إلى الذين لا يعرفون شيئًا عن عالِم الفيزياء النظرية الإنجليزي بول ديراك؛ كان يُقارن -غالبًا- بأحد آباء الفيزياء السير إسحاق نيوتن. كانا كلاهما رياضيّين عبقريّين، وغَير اجتماعيّين، وحقّقا أعظم اختراعاتهما في العشرينيات من عمرهما، كما شغل كلاهما كرسي لوكاسيان للرياضيات في جامعة كامبريدج.
يعتبر البعض ديراك عالمًا أهم لأسباب عديدة؛ فعندما انخرط نيوتن كثيرًا في العلوم الزائفة مثل الخيمياء، حتى أنه حاول التوفيق بين العلم والإيمان من خلال كتاباته، ظلَّ بول ديراك لا-أَدريًّا صريحًا (Agnostic)، مخلصًا لطريقه، وقدَّم العديد من المساهمات المهمَّة في (نظرية كل شيء -The Theory of Everything).
يَعتبر البعض نيوتن متعجرفًا، مملوءًا بنفسه، وغالبًا ما استخدم سلطته لرفض آراء الآخرين، بينما كان ديراك شابًّا نحيفًا وديعًا خجولًا، يعاني من الآلام إذا أُجبر على أي نوع من المُحادثات الصغيرة، وهو من صاغ مصطلح «فيرميون» من اسم الفيزيائي الإيطالي إنريكو فيرمي، على الرغم من مساهمته في المُعادلة التي تصف سلوك فيرميون.
كانت هذه معلومات أساسية مختصرة عن بول ديراك. لسوء الحظ، لم يحظَ بشعبية كافية، ولا يكاد أحد يعرف شيئًا عن هويته أو ما حقَّقه في حياته العلمية، رغم أن عمله ذو أهمية رئيسية في مجال الإلكترونيات، وخاصة كيفية تدفق الإلكترونات في الترانزستور، وهي الأجهزة التي تشكل اللبِنات الأساسية لأي كمبيوتر في العصر الحديث.
لقد ألهم اكتشافه الأكبر «التنبؤ بمضادات الجُسيمات» العديد من كُتَّاب الخيال العلمي، فخلقوا عالَم مُناظر يصطدم بالعالم الحقيقي مؤديًّا إلى الكثير من الأحداث الكارثية في حياة شخصيات قصصهم، وتعتمد هذه الفكرة على عمل ديراك الذي يوضِّح أنه عندما تصطدم المادة بالمادة المضادة، فإنهما يقضيان على بعضهما البعض.
في أوائل القرن العشرين، كان ديراك، الذي أكمل لتوِّه درجة الهندسة، عاطلاً عن العمل. فاختار الرياضيات كمهنة وكان قرارًا صائبًا؛ فحين إذ حدثت ثورة كمومية كبيرة، وكان ديراك -الذي ظل مجرد مُراقبًا لها- حريصًا على أن يصبح جزءًا منها.
كان يتحدث الجميع -في ذلك الوقت- عن عالِم فيزياء نمساوي شاب يُدعى إروين شرودنغر، وقد صاغ للتوِّ معادلة ميكانيكا الموجة التي تشرح سلوك الإلكترون داخل الذرة. أوضحت معادلة الموجة -كما سُمِّيت- احتمالية العثور على الإلكترون في أي نقطة مُعيّنة داخل الذرة.
أدرك ديراك أن معادلة شرودنجر الموجية لم تكن متوافقة مع نظرية النسبية الخاصَّة. بعبارة أخرى، على الرغم من أن المعادلة كانت كافية لوصف الحركة الإلكترونية وهي بسرعة منخفضة، إلا أنها لم تكن قادرة على فعل الشيء نفسه بسرعات تقترب من سرعة الضوء، فأخذ ديراك هذا التحدي على عاتقه لإيجاد حلٍّ له.
على عكس الفيزيائيين الآخرين، الذين أصرّوا أن الاكتشافات في مجال الفيزياء تعتمد بشدة على البيانات التجريبية -وهم محقون-، اعتمد ديراك على الاتِّساق الرياضي؛ بالنسبة له، إذا كانت المعادلة التي وجدها لها جمال رياضي، فهو يسير في الطريق الصحيح، وهذا يُظهِر أن بول ديراك كان عالِم رياضيات أكثر من كونه فيزيائيًّا مخلصًا.
