هل الألوان عنصرٌ ثانويٌ في الفن؟

هل الألوان عنصرٌ ثانويٌ في الفن؟

اللون في حد ذاته يعبرُ عن شيءٍ لا يمكنُ الاستغناءُ عنه، بل الاستفادة منه. ذلك ما يجعلُه في غايةِ الجمال حقًا، وفي غايةِ الصحة كذلك.

-فينسيت فان جوخ[1]

إجابةً على سؤالِ العنوان، لا. الألوانُ عنصرٌ أساسيٌ في العملِ الفنيّ؛ نظرًا لما يضيفُه اللونُ الواحد من معانٍ، وأثر. قد يختلفُ البعضُ على اختياريّةِ الألوان أو إمكانية استخدامها في الرسمِ مثلًا أو وصفِها في الكتابة، لكن لا اختلافَ على القيمةِ الجماليّة الفعّالة التي تُضيفُها. فتؤثرُ الألوانُ على كلٍ من صانعِ الفن، ومُتلقيه؛ كما تساعدُهم على التعبيرِ عن مشاعرِهم أو أفكارهم.[2]

فلتتابع قراءةَ هذا المقال؛ لتتعرفَ على قيمةِ الألوان في الرسمِ، والأدب على وجهِ الخصوص.

عناصر الألوان، ومكانتها في الفن

يتصدرُ اللونُ القائمة فيما تُعرف بعناصرِ الفن الأساسيّة السبعة (The Seven Elements of Art)، وذلك لما يضيفُه اللونُ الواحد من قيمةٍ فنيّة، ورمزيّة.[3] إذ ينقسمُ اللونُ إلى ثلاثةِ أقسام رئيسة مُتناغمة معًا؛ لتكوينِ ما تراهُ العين، ويترجمُه الدماغ للشكل النهائيّ للون. تتمثلُ أقسامُ اللون الثلاثة إلى:

  • أولًا: صبغة اللون (Hue)، أيْ أصلِ اللون، وكينونته؛ فتشيرُ إلى الموجةِ المُنتجة أو العاكسة للون.
  • ثانيًا: تشبع اللون (Saturation)، أيْ نقاءِ وحِدّة صبغة اللون، والذي يعني ما يُرى من اللونِ بلا شوائبٍ على الإطلاق. فاللونُ المُتشبع زاه، ومشرقٌ عكسِ غير المتشبعِ الباهت، والكليل.
  • ثالثًا وأخيرًا: قيمة اللون أو سطوعه (Value)، أيْ درجةِ الأبيض أو الأسود المؤثرين في صبغةِ اللون؛ أيْ بينما تجعلُ إضافةُ الأبيضِ اللونَ المُستخدَم أفتحَ؛ مما يضيفُ إنارةً، تجعلُ إضافةُ الأسودِ اللونَ المُستخدَم داكنًا؛ مما يُضفي ظلالاً.[4] يستخدمُ الفنانُ تلكَ التركيبة على هيئةِ لونٍ واحدٍ مُستعينًا بما يضيفُه لعملِه الفنيّ من قيمة.

أهمية استخدام الألوان في الفن

يخلقُ الفنانُ بالألوانِ حالةَ العملِ الفنيّ وجوه العام؛ إذ تعملُ على تسخيرِ عددٍ وافرٍ من المشاعر، والأفكار. وبناءً على ذلك، تحفزُ خلطةُ الألوان السحريّة سواء من رؤيةِ الأوان ذاتها في اللوحات أو وصفِها في الأدب المُتلقي على استشعارِ ذات المشاعر والأفكار، واستيعابها؛ إذ نميزُ دائمًا طبقًا لمجموعةِ الألوان في اللوحات بين القصص المفعمة بالحياة، والمنغمسة بالكآبة.[5]

وفعّلَ عظماءٌ مثل: فينسيت فان جوخ، وويليام شكسبير الألوانَ في أعمالهم. فمثلًا، نلاحظُ في أفضلِ لوحات فان جوخ استخدامُه لألوانٍ زاهية وحادة، مثل: الأصفر (لونه المفضل) والبرتقاليّ.[1] تتميزُ مسرحياتُ شكسبير كذلك بألوانٍ متنوعة مثل: الأخضر كما في مسرحيتيّ هاملت، وأنطوني وكليوباترا أو الأسود، والأحمر في ماكبث.[6][7]

