لقد كانت الفلسفة اليونانية في مرحلة ما قبل سقراط تصبُّ اهتمامها على تفسير الحياة والظواهر الطبيعية قبل أن يأتي سقراط ويُنزِل الفلسفة من السماء إلى الأرض، ويُحوِّل اهتمام الفلسفة من الاهتمام بالطبيعة إلى الاهتمام بالإنسان نفسه. وبالطبع كان البحث عن أصل الحياة وتفسير مصدرها أحد الاهتمامات الأساسية لتلك المرحلة.
انقسمت مراحل الفلسفة الأولى في تفسير أصل الوجود إلى ثلاث وجهات متعاصرة: الوجهة الطبيعية، والوجهة الرياضية، والوجهة الميتافيزيقية. الوجهة الأولى أخذ بها (طاليس – Thales of Miletus) و(أنكسيمندريس – Anaximander) و(أنكسيمانس – Anaximenes) و(هرقليطس – Heraclitus)، نشأ الثلاثة الأوائل في ملطية، والرابع في أفسوس، وكانتا في مقدمة المدن الأيونية عمرانًا وثقافة، ثم انتقلت الحياة العقلية إلى إيطاليا الجنوبية وصقلية؛ حيث نبغ فيثاغورس، وهو صاحب الوجهة الرياضية، وظهرت المدرسة الإيلية القائلة بالوجود الثابت، ثم نشأ فلاسفة حاولوا التوفيق بين الوجهات الثلاث هم: (أمبادوقليس – Empedocles) و(ديموقريطس – Democritus) و(أنكساغورس – Anaxagoras).
يعدُّ أمبادوقليس من أبرز الفلاسفة الذين اعتنوا بمعالجة مسألة الطبيعة، وخالف المدرسة في القول بأن أصل الأشياء كثرة حقيقية، وأنه لا يوجد تحول من مادة إلى أخرى، وإنما الأشياء تأليفات مختلفة من أصول ثابتة، ويفترقون في تصور هذه الأصول وطرائق انضمامها وانفصالها، وفيما يلي نستعرض أهم نظريات أمبادوقليس عن نشأة المادة والكائنات الحية وكيف أثّر ذلك في الرؤية العلمية لفهم ومعرفة أصل الحياة(1).
أمبادوقليس (492 ق.م ـــ 432 ق.م) (2)
يعد أمبادوقليس من أهم الفلاسفة المؤثرين في تاريخ البشرية؛ وذلك لأنه يُنسب إليه نظرية «العناصر الأربعة» الشهيرة المفسِّرة لأصل المادة وهي: (التراب، والهواء، والنار، والماء)، فهي من أوائل نظريات الفيزياء في التاريخ المعروف وظلّت مهيمنة في الأوساط العلمية لمدة تقرب من ألفي عامٍ بعد موت أمبادوقليس.
تتكون أصل رؤية أمبادوقليس للكون بفرضية وجود أربعة «عناصر للمادة» أو «الجذور» كما يطلق عليها بتشبيهها بالنباتات في قدرتها على الخلق والإيجاد، فهذه العناصر لديها القدرة على خلق كل شيء -بما في ذلك الكائنات الحية- بامتزاجها مع بعضها بعضًا بنسَب مختلفة، في حين يحتفظ كل عنصر بخصائصه عن الامتزاج مع العناصر الأخرى في صورة أبدية غير قابلة للتغير أو التحول.
على الرغم من ذلك تعد نظرية أمبادوقليس للعناصر الأربعة تَعارُض مع نظريات (بارمينيدس – Parmenides) التي تقول بأن الكون واحد وغير متغير حيث إنه لا يمكن لشيء أن يأتي من لا شيء، ولا يمكن فناء شيء إلى لا شيء، تُعرف تلك النظرية بالوحدوية الإيلية.
وفي السياق نفسه كان ردّ أمبادوقليس استخدام أفكار بارمينيدس ضد نفسها، لا يمكن لشيء أن يأتي من لا شيء ولا يمكن فناء شيء إلى لا شيء، وبناءً على ذلك يجب التسليم بوجود شيء ثابت، وأبدي، ولا يطرأ عليه التغيير كأساس لهذا التغير المستمر، والنمو، والفساد الذي نراه في الكون من حولنا.
