بدخول فصل الشتاء وحلول البرد القارس في الأرجاء، يعمد الشخص إلى تحضير كوب من مشروبٍ دافئٍ ما، عادة مع إضافات ذات روائح منعشة ونفاذة مثل أوراق النعناع أو الريحان. وبينما يحتسي الشخص المشروب، قد يستشعر ضعف أو حتى زوال تلك الروائح المألوفة المحببة وإمكانية فقدان حاسة الشم. فهل يُعْقَل أن تكون تلك التجربة هي عَرَض آخر من أعراض الجائحة الأخيرة وإحدى تبعات الإصابة بفيروس كوفيد-19؟
يعاني ما يُقْدَر بنحو %80 من الأشخاص المصابين بـ COVID-19 من اضطرابات في الرائحة، أو تغيرات في الإحساس الكيميائي، أي القدرة على الشعور بالمهيجات الكيميائية مثل الفلفل الحار. ويُعَدْ فقدان الرائحة أمرًا شائعًا لدى الأشخاص المصابين بهذا المرض حتى أوصى بعض الباحثين باستخدامه كعَرض تشخيصيّ لأنه قد يكون علامة أكثر موثوقية من الحمى أو أي أعراضٍ أخرى.[1]
كيف يسلب فيروس كورونا الجديد ضحاياه من هذه الحواس؟
في وقتٍ مبكرٍ من الوباء، شعر الأطباء والباحثون بالقلق من أن فقدان حاسة الشم المرتبط بـ COVID قد يُشير إلى أن الفيروس يتوغل إلى الدماغ عبر الأنف، ويمكن أن يتسبب هذا في أضرارٍ جسيمة وطويلة الأمد. حيثُ إن الطريق المتوقع هو عبر الخلايا العصبية الشميّة التي تستشعر الروائح في الهواء وتنقل هذه الإشارات إلى الدماغ. يقول سانديب روبرت داتا، عالم الأعصاب في كلية الطب بجامعة هارفارد:
«أظهرت الدراسات أن هذا ليس هو الحال على الأرجح، يبدو أن الفيروس يهاجم -في الغالب- الخلايا الداعمةَ والخلايا الجذعيةَ وليس الخلايا العصبية بشكل مباشر.»
ويؤكد أن هذه الحقيقة لا تعني أن الخلايا العصبية لا يمكن أن تتأثر.[2]
ولا تحتوي الخلايا العصبية الشميّة على مُستقبلاتِ الإنزيم المحول للأنجيوتنسين 2 (ACE2)، التي تسمح بدخول الفيروس إلى الخلايا عبر الغشاء الخلوي. لكن الخلايا الداعمة، التي تدعم الخلايا العصبية الشميّة بطرق مهمة، مرصعة بتلك المستقبلات. تحافظ هذه الخلايا على التوازن الدقيق لأيونات الملح في المخاط الذي تعتمد عليه الخلايا العصبية لإرسال إشارات إلى الدماغ. فإذا حدث خلل ما في هذا التوازن قد يؤدي ذلك إلى توقف الإشارات العصبية وبالتالي تعطل حاسة الشم.
وفي دراسة على الدماغ والسلوك والمناعة، أصاب نيكولاس مونييه، عالم الأعصاب بجامعة باريس ساكلاي في فرنسا، أنوف الهامستر السوري الذهبي بفيروس SARS-CoV-2. بعد يومين فقط، وأصيب نحو النصف من الخلايا الداعمة للهامستر بالعدوى. لكن الخلايا العصبية الشميّة لم تُصَبْ بالعدوى حتى بعد أسبوعين. ومن اللافت للنظر أن الطبقة السطحية الشميّة انفصلت تمامًا، وتلك الأخيرة تشبه قشور الجلد بعد حروق الشمس كما وصفها مونييه. وعلى الرغم من عدم إصابة الخلايا العصبية الشمية، إلا أن أهدابها اختفت تمامًا. يقول:
«إذا أزلت الأهداب، فإنك تزيل المستقبلات الشمية والقدرة على اكتشاف الروائح.»
يمكن أن يُفَسِر اضطراب الطبقة السطحية الشمية فقدان حاسة الشم. ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح ما إذا كان الضرر ناتجًا عن الفيروس نفسه أو غزو الخلايا المناعية، وهو ما لاحظه مونييه بعد الإصابة. فالتقارير الواسعة الانتشار عن فقدان حاسة الشم المصاحب لكوفيد-19 ليست نموذجية للأمراض التي تسببها فيروسات أخرى.[4]
كيفية تسبب الفيروس في فقدان حاسة التذوق
وجد الباحثون بعض الأدلة حول فقدان حاسة الشم، لكنهم غير متأكدين من كيفية تسبب الفيروس في فقدان حاسة التذوق. لا تحتوي خلايا مستقبلاتِ التذوق، التي تكتشف المواد الكيميائية في اللعاب وترسل إشاراتٍ إلى الدماغ، على مستقبلات الإنزيم المحول للأنجيوتنسين 2، لذلك من المحتمل ألا تصاب تلك الخلايا بفيروس SARS-CoV-2. لكن الخلايا الداعمة الأخرى في اللسان تحمل المستقبلات، وربما تقدم بعض المؤشرات على سبب زوال الطعم. على الرغم من أن التذوق قد يبدو أنه يختفي مع فقدان حاسة الشم لأن الروائح هي عنصرٌ أساسي للنكهة، فإن العديد من الأشخاص المصابين بكوفيد-19 لا يمكنهم حتى اكتشاف المذاق الحلو أو المالح.