لا يَستخدمُ الرسّام أو الكاتب ألوانًا متنوعةً؛ لإضفاءِ جمالٍ على العمل أو لخلقِ حالةِ فحسب، بل أيضًا ليستعرضَ وجهةَ نظرٍ مُحددة مُستعينًا بالمعنى الرمزيّ لكلِ لون. طبقًا لكتاباتِ العالم النفسيّ السويسريّ كارل يونج، للألوان قدرةٌ هائلةٌ على خلقِ صورٍ، ومعانٍ في العقلِ الباطن للإنسان أو كما سماه يونج الوعي العام (The Collective Consciousness).[8]

فعلى سبيل المثال، يختلفُ معنى اللونِ الواحد من شخصٍ لآخر طبقًا لتجاربِهم الشخصيّة. وبالتالي، يحللُ كلٌ منهما العملَ بشكلٍ مختلفٍ، يؤدي إلى مناقشاتٍ، وتحاليل مُوسعة لآفاق فِهم العمل. وبناءً على ذلك، تعملُ الألوانُ في صورةِ عواملٍ أساسيّة؛ حتى تجتمعُ الصورةُ الكاملةُ المتنوعة للعملِ الفنيّ، وهذا ما يتركُ الانطباعَ عند مُحبيّ الفنون حول العالم.

فتتلخصُ أهميةُ استخدامِ الألوان في الآتي:[2][9]

  • إثراء العمل الفنيّ.
  • إثارة الفكر، والمشاعر.
  • التأثير على العقلِ الباطن.
  • استعراض وجهة نظرِ الفنان.
  • تحليل أحداثِ العمل الفنيّ، ومغزاه.
  • خلق طريقة تواصلِ لأفكارنا، واستنتاجاتنا.

أمثلة عن أهميةِ استخدام الألوان في الرسم

رسومات مونيه بألوان مختلفة
رسومات مونيه بألوان مختلفة.

تلعبُ الألوانُ دورًا بارزًا في لوحاتِ رائد المدرسة الانطباعيّة (Impressionism) في الرسم كلود مونيه، إذ تتسمُ بكلٍ من التشبعِ، وأيضًا البلادة. ففي مجموعةِ اللوحات الإنطباعيّة خاصةً لوحات مونيه، نلاحظُ مجموعةً واسعة من الألوانِ الدافئة المشرقة مثل: الأصفر، والأحمر بالإضافة إلى الألوان الباردة الهادئة في درجاتِ الأزرق، والرماديّ على سبيل المثال. تميزت كلُ مجموعةِ ألوان بقوةٍ جماليّة، ودلاليّة مُعينة.

فمثلًا، رسمَ مونيه كاتدرائيةَ نوتردام حوالي ثلاثين مرة بمجموعةِ ألوانٍ مختلفة. وكان الإلهام وراء ذلك إعجاب مونيه بالجوِ العام، والحالة المختلفة للكاتدرائية مع اختلافِ الوقت، والجو. فرسمَها في الصباحِ الباكر مع إضاءةِ شروقِ الشمس من المشرقِ بألوانٍ خافتة. ورسمها ثانيةً في الظهيرةِ مع جوٍ مُشمسٍ بألوانٍ في غايةِ التشبعِ، والسطوع. ومع إضاءةِ من المغربِ، رسمها مرة أخرى أقل سطوعًا في الغروب. أما عن المرة الرابعة، فكانت في الليلِ مع جوٍ ضبابيّ. تنقلُ كلُ رسمةٍ منهم جوًا مختلفًا؛ مما يُثمرُ عن إحساسٍ، وانطباعٍ مختلفٍ للمكان ذاته. فكيف تَمكنَ مونيه من نقلِِ تلك الصور المتنوعة؟ تَمكن بخلطةِ ألوانٍ متنوعة خلقَ صورٍ مُتقنة الجمال.[5]

لوحة مارجريت السيريالية
لوحة مارجريت السيريالية.

