانية التي احتفظت بها بولندا بعد حربها القصيرة مع البلاشفة في عام 1919 في جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية. وفي مؤتمر يالطا في عام 1945، سمح تشرشل وروزفلت لستالين بالاحتفاظ بهذه الأراضي.
وبهذا أصبحت جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية تضم جميع المناطق ذات الأغلبية العرقية الأوكرانية تحت قيادة رئيسها النشط في الحزب الشيوعي نيكيتا خروتشوف. وبذلك حقق خروتشوف هدفًا طويل الأمد للقوميين الأوكرانيين وهو تأسيس أوكرانيا موحدة ، لكنه اتبع مسارًا من تعزيز الهيمنة السوفيتية للأراضي الأوكرانية بدلًا من تعزيز الحكم الذاتي الأوكراني. استمرت المقاومة المسلحة للحكم السوفيتي من قبل القوميين الأوكرانيين في الأراضي البولندية سابقًا حتى الخمسينيات من القرن الماضي.
على الرغم من ارتباط شبه جزيرة القرم بأوكرانيا عن طريق البر فقط، فقد أصبحت جمهورية تتمتع بالحكم الذاتي داخل روسيا في عام 1921، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الأهمية الاستراتيجية لشبه الجزيرة. لم يُشكِل الروس ولا الأوكرانيون أغلبية هناك، وفي عشرينيات القرن الماضي، زرع السوفييت ثقافة تتار القرم ، الذين عاشوا في شبه الجزيرة منذ القرن الثالث عشر وغزت الإمبراطورية الروسية “خانية القرم” في عام 1783، لإثارة إعجاب المستعمرات الغربية والدول المستقلة حديثًا في آسيا.
عندما استعاد الجيش الأحمر شبه جزيرة القرم من ألمانيا النازية في عام 1944، أمر ستالين بالترحيل القسري للتتار، الأمر الذي يعتبره العديد من المؤرخين إبادة جماعية. نتيجة لهذا الترحيل، أصبح الروس أغلبية عددية تقريبًا بين عشية وضحاها. تركت الحرب اقتصاد شبه الجزيرة والمدن في حالة خراب. وأثناء الاحتفال بمرور 300 عام على تأسيس بيرياسلاف، وهي إحدى المدن داخل كييف، أعلن خروتشوف ضم شبه جزيرة القرم إلى جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية. (5)
بعد 1991
في ديسمبر 1991، دقت بيلاروسيا وأوكرانيا المسمار الأخير في نعش الاتحاد السوفيتي، وفي ما بعد حاولت روسيا الفيدرالية الاحتفاظ بنفوذها، في أوكرانيا، عن طريق تأسيس رابطة (جي يو إس)، وصدرت الغاز إلى أوكرانيا بأسعار رخيصة. فيما تمكنت روسيا من بناء تحالف وثيق مع بيلاروسيا، كانت أنظار أوكرانيا متجهة نحو الغرب، وهو ما أزعج الكرملين، لكنه لم يصل إلى صراع طوال فترة التسعينيات، إذ كان الاقتصاد الروسي يعاني، وكانت البلاد منشغلة بالحرب في الشيشان.
وفي 1997، وقعت موسكو على “العقد الكبير” مع أوكرانيا، واعترفت بالحدود الأوكرانية بما فيها شبه جزيرة القرم، التي تقطنها غالبية ناطقة بالروسية. وفي 2003، شهدت روسيا وأوكرانيا أول أزمة دبلوماسية بينهما، إذ بدأت روسيا بشكل مفاجئ، بناء سد في مضيق كيرتش بالقرب من جزيرة “كوسا توسلا” الأوكرانية، وهو ما أغضب أوكرانيا، التي اعتبرت هذا الإجراء بمثابة محاولات لإعادة ترسيم حدود جديدة بين البلدين، ولم يتم وضع حد للصراع إلا بعد لقاء الرئيسين الروسي والأوكراني، وقد أدت هذه الأزمة لحدوث تصدع في العلاقات الروسية الأوكرانية.
