مقدمة عن الموائع
يُطلق لفظ مائع على كل الغازات والسوائل تقريبًا، وميكانيكا الموائع هو فرع العلوم الذي يدرس سلوك الموائع؛ إما في حالة السكون (ستاتيكا الموائع- Fluid Statics)، أو في حالة الحركة (ديناميكا الموائع- Fluid Dynamics). ومجال ميكانيكا الموائع مهم جدًّا لفهم الحياة اليومية، فضخ الدم في القلب، والتنفس، والسباحة، ومضخات الماء، والتوربينات الهوائية أو المائية، والطائرات، والسفن إما تُحَرِّك مائعًا أو تستخدم حركته لتعمل، وقد يجد المرءُ نفسَه أمام حالة لا يعرف فيها هل ما بين يديه مائعٌ أم صلبٌ؟ ففي هذه الحالة يحتاج إلى تعريف أدق مبنيٍّ على التجربة لنحكم على ما بين أيدينا إن كان مائعًا أم لا. الفرق بين المادة الصلبة والمائعة هي أن المادة الصلبة يمكنها مقاومة الإجهاد المبذول عليها عن طريق تغيير شكلها (انفعال– Strain)، بينما الموائع يتغير شكلها باستمرار نتيجة الإجهاد المبذول عليها مهما صغُرَ.
تاريخ ميكانيكا الموائع
ينقسم تاريخ ميكانيكا الموائع إلى ثلاثِ مراحل، المرحلة الأولى هي استخدام تطبيقات ميكانيكا الموائع دون التطرق إلى المبادئ العلمية خلفها، وكان ذلك من القرن الثالث قبل الميلاد إلى أواخر القرن السادس عشر. خلال تلك الحقبة، بُنِيت العديدُ من الإنشاءات المعتمدة بشكل أساسي على ميكانيكا الموائع، مثل قنوات المياه التي بناها الرومان لإيصال المياه إلى المناطق السكنية ولري المحاصيل، وفي العصور الوسطى، استُخدمت مضخات المياه لنزح المياه في المناجم، كما عرفت طواحين المياه لطحن الحبوب. والجدير بالذكر أن تلك المخترعات إنما وصلتنا دون معرفة مخترعيها، بعضها موجود إلى يومنا الحاضر، والبعض الآخر لم يبق منه إلا صورة أو وصف في كتاب مثل كتب (جورجيوس أجريكولا- Georgius Agricola).
في الحقبة الثانية التي بدأت بأعمال جاليليو في أواخر القرن السادس عشر إلى منتصف القرن الثامن عشر، ساهم علماء عديدون في دراسة خصائص الموائع وحركتها ووضع المعادلات الأساسية التي تصفها. إلى ذلك الحين كل ما توصَّلوا إليه هو وصف خصائص السوائل وحركتها في الحالات المثالية، لكن افتقر ذلك إلى الوصف الكمّي الدقيق، فكان من الصعب استخدام تلك المبادئ استخدامًا هندسيًّا. وفي منتصف القرن الثامن عشر، أدخل (دي بورني- Riche de Prony) علم التفاضل والتكامل والطريقة العلمية إلى مدارس الهندسة، مما أدَّى إلى ظهور نابغة من تلاميذه استطاعت تحليل الأنظمة المُعقَّدة ووصف الموائع في حالات مختلفة لم يتسنَّ للمعادلات في الحقبة التي تسبقها أن تصفها، فاتحةً بذلك المجال لتقديم المبادئ الأساسية إلى عالَم المخترعات الهندسية من طائرات، وسفن عملاقة وغوّاصات حربية.
الموائع من المنظور الميكروسكوبي
تحدثنا أن المائع سائلٌ أو غاز، وأن الصلب ليس بمائعٍ، فالفرق بين الحالات الثلاث للمادة هو الطريقة التي تترابط بها الجزيئات معًا؛ ففي المواد الصلبة تكون المسافات بين الجزيئات صغيرة جدًّا والقوى بين الجزيئية شديدة مما يحفظ للمادة الصلبة شكلها. أما في السوائل فالمسافة بين الجزيئات أكبر بقليل ولكنها لا تزال صغيرة جدًّا مقارنة بالغازات. مقارنة بجزيئات المواد الصلبة، فجزيئات السائل تستطيع الحركة سواء كانت الحركة انتقالية أو اهتزازية مما يعطيها القدرة على تغيُّر شكلها حسب المحيط. وبالنسبة للغازات، فالمسافة بين جزيئاتها كبيرة نسبيًّا، والقوى بين الجزيئية ضعيفة مما يجعل حركة الغاز فوضوية بعض الشيء. وبخلاف السوائل والمواد الصلبة، فالغازات لا شكل ولا ضغط ثابت لها.