بعد سنوات عديدة، في عام 1928، عدَّل ديراك معادلة شرودنجر لتتوافق مع النسبية الخاصَّة لأينشتاين، كما عرَّفت معادلتُه الرائدة مفاهيمَ الدوران والعزم المغناطيسي للإلكترون. أثناء تطوير معادلته، أدرك أن علاقة أينشتاين الشهيرة بين الطاقة والكتلة (E = mc²) كانت صحيحة جزئيًّا، وزعم أن الصيغة الصحيحة يجب أن تكون (E = ±mc²)؛ حيث يؤخذ في الاعتبار علامة الطرح عند حساب الجذر التربيعي لـ(E² = m²c^4)، وكان ذلك تصحيحًا دقيقًا بالفعل.
ومن البديهيّ في الفيزياء أن جُسيمات المادة تميل دائمًا إلى التواجد في أقل حالة للطاقة، مما يوضح أن الإشارة السالبة في (E = mc²) تعني أن جميع الإلكترونات تنخفض لا نهائيًّا إلى طاقة سالبة كبيرة، فعندما يكون الإلكترون في حالة طاقة موجبة -مرتبط أو حرّ- يكون قادرًا على إصدار فوتون والانتقال إلى حالة سالبة للطاقة، وقد تستمر هذه العملية إلى الأبد بإعطاء كمية لا حصر لها من الضوء!
من الواضح أن هذا لم يكن الحال في الكون الفعلي المستقر، حيث لم تتصرف الإلكترونات الحقيقية بهذه الطريقة، ولذلك فكَّر ديراك في حل المشكلة، واقترح نموذجًا نظريًّا يُسمّى (بحر ديراك -Dirac Sea)، تخيَّل فيه أن جميع حالات الطاقة السالبة مشغولة بالفعل، مما يعني أن الإلكترون في الحالة الإيجابية لا يمكنه أن ينخفض إلى طاقة سالبة، فوفقًا لـ(مبدأ استبعاد باولي -Pauli’s exclusion principle)، لا يمكن أن يتشارك إلكترونان في نفس الحالة للطاقة.
إذا أُعطي جُسيم من هذا البحر ذي الطاقة السالبة طاقة كافية، فمن الممكن أن يرتفع إلى حالة إيجابية للطاقة، ويُنشئ «ثقبًا» فيه، حيث يكون لهذا الثقب نفس كتلة الإلكترون الأصلي ولكن يتصرَّف مثل جُسيم موجب الشحنة.
كتب ديراك في عام 1931 -بعد اقتراح من (أوبنهايمر-Oppenheimer)- أن الثقبَ مضاد للإلكترون، وتؤدي إعادة الدمج مع الإلكترون إلى القضاء على كليهما، لأن عندما يتلامس الإلكترون مع الثقب يملأ الحفرة تلقائيًّا، ثمَّ يطلِق الطاقة الزائدة التي دخلت.
في عام 1932، أثناء فحص تركيب الأشعة الكونية، وهي جُسيمات عالية الطاقة تتحرك عبر الفضاء بسرعة الضوء تقريبًا، اكتشف الفيزيائي الأمريكي (كارل أندرسون -Carl Anderson) البوزيترون، لاحظ جُسيمًا معينًا من الشُّعاع يتصرف خارج المألوف، اقترح المسار أنه موجب الشحنة ولكن في نفس الوقت 1/1.836 من كتلة البروتون، مساويًا بذلك كتلة الإلكترون.
خلال محاضرة «جائزة نوبل» التي ألقاها عام 1933، اقترح ديراك أن مضادات الجُسيمات يجب أساسيًّا أن تكون تناظُرًا للطبيعة، وفسَّر معادلة ديراك بأن لكل جُسيم يوجد جُسيم مضاد يطابق تمامًا كتلته وله شحنة معاكسة. في عام 1955، اكتُشف البروتون المضاد من قبل علماء الفيزياء بجامعة كاليفورنيا في بيركلي.
يوضح نجاح معادلة ديراك أن النتيجة الرياضية يمكن أن تُظهر نفسها في العالم الحقيقي. قال بول ديراك ذات مرة:
«إذا كنت متقبِّلًا ومتواضعًا، ستقودك الرياضيات آخذةً بيدك.»
هذا صحيح إلى حدٍّ كبير، فقد كان إنجازه هامًّا للفيزياء على قدم المساواة مع أعمال نيوتن وماكسويل وآينشتاين من قبله. كان ديراك بلا شك عبقريًّا.
One Response
شخصية علمية فذة قام باكتشافات كبيرة وتعرض للاجسام المضاد عن طريق معادلة اينشتاين الشهيرة مقال ممتاز اعجبني كثيرا