كما أن فقدان الإحساس الكيميائي -حرق الفلفل الحار أوالإحساس بالنعناع المنعش- يظل غير مُُفَسَر وغير مستكشف إلى حد كبير. هذا لأن تلك الأحاسيس لا تصنف -حسب آلياتها- ضمن حاسة التذوق، ذلك لأنه يتم رصدها بواسطة الأعصاب الحساسة للألم -بعضها يحتوي على مستقبلات الإنزيم المحول للأنجيوتنسين 2- في جميع أنحاء الجسم، بما في ذلك الفم.[1]
إلى أي مدى قد يؤثر علينا فقدان حاسة الشم؟
تأتي المزيد من الدلائل حول كيفية تعطيل الفيروس لحاسة الشم من الأشخاص الذين يتعافون من فقدان الشم. فيقول داتا:
«يفقد غالبية المرضى الرائحة مثل مفتاح الضوء الذي ينطفئ، ثم يستعيدونه بسرعة.» ويضيف «هناك جزء صغير من المرضى الذين يعانون من فقدان حاسة الشم باستمرارية أكثر ويتعافون على فترات زمنية أطول.»
وتقول كارول يان، أخصائية أمراض الأنف في جامعة كاليفورنيا، سان دييغو:
«فقدان الشم يُشَكِّل خطرًا حقيقيًا على الصحة، إنه في الواقع يزيد معدل الوفيات. إذا لم تستطع شم وتذوق الطعام فقد يؤذيك ذلك، فقد يؤدي إلى تناولك لطعام فاسد، أو عدم قدرتك على شم تسربٍ لغاز ما، ويمكن أن يسبب أيضًا انسحابًا اجتماعيًا أو نقصًا في التغذية.»
يمتد الاختلاف في الآليات الحسية الشميّة إلى عرضٍ آخر يسمى (باروسميا-Parosmia)، وهو اضطراب في حاسة الشم يؤدي إلى استقبال المخ للروائح العادية على أنها روائح كريهة، ويمثل ذلك الاضطراب علامة محتملة على الشفاء لدى الأشخاص المصابين بفقدان حاسة الشم طويل الأمد.
قد تحدث الباروسميا عندما تحاول الخلايا الجذعية التي نمت حديثًا في الأنف -وهي تتطور إلى خلايًا عصبيةٍ لاحقًا- تمديد أليافها الطويلة التي تسمى المحاور، من خلال ثقوب صغيرة في قاعدة الجمجمة، لكي تتصل بهيكل في الدماغ يسمى البصلة الشميّة. في بعض الأحيان، تتصل المحاور بالمكان الخطأ، مما يتسبب في اضطرابٍ في استقبال الروائح، لكن الاتصالات الخاطئة يمكن أن تصحِّح نفسها، مع إعطاء الوقت الكافي.
توصي يان بتروية الجيوب الأنفية باستخدام «بوديزونيد»، وهو الستيرويد الموضعي الذي ثبت أنه يسبب تعافٍ جزئي في دراسة أجرتها جامعة ستانفورد على الأشخاص الذين يعانون من فقدان حاسة الشم بعد الإنفلونزا لأكثر من ستة أشهر. العلاج الواعد الآخر الذي تتباحثه يان وآخرون هو البلازما الغنية بالصفائح الدموية، وهي مادة مضادة للالتهابات مستخلصَة من الدم استُخدمت لعلاج البعض من حالات تلف الأعصاب. ولكن مع أي علاج، كما يقول يان، فإن «النتائج ليست مذهلة، ليس الأمر وكأنك ستستيقظ وتقول: رائع، يمكنني الشم مرّة أخرى!».
«ولكن إذا استطعت شم رائحة الصابون مرة أخرى أو الاستمتاع بمذاق بعض الأطعمة، فهذا مكسب كبير».
خاتمة
هناك ملحوظة أخيرة مقلقة بشأن فقدان حاسة الشم، هي أنها أحد العوامل المرتبطة بأمراض التآكل العصبي. فبعد وباء الإنفلونزا عام 1919، لوحظت زيادة في انتشار مرض باركنسون. لكن يان تعتقد أن الخوف مبالغ فيه، «هناك بالتأكيد صلة بين فقدان الشم والأمراض العصبية، لكننا نعتقد أن فقدان حاسة الشم الناجم عن الفيروس [يعمل] بآلية مختلفة تمامًا»، كما تقول يان:
«الإصابة بفقدان حاسة الشم ما بعد الفيروس لا تعرضك لخطرٍ أكبر للإصابة بتلك الأمراض. هاتان ظاهرتان منفصلتان تمامًا.»[1]