ببحثٍ سريعٍ على الإنترنت عن تاريخ تأسيس الأمم المتحدة، سيظهر تاريخ 24 أكتوبر 1945 كتاريخ قيام المنظمة -نظريًا فهذا صحيح- ولكن في الواقع إن قصة نشأة هذا الكيان العالمي تمتد إلى أبعد من ذلك التاريخ بكثير. الحقيقة إن الأمم المتحدة لم تكن سوى النسخة الأخيرة لتجربة سابقة كانت هي بدورها مجرد تحويل فكرة أوروبية الجوهر إلى مؤسسة دولية ذات نظام وتقاليد، وبين كل هذا كانت دماء الملايين من البشر هي العامل المشترك في الانتقال من تجربة إلى أخرى في محاولة لتجنب أخطاء الماضي. إنها قصة الحروب والمأساة، وقصة الحالمين المثاليين، وقصة إمبراطوريات وجيوش وطغاة وإرثها في الأرض.
الحرب العالمية الأولى وعصبة الأمم
حصدت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) حياة ما يزيد عن 20 مليون إنسانٍ، فضلًا عن ملايين الجرحى واللاجئين. حتى الدول المنتصرة خرجت من الحرب بخسائر قاسية جعلت النصر يبدو فارغًا من مضمونه. كانت تلك هي المرة الأولى التي يشهد فيها العالم صراعًا على هذا القدر من الوحشية وبدا واضحًا ضرورة العمل على تجنب تكرار مثل هذه المأساة مرة ثانية. جاءت فكرة إنشاء منظمة دولية تجمع في عضويتها معظم أول كل دول العالم المستقلة تطويرًا لفكرة قديمة مستمدة من الطريقة التي كانت تدُير بها الدول الأوروبية علاقاتها خلال القرنين الثامن والتاسع عشر وهى فكرة «الأمن الجماعي»، نشأت تلك الفكرة لخشية الدول الأوروبية خلال القرون الماضية من أن تستأثر دولة واحدة بالنفوذ والسلطة في القارة من خلال غزو واحتلال جيرانها الأضعف، ومن هنا جاء المبدأ إنه إذا حاولت دولة ما القيام بأمر كهذا فإن باقي القوى الأوروبية ستجتمع وتتحالف ضد هذه الدولة لتمنعها من أن تصبح قوة عظمى تهدد توازن القوى في القارة. كانت الفكرة هي توسيع وتطوير ذلك المفهوم الأوروبي ليشمل دول أكثر ووضعه في إطارٍ رسميٍ من خلال مؤسسة دولية واحدة قادرة على فرض السلام ومنع الحروب(1).
كان أبرز الداعيين لهذه الفكرة الرئيس الأمريكي (وودرو ويلسون -Woodrow Wilson)، كان ويلسون على عكس أغلب سياسيي زمنه رجلًا متدينًا وشديد المثالية ويؤمن بإمكان خلق عالمٍ خاليٍ من الحروب. قرر ويلسون استغلال مركز الولايات المتحدة الجديد كقوة عالمية وعرض رؤيته تلك أثناء مفاوضات السلام التي أعقبت نهاية الحرب، اثمرت تلك الجهود في النهاية عن موافقة الدول المنتصرة في الحرب على تلك الفكرة وفي العاشر من يناير 1920 وُلدت منظمة «عُصبة الأمم» بهدف منع تكرار مأساة الحرب العالمية الأولى وخلق عالم يسوده السلام.
كانت السنوات الأولى لعمل «عصبة الأمم» ناجحة نسبيًا، وباتت تنعم لسنوات خمس متتالية بالطمأنينة والهدوء ، نتيجةً لتعاون الدول العظمى خلال هذه الفترة. غير أن ذلك لم يدم كثيرًا، فسرعان ما وضح للعالم ضعف العصبة وفشلها في مهمتها الأساسية وهي منع الحروب. فالعصبة التي كانت وليدة الإحساس بمرارة الحرب العالمية الأولى وقسوتها؛ لم تستطيع أن تحرم الحرب كوسيلة لحل المشكلات الدولية؛ على الرغم من أنها حاولت أن تحد من نطاق اللجوء إليها من خلال التحكيم الدولي ولكنها اجازت استخدام القوة كوسيلة لحل الخلافات إذا لم يفلح التحكيم. وكذلك فإن بعض الإجراءات التي أتت بها العصبة، كانت متأثرة برغبة الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى على إشباع شهوة الانتصار وإرضاء رغبة الانتقام، حيث بدأت الدول المنتصرة في استخدام العصبة في فرض غرامات ضخمة على الدول المهزومة في الحرب، خاصة ألمانيا، كما قامت بمنح امتيازات لنفسها مثل حق احتلال وحكم دول أخرى تحت مسمى الانتداب (كما حدث في حالة فلسطين)، في حين تجاهلت المنظمة الانتهاكات التي ترتكبها هذه الدول ضد حقوق الإنسان في مستعمراتها.