وفيما بعد، نَسَبَ أمبادوقليس صفات الثبات وعدم التغير التي تحدّث عنها بارمينيدس لتلك الصفات الأربع، وهي: (التراب، والهواء، والنار، والماء)، مبدلًا بذلك عالم بارمينيدس الثابت بعالم أكثر ديناميكية وتعددية.
البيولوجيا
يدل اختيار أمبادوقليس لتشبيه العناصر الأربع بجذور النباتات على اهتمامه بالأحياء، فكلمة «العناصر» – (stoicheia) باللغة اليونانية، وتعني أيضًا (elementa) باللغة اللاتينية – تطلق أيضًا على الحروف الأبجدية، وفي ذلك تشبيه باستخدام العناصر بنسَب مختلفة لتشكيل أنواع مختلفة من المادة تمامًا مثل استخدام عدد محدود من الحروف الأبجدية التي نستطيع من خلالها أن نكوِّن كلمات مختلفة بمعانٍ ودلالات متباينة. ولمزيدٍ من التوضيح، شَبَّهَ أمبادوقليس قدرة «الجذور» على الخلق بأنها مثل الرسام يستخدم عددًا محدودًا من الألوان لخلق العديد من الألوان الجديدة كما جاء في إحدى كتاباته:
«كالرسام، الذي يمتلك القدرة الفنية لتزيين المعابد عن طريق خلط ومزج العديد من الألوان مع بعضها بعضًا -بنسب متفاوتة- فينتج عن ذلك رسومات تمثل جميع الأشكال، من رجل، وامرأة، وحيوانات، وطيور، وبحار، وأسماك، وحتى الآلهة، فلا تخطئ بالاعتقاد بأنه يوجد مصدر آخر للمخلوقات التي لا حصر لها والموجودة أمام عينيك، ولكن تيقن من أن التشبيه السابق هو كشف إلهي».
أصل الأنواع
قدّم أمبادوقليس أوائل المحاولات العقلانية لتقديم تفسير لأصل ونشأة الأنواع. في ذلك الوقت قدّمت الأساطير الإغريقية تفسيرًا لنشأة الأنواع، وهو أن نوع معين من الحيوانات هو في أصله تحول من الانسان، فمنشأ الأبطال -محرري المدن- كان يُفسَّر على أنهم ظهروا من الأرض تمامًا مثل النباتات، وهذا التفسير نجده أيضًا في النظريات العلمية القديمة.
فطبقًا لكتاباته، نشأت أطراف وأعضاء الكائنات الحية من الأرض مباشرة، في البداية كانت مفرقة ومبعثرة، ثم تجمعت بقوة طاقة الحب لتشكل بعد ذلك الإنسان والحيوان كما نعرفه، فيما بعد شُرحت تلك الصورة الغريبة من قِبل أرسطو في كتابه «الفيزياء» ثم من بعده (سيبليسيس) في شرحه لكتاب أرسطو «الفيزياء» على أن تلك النظرية لأصل الأنواع توضح أن شكلًا ما من الانتقاء الطبيعي يعمل في الخلفية. فالكائنات التي تتجمع أعضاؤها تجمعًا خاطئًا تموت -إما على الفور وإما بسبب عدم قدرتها على التناسل- وفيما بعد تبقى فقط الكائنات التي تجمعت أعضاؤها وأطرافها تجمعًا متجانسًا وسليمًا، وتلك الكائنات هي التي تكون لديها القدرة على الاستمرار في الحياة وذلك هو تفسير لماذا نستطيع أن نرى تلك الكائنات اليوم أمام أعيننا.
وبذلك تكون تلك النظرية سابقة لنظرية داريون في الانتقاء الطبيعي شارحةً نشأة وترتيب الأنواع، ولكنها تختلف عن نظرية داروين في أنه لا يوجد تطور تدريجي من نوع واحد إلى آخر، وأن جميع كائنات الطبيعة وُجِدت مرة واحدة في البداية ثم أخذت في الانقراض حتى وصلت إلى الكائنات التي نراها اليوم.
لقراءة جميع مقالات سلسلة #الأصل:
مغامرة الفلسفة الأولى.. بدايات التفلسف حول ظواهر الحياة وأصلها
فرضيات نشأة الحياة من وجهة نظر علم الأحياء.. البيضة أولًا أم الدجاجة؟
فرضيات نشأة الحياة من وجهة نظر علم الأحياء.. وماذا بعد؟!