وفي الانتخابات الرئاسية الأوكرانية 2004، دعمت روسيا المرشح الحليف لها، فيكتور يانوكوفيتش، إلا أن الثورة البرتقالية حالت دون فوزه، وفاز حينها المرشح المقرب من الغرب، فيكتور يوشتشينكو، وخلال رئاسته، قطعت روسيا إمدادات الغاز في عامي 2006 و2009.
وفي 2008، حاول الرئيس جورج بوش، ضم جورجيا وأوكرانيا إلى الناتو، وقوبِل ذلك باحتجاج بوتين. وفي أعقاب ذلك، حاولت أوكرانيا الارتباط بالغرب، عن طريق اتفاقية تعاون مع الاتحاد الأوروبي، وهو ما تسبب في غضب موسكو، التي مارست ضغوطًا اقتصادية على كييف، ونتيجة لذلك جمد يانكوفيتش المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، وانطلقت بذلك احتجاجات، أدت لفراره إلى روسيا في فبراير 2014، وفي مارس ضمت روسيا شبه جزيرة القرم.
كان ضم روسيا للقرم علامة فارقة في العلاقات الروسية الأوكرانية، إذ بدأت حرب غير معلنة بين البلدين في دونباس، كما أعلنت دونيتسك ولوغانسك جمهوريتان شعبيتان مستقلتان من جانب واحد، أما كييف فقد انتظرت حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية، لتُطلِق حملة عسكرية أسمتها “حربًا على الإرهاب”. (6)
وفي 2015، شن الانفصاليون هجومًا، زعمت الحكومة الأوكرانية، أنه مدعومًا بقوات روسية، وهو ما نفته موسكو. وبرعايةٍ غربيةٍ تم الاتفاق على “مينسك 2″، وهي الاتفاقية التي تشكل الأساس لمحاولات إحلال السلام في الإقليم، حيث نصت على: (7)
- الوقف الفوري لإطلاق النار الثنائي.
- المراقبة والتحقق من وقف إطلاق النار من قبل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
- لا مركزية السلطة، من خلال اعتماد القانون الأوكراني “بشأن النظام المؤقت للحكم الذاتي المحلي في مناطق معينة من ولايات دونيتسك ولوغانسك”.
- المراقبة الدائمة للحدود الأوكرانية الروسية والتحقق من قبل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا مع إنشاء مناطق أمنية في المناطق الحدودية لأوكرانيا والاتحاد الروسي.
- الإفراج الفوري عن جميع الرهائن والمحتجزين بشكل غير قانوني.
- وضع قانون يمنع مقاضاة ومعاقبة الأشخاص فيما يتعلق بالأحداث التي وقعت في بعض مناطق دونيتسك ولوغانسك.
- مواصلة الحوار الوطني الشامل.
- اتخاذ تدابير لتحسين الوضع الإنساني في دونباس.
- ضمان إجراء انتخابات محلية مبكرة وفقًا للقانون الأوكراني “بشأن النظام المؤقت للحكم الذاتي المحلي في مناطق معينة من دونيتسك ولوغانسك”.
- سحب الجماعات المسلحة غير الشرعية والمعدات العسكرية وكذلك المقاتلين والمرتزقة من أراضي أوكرانيا.
- تبني برنامج الإنعاش الاقتصادي وإعادة الإعمار لمنطقة دونباس.
- توفير الأمن الشخصي للمشاركين في المشاورات.
وفي 2019، سحبت الجبهتان المتحاربان بعض الجنود من بعض مناطق المواجهة، ومنذ قمة النورماندي في ديسمبر 2019، لم تحدث لقاءات بين بوتين والرئيس الأوكراني زيلينسكي، الذي اعتبرته روسيا، ليس ملتزمًا باتفاق مينسك.