الضغط من المنظور الميكروسكوبي
يمكن قياس ضغط الغاز داخل أنبوبٍ باستخدام محبس ضغط ليعطينا قراءة دقيقة له، لكن الضغط له معنى محدد جدًّا في المقياس الميكروسكوبي؛ فهو عبارة عن جزء من عزم حركة جزيئات الغاز انتقل إلى جدار الأنبوب، عندما نجمع هذا التأثير لملايين المليارات من الجزيئات يظهر لنا الضغط الذي نقيسه ونشعر به.
الكثافة من المنظور الميكروسكوبي
الكثافة هي الكتلة مقسومة على الحجم الذي تشغله تلك الكتلة في الفراغ. والجزيئات في المائع ليست ثابتة أو في حركة اهتزازية حول موضع ثابت وإنما حركتها انتقالية دائمة تعتمد على حرارة السائل. إذًا كيف يمكننا معرفة الكثافة إن لم نستطع معرفة الكتلة الموجودة في حيّز معيّن وسط السائل؟
إذا قسَّمنا الوزن الكلِّي للسائل الموجود في حيّز ما، سيعطينا متوسط كثافة السائل المحصور في هذا الحيّز، هَب أننا في صدد التعامل مع مائع هو مزيج من سوائل عدة، فعند قياس كثافته في نقطة ما في القاع فإن قيمتها تختلف إذا قيست لنقطة أخرى على السطح، وبالتالي إذا قيس متوسط الكثافة وهو في حيز ما لن يعطينا القياس الدقيق له، والكثافة المتوسطة في هذه الحالة ستكون بعيدة كل البعد عن الكثافة الفعلية في نقطة معينة داخل الحيّز الذي قيس كثافته المتوسطة وهو ما يحدث في بعض الموائع غير منتظمة الكثافة. والحل لهذه المشكلة هو أن تقاس الكثافة لنقطة معينة ذات حجم صغير في المائع، ولكن ما الحدّ المطلوب لتصغير الحيز الذي نقيس داخله الكثافة المتوسطة؟ حسنًا، لا بدَّ من وجود حاجز نتوقف عنده، فلو افترضنا أن الحيّز في حجمٍ أكبر من حجم جزيءٍ واحد بقليل، في هذه الحالة ستكون الكثافة المتوسطة تتراوح بين الصفر وبين قيمة موجبة بشكل لا يمكننا التنبؤ بها مما يجعلها طريقة غير مناسبة، ولكن يمكننا أخذ الكثافة المتوسطة لأحجام لا تقل عن القيمة الحرجة لها، التي إن تخطيناها إلى ما هو أقل، فإن قياسنا للكثافة سيشوبه عدم الدقة، وهذا الحجم هو 10-9 مللم3.
حالة عدم الانزلاق
في معظم من الأحيان تكون حركة المائع ملاصقة لسطح صلب، مثل ملاصقة ماء النهر لصخوره، وملاصقة الماء في الأنبوب لجدرانه. أثبتت التجارب التي أجريت على مدى طويل أن جزيئات المائع الملاصقة للجدران الصلبة تكون في حالة سكون تام، وهذا ما يعرف بحالة عدم الانزلاق. ولأن تلك الطبقة الرقيقة التي في تماس مع جدران الأنبوب -مثلًا- في حالة سكون وهناك قوة احتكاك ناتجة عن لزوجة المائع بين طبقاته؛ فإن سرعة المائع تجدها أقل حول الجدران، وتلك الطبقات القريبة من الجدار تعرف بـ(الطبقة الحدية- Boundary layer).