غير أن السبب الرئيسي لفشل «عصبة الأمم» يرجع إلى عدم وجود وسيلة فعلية لتنفيذ قراراتها التي أصبحت بسبب هذا في حكم التوصيات لا أكثر، كما أن العصبة التي كان من المفترض أن تكون منظمة عالمية أصبحت مجرد نادي أوروبي أخر بعد رفض الكونجرس الأمريكي الانضمام إليها، ثم جاء انسحاب دول مهمة كالاتحاد السوفييتي وألمانيا وإيطاليا واليابان، تلك الدول التي ستكون الأطراف في الصراع الأكثر تدميرًا في التاريخ البشري وهى الحرب العالمية الثانية، والتي جاء قيامها ليؤكد وفاة «عصبة الأمم» بعد فشلها في تحقيق مهمتها الأساسية(2).
الحرب العالمية الثانية والأمم المتحدة
استُعمِل مصطلح «الأمم المتحدة» للمرة الأولى عام 1941 وكان يُشير في هذا الوقت إلى دول الحلفاء (الولايات المتحدة، وبريطانيا، والإتحاد السوفييتي، وفرنسا) وغيرها من الدول المتحالفة معها. غير أن هذا المصطلح تغير معناه بعد مؤتمر موسكو في أكتوبر 1943 الذي أعلنت فيه دول الحلفاء عزمها على إنشاء منظمة دولية جديدة؛ غرضها كما يقرر الميثاق، حفظ السلم والأمن الدوليين دون المساس بسيادة الدول المشتركة فيه. وفى الفترة ما بين أواخر أغسطس إلى أوائل أكتوبر سنة 1944، اجتمعت تلك الدول الأربع في دومبرتن أوكس بالقرب من العاصمة الأمريكية واشنطن، لوضع أساس المنظمة الدولية الجديدة؛ وقد أسفر هذا المؤتمر عن صياغة الأهداف المراد تحقيقها من إنشاء هذه المنظمة، كما أسفر أيضًا عن إرساء الشكل شبه النهائي للمنظمة الجديدة. وبينما حل عام 1945 وبدا أن نهاية الحرب وهزيمة دول المحور قد أصبحت وشيكة؛ قرر قادة الحلفاء الدعوة إلى مؤتمر دولي في 25 أبريل سنة 1945 ينعقد في مدينة سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة الأمريكية؛ لكي يناقش ويعد ميثاق الأمم المتحدة، وفقًا للخطوط التي أرسوها في مؤتمر دومبرتون أوكس. وقد أنهى المؤتمر أعماله، في 26 يونيو 1945، بعد شهرين من الاجتماعات، انتهت خلالها الحرب في أوروبا باستسلام ألمانيا في 8 مايو 1945، والاتفاق على ميثاق يتكون من مائة وإحدى عشرة مادة، وعلى نظام أساسي لمحكمة العدل الدولية مكون من 70 مادة(3).
وقد تأسّست منظمة الأمم المتحدة رسميًا في 24 أكتوبر 1945، عندما دخلت معاهدتها التأسيسية حيز النفاذ. أُقِرَ ميثاق هيئة الأمم المتحدة في ظل ظروفٍ معينة؛ أهمها أن إعداد الميثاق قد تم والحرب العالمية الثانية مازالت مشتعلة؛ ولذلك سيطر على فكر مؤسسي الميثاق، الرغبة في أن تكون الهيئة المزمع إنشاؤها، قادرة على تجنب اشتعال الحرب مستقبلًا، أكثر من أي رغبة أخرى في تحقيق العدالة والمساواة. وكذلك عامل أخر مهم كان أن الدول المنتصرة، وبالتحديد إنجلترا وفرنسا، خرجت من الحرب وهي ترغب في الاحتفاظ بممتلكاتها الاستعمارية حول العالم، وهو ما يتعارض مع المبادئ المؤسسة للمنظمة، إلا إن الحرب كانت قد أضعفتها إلى حد يصعب معه تحقيق ذلك، لذا فقد سعت هذه الدول بعد ذلك إلى الاستمرار في ممارسة نفوذها على مستعمراتها بأشكال أخرى غير الاحتلال المباشر(4).