ومنذ ديسمبر 2021، تحاول روسيا منع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف الناتو، والذي يشكل تهديدًا مباشرًا لمصالحها القومية في أوكرانيا، ويهدد العمق الاستراتيجي الروسي، وهو ما دفع روسيا للاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين في 21 فبراير/شباط 2022، ونشر قواتها هناك، وغزو أوكرانيا في في النهاية.(8)
بوتين وأوكرانيا
تتمتع أوكرانيا بموقع استراتيجي مهم في أوروبا الشرقية، حيث تقع على تقاطع الطرق بين دول أوروبية وآسيوية، وتحدها بيلا روسيا والمجر ومولدوفا وبولندا ورومانيا وروسيا وسلوفاكيا، فضلًا عن بحرين في الجنوب هما البحر الأسود وبحر أزوف. وتمتلك أوكرانيا ثروات طبيعية هائلة من حديد وفحم ومنجنيز وغاز طبيعي ونفط وغيرها من الموارد، والتي تجعلها مطمعًا للدول المستعمرة.
إن أوكرانيا تعني الكثير لروسيا، وإذا ما نظرنا إلى فترات الاستقلال الأوكرانية عبر التاريخ فإنها كانت قصيرة، وهي تعتبر بوابة من ضمن ثلاثة بوابات لروسيا: وسط آسيا والقوقاز وأوكرانيا، وتعتبر بوابة أوكرانيا الأخطر، وخسارة أوكرانيا تعني خسارة جيوسياسية وخسارة لجزءٍ من تاريخ وهوية روسيا.
كذلك، فإن أهم خطوط أنابيب النفط والغاز في إقليم أوروبا الوسطى والغربية يمر من خلال أوكرانيا، كذلك فإن عدد السكان الروس والناطقين بالروسية في أوكرانيا كبير، وهو ما يزيد من أهمية أوكرانيا لروسيا. وقد أدى ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014، إلى الاستيلاء على 4% من الناتج المحلي الإجمالي الأوكراني، كذلك فإن استقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك يعني الاستيلاء على 10% من الناتج المحلي الإجمالي الأوكراني.
لكن كيف يُفكِر بوتين؟ يرى بوتين أنه حتى تستعيد روسيا مكانتها كقوة عالمية، فإنه عليها بسط سيطرتها على الجوار القريب، ويشمل هذا الدول التي ظهرت في أعقاب تفكك الاتحاد السوفيتي. لذلك، عندما رأت روسيا أنها على وشك خسارة أوكرانيا للغرب، وهو ما يمثل تهديد لمصالحها ومجال نفوذها في الجوار القريب، ارتأت استخدام الحرب الاستباقية حتى يتسنى لها حماية عمقها الاستراتيجي.
لقد حققت روسيا بضمها لشبه جزيرة القرم، خطوة كبيرة نحو استعادة هيمنتها في منطقة البحر الأسود وشرق البحر الأبيض المتوسط، لكنها ما أن ارتأت تهديدًا لما اكتسبته من نقاط، شنت حربها على أوكرانيا. وبشكلٍ أوضح فإن بوتين يرى أن تكريس الغرب لوجوده في أوكرانيا يعني إطباق نفوذه على شمال البحر الأسود، وشبه جزيرة القرم. لقد أظهرت روسيا من خلال غزوها للأراضي الأوكرانية، بأنها لن تسمح تحت أي مسمى بأن تصبح أوكرانيا جزءًا من الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو، وذلك لاعتبارات قومية وجيوبوليتيكية حيث أنها تقع في الجوار المباشر، وتشكل مساحة ضخمة، مما يجعلها الحصن الاستراتيجي الأخير الذي يعزل روسيا عن الغرب. (9)
في النهاية، يمكن القول، أن جذور الحرب الروسية الأوكرانية، تمتد لسنوات بعيدة، فهي ليست وليدة اللحظة، وأن روسيا في سبيل استعادة مكانتها العالمية، وفي سبيل حماية جوارها القريب وعمقها الاستراتيجي، لن تتخلى عن أوكرانيا للغرب بسهولة، فإما تحييدها أو أن يكون النظام السياسي الأوكراني موالي لها، وتبقى الأيام القادمة لتبين لنا،كيف ستنتهي الحرب الروسية الأوكرانية!