مع مرورِ الوقت وظهور مدرسة السيرياليّة (Surrealism)، لم تكن الألوانُ المتناسقة في بالّتةِ الرسّام ضروريّة. إذ انتقلَ النصيبُ الأكبر من الاهتمامِ لفكرةِ الرسمة لا لتناسقها. فاستدلالًا بسلسلةِ لوحات إمبراطورية الضوء (The Empire of Light) للفنان البيلجيكيّ رينيه مارجريت، يُعدُ اختيارُه للألوان غيرَ منطقيٍّ بالمرة. تُصَوِر السلسلةُ عدةَ مشاهدٍ هادئة للسماءِ، والمنزل.

ولكن عند النظرِ لها، بينما تَلفتُ انتباهَنا السماءُ، والسحب الساطعة، المُسلط عليها الضوءُ بدرجاتِ أزرقٍ صافٍ مُشرقٍ، وأبيضٍ ناصعٍ؛ فتتوقعُ رؤيةَ منزلٍ مُضيئًا مفعمًا بالحياة، يظهر المنزلُ على النقيض تمامًا؛ فيبدو باهتًا، وكئيبًا بلونِه البُنيّ المُظلم، والأشجار بلونِها الأخضرِ القاتم. وكأن مارجريت يُلغي تأثيرَ الألوان الناصعة في خلقِ جوٍ مُفعمٍ بالحياة، والإشراق فيما يُسمى بالتعجيبِ (Defamiliarization).[10] فيساعدُ هذا التعجيبُ في تناقضِ السماء مع المنزل؛ ليعيدَ المُشاهدَ تفكيره في دلالةِ الألوان، ومعنى اللوحةِ، الذي يختلفُ من مُتلقٍ لآخر نظرًا لإختلافِ الانطباعات.[11]

أمثلة عن أهميةِ استخدام الألوانِ في الأدب

كَتَب كارل يونج استكمالاً لدراسةِ قيمة الألوان في العملِ الأدبيّ، فشرحَ في كتابِه بعنوان  النماذج الأصليّة والوعيّ العام (The Archetypes and The Collective Consciousness) الأثرَ النفسيّ المُهِم للألوانِ في الأدب. فتعدُ النماذجُ الأصليّة والوعيّ العام الصورَ الثابتة التي تتكونُ في عقلِ القُرّاء بشكلٍ متكرر. ذكرَ يونج أن معظمَ الألوان الأساسيّة لها صورٌ نموذجيّة، وإزدواجيّة المغزى:

  • فيشيرُ اللونُ الأحمر -على سبيل المثال- للدمِ والعنف، وأيضًا للحبِ والشغف.
  • أما الأبيض، يقترنُ بالنورِ والبراءة، وعلى النقيضِ بالشحوبِ والجنون.
  • وبينما يرمزُ الأسودُ للظلامِ والشر والموت، يعني أيضًا الأناقةَ والجمال.
  • مثالٌ آخر، يمثلُ الأخضر النُضجَ والخصوبة والحياة، وقد يُمثلُ الجهلَ والغيرةَ.
  • وأيضًا الأزرق، يرتبطُ بالهدوءِ والسلام، وكذلك بالحزنِ والفراغ أو الاضطراب أو الموت.
  • و العديدُ من الأمثلةِ على ألوان أخرى مثل البنفسجيّ الذي يشيرُ من جانبٍ إلى النبالة والرفاهية، ومن جانبٍ آخر الغضبِ والإحباطِ وغيرهم الكثير.[8]

استخدمَ هومر مثلًا تركيبةَ ألوانٍ مُهمة في الإلياذة و الأوديسة (The Iliad and The Odyssey) منها وصفِه للبحر بالنبيذ القاتم “The wine-dark sea”. يَعتقدُ النُقاد بأنّه بَنى تلكَ الصورة لوصفِ اضطراب البحر، ولكن ما اللونُ المقصود؟ بالنظرِ لمغزى الألوان في النماذجِ والأنماط الأصلية، فدرجةُ لونِ النبيذ القاتم يُشيرُ -في الأغلب- إلى اللونِ الأزرق. فتضيفُ الألوانُ قيمةً عظيمةً لملحمةِ هومر؛ إذ تتحكمُ في الصورةِ المرسومةِ في خيال القارئ، والمغزى منها.[15]