بشكل عام فإن مقاصد ومبادئ وتنظيم الأمم المتحدة محددة في الميثاق. ترد المبادئ الأساسية التي تقوم عليها أغراض ووظائف المنظمة في المادة 2 وتشمل ما يلي: تستند الأمم المتحدة إلى المساواة في السيادة بين أعضائها؛ ويجب تسوية النزاعات بالوسائل السلمية؛ وعلى الأعضاء الامتناع عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها بما يتعارض مع أغراض الأمم المتحدة؛ ويجب على كل عضوٍ مساعدة المنظمة في أي إجراءات تنفيذية تتخذها بموجب الميثاق؛ والدول التي ليست أعضاء في المنظمة مطالبة بالعمل وفقًا لهذه المبادئ بقدر ما هو ضروري للحفاظ على السلم والأمن الدوليين. تنص المادة 2 أيضًا على قاعدة أساسية طويلة الأمد مفادها أنه لا يجوز للمنظمة التدخل في الأمور الداخلية للدول الأعضاء. وتضم المنظمة ستة أجهزة رئيسية هي الجمعية العامة ومجلس الأمن والمجلس الاقتصادي والاجتماعي ومجلس الوصاية ومحكمة العدل الدولية والأمانة العامة للأمم المتحدة. وجميعها أنشئت في 1945 عندما أسست الأمم المتحدة(5).
هل نجحت الأمم المتحدة في مهمتِها؟
مرَّ على إنشاء منظمة «الأمم المتحدة» 75 عامًا، وأصبحت المنظمة التي بدأت بـ 51 دولة عام 1945 جلها من أوروبا، تضم في عضويتها 193 دولة أي تقريبًا كل دول العالم المستقلة، وخلال تلك المدة لم يشهد العالم أي حرب شاملة بين القوى الكبرى، ورغم ما يشهده العالم اليوم من اضطرابات وصراعات متفرقة فإننا طبقًا لكثير من الخبراء نعيش في أكثر لحظات التاريخ البشري سلاًما منذ أن بدأ البشر في تدوين تاريخهم. ورغم أن هناك أسبابًا عديدة ساهمت في ذلك؛ كالتطور التكنولوجي والانفتاح الثقافي والاقتصادي الذي سمح لشعوب ودول العالم بأن تصبح أكثر ارتباطًا وتفهمًا لبعضها؛ فإنه لا يمكن إنكار أنه فيما يتعلق بمهمتها الأساسية فإن المنظمة قد أدت الدور المطلوب منها.
بطبيعة الحال، هذا لا ينطبق في كل مكان أو في كل الأحوال؛ فلا يزال عدم الاستقرار والصراعات والحروب منتشرين حول العالم، وماتزال حقوق الإنسان تُنتهك، وماتزال الأقليات والفئات المستضعفة يُمارس ضدها التمييز، بل وماتزال بعض البلدان ترفض الوفاء بالاتفاقيات والالتزامات التي تفرضها الأمم المتحدة، ولكن المبادئ والأعراف وقواعد السلوك المتفق عليها في الأمم المتحدة والجهود المستمرة التي تبذلها المنظمة لتنفيذها وإنفاذها خلقت إطارًا يسمح لها بتخفيف التوترات تخفيفًا سلميًا وأكثر موثوقية من ذي قبل وذلك في محاولة واقعية للاعتراف بمشاكل العالم قبل السعي لحلها. وأخيرًا قد تكون أفضل وسيلة لتلخيص مهمة الأمم المتحدة هي فيما قاله (داغ همرشولد- Dag Hammarskjöld) الأمين العام الثاني للمنظمة: «إن الأمم المتحدة لم تُقام لكي تنقل البشرية إلى الجنة، ولكن لكي تنقذها من الجحيم. لسوء الحظ، في كثير من الأحيان، تُقاس الأمم المتحدة بمدى بعدنا عن العالم المثالي بدلًا من عدد الأرواح أو المجتمعات أو البلدان أو المناطق التي تُمكنّا من إنقاذها من لهيب الحرب. غالبًا ما ننسى ما تمثله الأمم المتحدة وماذا سيحدث إذا لم تكن هذه المبادئ موجودة أو اُستُبدِلَت بمبادئ مختلفة»(6).