مع بداية خروج أوروبا من العصور الوسطى وتغيُّر العقليّة الأوربيّة، لمسَ المُجتمع الأوروبي الفساد الدينيّ الذي يحيا فيه من قِبل كنيسة روما؛ حيث استطاعت الكنيسة من فرض سيطرتها على الشّعوب الأوروبية بأكملها، بل على الحُكّام أنفسهم.. فكيف كان الفساد الكَنَسي، وهل كان الإصلاح الديني ممكنًّا؟!
الفسادُ الكَنَسي
بَلَغَ الفَسَاد الدينيّ ذُروته في القرن السّادس عشر، حيث تمكّنت الكنيسة من فرض حياة الفقر والتقشّف على رعاياها بحجّة أنّ النّعيم هو نعيمُ الآخرة، في حين كان البابوات ورجال الدِّين منغمسين أشدّ الانغماس في حياةِ التّرف والنّعيم. كما جعلت البابويّة حقّ قراءةِ وتفسير الكتابِ المُقدّس للبابا وَحده! وكان على الرعيّة اتّباع التّعاليم دون مناقشة. كما كان في يد البابا أن يطرد من يشاء من رحمة الله فيما عرف بـ(قرار الحِرمان) ويغفر لمَن يشاء بـ (صكّ الغُفران) هو الإعفاء من العقاب الدينويّ على الخطايا التي يقوم بها الشخص.[1]
عواملُ تأجّج حركات الإصلاح الديني
اشتدَّ فساد الكنيسةٍ وازداد من تآمر واغتيالات وحروب في سبيل مصالحِ سياسيّة. مما أدّى إلى ظهور حركات الإصلاح الديني. وساعد على ذلك، تغيّر العقليّة الأوروبية التي ترفض أن تجعل من البابا روح الله في الأرض وتجعل من رجال الدين يد الرّحمة الربانيّة. ورفض الرّعايا أن يكون استمداد أصول المسيحيّة من البابا وليس الكتاب المقدّس. كما رفضوا أن يكون للكنيسة تلك الثّروة الطّائلة التي تحصل عليها من فرض الضّرائب وجمع الصّداقات والتّبرعات التي أثقلت كاهل الرعيّة![2]
ظهور حركات الإصلاح الديني
أدّت تلك الظّروف السّابقة إلى ظهور الحركات الاصلاحيّة الدينيّة، فقد ظهرت الحركات الإصلاحية أوّلًا من داخل الكنيسة نفسها، وتعتمد أن تقوم الكنيسة بإزالة مفاسدها عن طريق رجالها وإصلاح نفسها بنفسها. ومّثل هذا الاتجاه “يوحنا روخلين” حيث نقد الخرافات والبدع التي أحاط بها رجال الدّين أنفسهم وكتَبَ عن المفاسد والرّزائل المُتَّبعة. ولم يكن يريد الانفصال عن الكنيسة بل كان محبًا لها في إصلاح حالها. [2]
ولما لم يؤتِ هذا الاتجاه ثماره، ولم تستجب الكنيسة لرغبات المصلحين، بدأت الدّعوات الإصلاحية تأتي من خارجها، ولم تقتصر هذه الدعوات على إصلاح الكنيسة فحسب، بل وإصلاح العقيدة نفسها. وأشهر من مثّل هذا الاتجاه “مارتن لوثر”.
مارتن لوثر، والدّعوة اللّوثرية
هو ألماني الجنسيّة، ولد في 1483م، اتجه إلى سلك الرهبنة وعَكَف على الصَلاة والزُّهد، ثمّ ترك الدّير ودَرَّس الفلسفة في جامعة “وتنبرج” ثم تركها ودّرس اللّاهوت. وبزيارته لروما لمس مفاسد الكنيسة الكاثوليكيّة، لتبدأ أولى دعواته الإصلاحية.
بدأ “لوثر” خطواته الإصلاحية بالاحتجاج على صكوك الغفران. حيث استغلّ رجال الدّين تلك الصّكوك لصالح بعض البابوات والأمراء مقابل مبالغٍ من المال، ولم تلبث أن تحوّل صكّ الغفران من عمليّة دينيّة إلى عمليّة تجاريّة. وفي نوفمبر 1517م قدّم “لوثر” احتجاجه إلى كنيسة وتنبرج، أوضح فيه أنّ الغفران شأنٌ من شئون الله. وأوضح أيضًا أن ليس للبابا حق احتقار تفسير الكتاب المقدّس بل هو من حقّ كلِّ قادرٍ ودارس. [1]
ولم تمض الأشهر القليلة حتى ذاعت الدّعوة اللّوثرية في أرجاء ألمانيا ومعظم أجزاء أوروبا، وازداد أتباع لوثر وعرفوا باسم (البروتستانت – أي المُحتجّين) واضطّرت الكنيسة لعقد المجامع الكنسية ومناقشة لوثر في احتجاجاته، ولما فشل رجال الدين في القضاء عليه، أصدر البابا ضدّه قرار الحرمان 1520م أي بعد ثلاث سنوات من انطلاق دعوته.
أثر الإصلاح الديني على أوروبا
طالت الصراعات بين البابويّة والامبراطوريّة ورجال الدين لسنوات طويلة؛ لكن آل الأمر في نهايته إلى انتشار المذهب البروتستانيّ. كما ظهرت المذاهب الدينيّة الحديثة الآخرى كـ (الكلفنية) نسبة إلى جون كلفن 1509 – 1564م الذي انتشر مذهبه في فرنسا. أمّا بريطانيا فقد اتّخذت لنفسها المذهب الإنجليكانيّ وقد جمع فيه ما بين المعتقدات البروتستانيّة والكاثوليكيّة.
أدّى كل ذلك في النّهاية إلى زوال تأثير الكنيسة وتصدُّع نفوذ البابويّة وتقلّصت سلطتهم. وبالرّغم من أنّ الدّافع لهذه المذاهب كان دينيًا عقائديًّا إصلاحيًا إلّا أنّه كان لكلّ منها ما يبرّره من النّاحية الاقتصاديّة والسياسيّة، أيّ لم يكن دينيًا خالصًا.