أنواع الجريان
في الفقرات السابقة من المقال تناولنا الموائع في حالتي السكون والحركة على حد سواء، أما في هذا الجزء سنضع جُلّ تركيزنا على جريان الموائع. تدفق الموائع له خصائص عديدة فقد قسّم العلماء أنواع الجريان إلى أقسام عدة كلٍّ حسب خصائصه، وهذا سرد لأهم الأنواع، للعلم بها لا لحصرها:
الجريان الصفائحي والجريان المضطرب
عند ملاحظة جريان الموائع ذات اللزوجة العالية والسرعات المنخفضة فإننا نلاحظ تدفقه المنتظم. وسبب انتظامه أن لزوجته تجعل جزيئاته تتحرك في شكل طبقات متلاصقة، لها سرعات متقاربة جدًّا فيما يعرف بـ(الجريان الصفائحي۔ Laminar flow). أما الجريان المضطرب فنجده أكثر في الموائع ذات اللزوجة المنخفضة والسرعات العالية، وجزيئاته في حركة مضطربة ولها سرعات مختلفة، والأمر ليس بالنظري البعيد عن متناول التجربة اليومية، فكل ما علينا فعله هو أن نفتح صنبور المياه بشكل بسيط بحيث يعطي كمًّا قليلًا من المياه المتصلة، فهذا جريان صفائحي، وأما عند فتحه لأقصاه، فسنرى بأعيننا كيف تحوّل تدفق الماء إلى شكل مضطرب، وأن قطرات المياه تسير بسرعات مختلفة وتتناثر يمنة ويسرة.
الجريان المنتظم والجريان غير المنتظم
يُستخدم لفظ (الجريان المنتظم۔ Steady flow) في المجال الهندسي أكثر منه في العلوم، وهو يشير إلى الجريان عندما تكون خاصية معينة ۔سرعة الجريان أو الحرارة۔ ثابتة عند نقطة معينة مع مرور الزمن. والجريان غير المنتظم هو العكس تمامًا، ولكن هناك نوع من الجريان غير المنتظم يُسمّى الجريان الدوري ويتكون من أنماط دورية. ولنوضح مثال على ذلك، فعندما نفتح الصنبور بشكل بسيط جدًّا فإن المياه المتدفقة منه تخرج في شكل قطرات تكرر حركة القطرات السابقة لها، فذلك مثال على الجريان غير المنتظم الدوري، لكن إذا فتحنا الصنبور أكثر قليلًا فسيتحول الماء المندفق إلى سيل متصل منتظم ليعطينا مثالًا على الجريان المنتظم.
ميكانيكا الموائع من حولنا
لعل تلك اللمحة السريعة تعطيك نبذة عن مدى أهمية ميكانيكا الموائع في حياتنا اليومية. ولتكن البداية من القلب الذي دونه لما تسنَّ لك أن تقرأ هذا المقال، فهو وبشكل مستمر من يوم ولادتك إلى مماتك يضخ الدم ۔وهو مائع۔ إلى كل أجزاء جسمك من خلال الشرايين والأوردة. وعليه، فإن القلب الاصطناعي أو جهاز ضخِّ الدم لا بدَّ أن يُطبِّقَ قوانين ميكانيكا الموائع بدقة وحذر، ومن قلبك الذي في صدرك إلى بيتك الذي تعيش فيه، فكل أنابيب توصيل مياه الشرب والغاز الطبيعي وأنابيب الصرف الصحي تطبِّق قوانين ميكانيكا الموائع بدقة بالغة، وكذلك أنظمة التبريد والتدفئة المركزية. وعلى نطاق أوسع، فإن ميكانيكا الموائع أساسية لتحليل الهيكل الخارجي للطائرات، والسيارات، والصواريخ، والسفن، والغواصات، وتوربينات الماء والهواء، وكل شيء صُمِّمَ ليجري في الماء أو الهواء.
دع الورقة والقلم.. ميكانيكا الموائع الحسابية
هي ليست دعوة عامة للتخلي عن الورقة والقلم أو الطرق اليدوية لحل المعادلات، فبالطبع لكل وسيلة أهميتها، ولكنها دعوة للنظر إلى التقنيات الحديثة لفتح آفاق لم تكتب لها أن تفتح قبل تلك التقنيات. كما سنرى في المقالات القادمة من هذه السلسلة، هناك بعض المعادلات التي يستحيل حلها إلا بالطرق الرقمية، وهو ما يجعل البرامج أفضل الوسائل لحل تلك المعادلات. ويتيح مجال (ديناميكا الموائع الحسابية۔ Computational Fluid Dynamics) لدارسيه التعامل مع برامج عدة يمكنها تصور حالة نظام معين من الموائع بدقة شديدة، موضحةً بذلك السرعات المختلفة لأجزاء المائع، والفروق في الضغط والحرارة. والمقطع التالي يوضح لنا كيف يمكن لأحد البرامج التي تعتمد على ميكانيكا الموائع الحسابية تصوير نظام من أنابيب مختلفة وخزانات، لندرسه دون الحاجة إلى عمل نسخة طبق الأصل منه.