البحر النبيذي القاتم
البحر النبيذي القاتم

أكدتْ ثقافتُنا العربيّة كذلك أهميةَ وصفِ الألوان ودلالته في الأدب. فمنذ بدايتِهم بإلقاءِ الشِعر في الجاهلية، اتسمَ شِعرُهم بكثافةِ وصف حياتهم، وبيئتهم، ومشاعرهم. أكانوا قادرين هم على ذلك التصور بدونِ استخدام الألوان لإثراءِ الوصف؟ فبينما وصفَ شعراءُ الجاهليّة البيداءِ، وحرارةِ الشمس في الجوِ باستحضارِ اللون الأصفر، استحضروا كذلك اللونَ الأخضر في الطبيعةِ، والخصوبةِ، والرزق. وظهرَ الأحمرُ في الغزواتِ والثأر، وهكذا. وكان للونِ الأسود على وجةِ الخصوص دلالاتٌ واسعة، ومتنوعة للشعراءِ والمُستمعين.[12]

فيَشيرُ اللونُ الأسود إلى معانٍ مختلفة حسب استخدام الشاعر. وبالرغم ِمن دلالات الأسود للموتِ، والتشاؤمِ، والعبوديّة، له دلالات أخرى مثل العِزة، والجمالِ كذلك. فيقولُ طُرفة بن العبد:[13]

إذ جاء ما لا بُدَّ منهُ فمَرْحَباً بهِ        حینَ یأْتي لا كِذابُ ولا عِللْ

ألا إنّني شرِبْتُ أسْوَدَ حالكــاً      ألا بَجَلي مِنَ الشّرابِ ألا بَجَـلْ 

فيُشبه ابنُ العبد الموتَ بشرابٍ أسود اللون، لا بد من شربِه. وهنا دلالة الأسود سلبيّة بالطبع. وعلى النظير الآخر، يقولُ عنترة بن شداد:[14]

 لَئِنْ أَكُ أسوداً فالمسكُ لَوني       وما لِسَوادِ جِلْدِي مِـنْ دَواءِ

ولكن تبْعُدُ الفحشاءُ عنِّي          كبعدِ الأرْضِ عن جوِّ السَّماءِ 

يدافعُ عنترة عن سوادِ بشرته، مُشبهًا إياها بلونِ المسك؛ فتتغيرُ دلالةُ الأسود للإيجابيّة خلال رمزِها للعِزة، والطهارة تبعًا لاستخدامِه، ونفيه لدلالةِ العبوديّة، والهُجْنَةُ المُرتبطةِ باللون. وتعددت استخداماتُ الألوان، وقيمتها مع استخدامِ العديد من شعراءِ العرب الجاهلية الآخرين.

خاتمة

تتحكمُ الرابطةُ الوطيدة بين الألوانِ، والرسمِ، والأدبِ في فيضٍ وافرٍ من الجماليات والألغاز؛ فما يَتركُه اللونُ من أثرٍ على صانعِ تلك الفنون، ومتلقيها، يُعطي للعملِ قيمةً، ومغزى لا ريب فيهما. بدايةً من نقوش المعابد والملاحمِ الإغريقيّة ووصولًا ليومنا هذا، لم تقل أهميةُ ما تضيفه الألوان للعمل الفنيّ. فيخلقُ كلُ عنصرٍ في اللونِ من درجةِ التصبغِ أو التشّبعِ أو الإنارةِ أو الخبوِ حالةً، وأثرًا مُختلفًا تمامًا. فبينما يُمثلُ اللونُ الواحد أكثرَ من معنى، يَرسلُ الفنانُ مَقصَدهُ، ويحللهُ المُتلقي في تكوينِ ترابطٍ بديع. فكان جديرًا بالذكرِ مساهمةُ الألوانِ في المدرستين الفنيتين: الإنطباعيّة، والسيرياليّة بطرقٍ مختلفة؛ لخدمةِ أهدافهما، ورسائلهما.

كما ساهمَ استخدامُ الألوان في أصولِ الأدبِ كقَصِ الحكايات في شِعر الملاحم الإغريقيّة، والشِعر العربيّ الجاهليّ؛ لتوصيلِ معانٍ مُتنوعة كذلك. ففي نهايةِ الأمر، من الواضح أن الألوانَ عنصرٌ أساسيٌّ، وفي غايةِ الأهمية للعمل الفنيّ؛ لقُدرتِها على تغييرِ صورتِه النهائيّة كليًا.

شارك المقال:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي