لا تتوقع حين تقرر البدء في قراءة أدب سفيتلانا أليكسييفيتش أنك على موعدٍ مع قصّة عاديّة قوامها بدايةٌ وحبكةٌ وصراعٌ ونهاية، فأدب سفيتلانا يحكي سيرة الحدث على ألسن الإنسان ومشاعره وما عايشه خلال الحدث. سفيتلانا مؤرخة للروح الإنسانية، تروي قصّة الأحداث الكبرى التي تعرضت لها بلدها بمنظورِ عدة مشاركين ومتأثرين بها. ولكن كتاباتها التي تنطلق من نقطة محليّة، تنتهي دائمًا إلى مشاعرٍ إنسانية عالميّة لا تُفرِق بين شرق وغرب.
النشأة والبدايات
«أبي على سبيل المثال كان شيوعيًا طوال حياته ومات وهو شيوعي مؤمن بفكرة الاتحاد السوفيتي»
سفيتلانا أليكسييفيتش
كان الاتحاد السوفيتي يُلملم بقايا الحرب العالمية الثانية حين ولدت سيفتلانا، ابنة المُعلم البيلاروسي «أليكسندروفنا أليكسييفيتش»، في الحادي والثلاثين من مايو عام 1948. وقتها كان الاتحاد السوفيتي تحت حكم ستالين الشموليّ، وعاشت سيفتلانا الفترات المُبكرة من حياتها وخَبُرت معنى الحياة في أجواء هذا النظام. وتنتمي سفيتلانا إليكسييفيتيش إلى روسيا البيضاء (المعروفة ببيلاروس)، التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفيتي السابق، الذي كان إحدى القوتين اللتين هيمنتا على العالم بعد انتهاء الحرب الكبرى.
كان والدها بيلاروسيًا وأمها أوكرانية، ونمت سفيتلانا وتربّت في إحدى قرى روسيا البيضاء، حيثُ عملا والديها معلمين. ولم يُفارقها الأدب منذ الصِغَر، ففي بداية حياتها كتبت سيفتلانا الشعر حين كانت ترتاد المدرسة، ثم شاركت كذلك بعددٍ من المقالات في صحيفة مدرستها وفي الجامعة حصلت على عدّة جوائز عن الأوراق العلمية والطلابية التي كتبتها.
ودرست سفيتلانا الصحافة في جامعة روسيا البيضاء الحكومية، ثم وبعد تخرجها عملت في إحدى الصُحف المحليّة. ولكنها كانت مُشتتةً بشأن المجال الذي تودّ الإكمال فيه باقي حياتها. إذ كانت تعمل معلمةً في أحد المدارس المحلية، في نفس الوقت الذي كانت تُمارِس فيه نشاطها الصحفي، وظلت في حيرةٍ لبعض الوقت، لكن القرار الأخير كان في صالح الكتابة التي شَغفت بها منذ الصغر. وحسمت الكاتبة قرارها لاختيار أحد المسارين حين قُدّمت لها دعوة للعمل في صحيفةٍ بـ«مينسك»، ومن بعدها انطلقت في مشوارها الصحفي والأدبي. وفي كتاباتها الصحفية تعرّضت بالانتقاد لسياساتِ النظام السوفيتي وروسيا البيضاء، مما اضطرها للعيش في خارج موطنها فتنقلت بين إيطاليا وفرنسا وألمانيا والسويد.
نوع أدبيّ فريد
«بالنسبة لي أنا أتعامل مع نوع مختلف من التاريخ لم يُذكر، وهو تاريخ المشاعر وتاريخ روح الإنسان وفكره. أنا أجمع مشاعر الإنسان والقدرة على مواجهة قوى الفوضى والشر الذي يحيط بنا»
سفيتلانا أليكسييفيتش
تنقلت سفيتلانا أليكسييفيتش بين عدّة أنواع أدبية، فكتبت القصة والشعر والنثر ولم تعثر في البداية على ضالّتها في هذه الأنواع الاعتيادية. ولكن حين قرأت الكاتبة البيلاروسية كتاباتِ مواطنها أليس آداموفيتش تعرّفت على الفور على النوع الذي تُريد الكتابة تحته. لذا تصف سيفتلانا أليكسييفيتش الكاتب أليس آداموفيتش بالمعلم الأول، فهو من أرشدها للمسار الصحيح في كتاباتها. وذكرت في لقاءٍ لها أنها كانت تبحث عن الأداة الأدبية التي تُمكّنها من أقرب طريقةٍ ممكنةٍ للحياة الواقعية، فالواقعيةُ دائمًا هي ما جذبتها وما أرادت التقاطه وسكبه على الورق. ولهذا تخصّصت في نوعٍ فريدٍ من الأدب وهو الرواية متعددةُ الأصوات وغير الخيالية التي تنقل أصوات البشر الحقيقية واعترافاتهم والشهود والأدلة والوثائق.
وكرست أليكسييفيتش غالبية كتاباتها للتعبير عن أصوات مواطني الاتحاد السوفيتي وخبراتها وذكرياتهم مع الأوضاع السياسية والاجتماعية للنظام. وتفرّدت بأسلوب «الكولاج» بدمج الأصوات المختلفة للأشخاص الذين أجرت معهم لقاءات وحوارات في قضايا كتبها المختلفة.
وينبع اهتمام سفيتلانا أليكسييفيتش بتوثيق القضايا الكبرى لوطنها في وقتٍ قريبٍ من إيمانها بصعوبة الانتظار سنواتٍ عديدة للكتابة عن الحدث كما كان يحدث في الماضي. فهي ترى أن العصر الحالي لا يمكنه اتباع خطى تولستوي، مثلًا، الذي انتظر 50 عامًا حتى يكتب عن الحرب في روايته. فالأدب عليه أن ينقل إفاداتِ الشهود لما لها من أهمية جمة لتوثيق الحدث. ولأن كتابات سفيتلانا أليكسييفيتش في غالبيتها تُركز على مآسي الإنسانية فقد تُوصف بكونها «كاتبةً عن الكوارث» ولكنها تنفي عن نفسها هذا الادعاء، إذْ ذكرت في خطابٍ لها أنها دائمًا ما تبحث عن عملِ الحبّ لأن الكراهية لا يمكنها أن تنقذ البشرية أبدًا، فالحب فقط ما يبقينا.
وتميزت سفيتلانا بوصفها للتحوّلات النفسية والاجتماعية للأشخاص بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وسقوطه، إذْ كانت ترى أن الاتحاد السوفيتي لم يعد موجودًا ولكن الشخص السوفيتي الذي تربى في هذه البيئة ما زال موجودًا.
ونال النوع الأدبي المتفرد لسفيتلانا التقدير الدولي حين حصلت على جائزة نوبل للأدب في عام 2015، وجاء في حيثيّات الجائزة أن سفيتلانا جمعت في «رواياتها التوثيقية» بين المراسلة والأخبار والتخيّل وذُكِر أن الجائزة ذهبت لأليكسييفيتش لكتابتها مُتعددةِ الأصوات باعتبارها تذكارًا للمعاناة والشجاعة في وقتنا الحاضر.
وحين تسلّمت سيفتلانا جائزة نوبل وصفتها باعتبارها انتصارًا لصوت الآلام والمعاناة وللأجيال التي عاشت في حلم الاتحاد السوفيتي ولمن تعرضوا للألم والتعذيب والتنكيل على يد النظام الـ«ستالينيّ». كما حكت سيفتلانا في خطاب استلامها جائزة نوبل عن امرأتين من موطنها حين كانت في المطار أسرعتا إليها ليقولا لها كلمة واحدة: «شكرًا لكِ جعلتينا نُرى، الآن نحن موجودون ويعلم الجميع أين هي بيلاروسيا.» وبالفعل فإن كتابات سفيتلانا أليكسييفتيتش عرّفت العالم بمعاناة مواطنيها وجعلت منها أكثر من بلدٍ صغير على الخريطة.
أهم أعمال سفيتلانا أليكسييفيتش
«في كل كتاب آخذ مجموعة من الأشخاص مختلفي السنّ والوظائف للنظر إلى الأحداث من وجهات نظر مختلفة أنا أسميها رواية في الأصوات فمن الصعب على العقل الواحد استيعاب كل شيء يحدث.»
سفيتلانا أليكسييفيتش
منذ كتابها الأول «لقد تركت قريتي» اكتسبت أليكسييفيتيش سمعة عن كونها كاتبة صحفية معارضة للاتحاد السوفيتي. ثم جاء كتابها الثاني «ليس للحرب وجه أنثوي» ليرسّخ هذه الصورة عنها. ويحكي الكتاب عن تجارب سيدات من السوفييت شاركن في الصفوف الأمامية للحروب وفي مختلف الأماكن، والذين نُسيت بطولاتهم بعد انتهاء الحرب. وحين أنهت كتابها في عام 1983، ظل الكتاب حبيس دار النشر دون طبعه ونشره، إذ اتُهِمت سفيتلانا بالمسالمة والطبيعية وعدم تمجيد بطولات النساء السوفييت. ولكن صدر الكتاب في 1985 وفيما تلاها من أعوام طُبِع من الكتاب مليونا نسخةٍ في مينسك وموسكو وحدهما.
ثم أصدرت كتابًا آخر في نفس العام وهو «الشاهد الآخير: قصص غير طفولية» واعتُبر الكتاب إلى جانب «ليس للحرب وجه أنثوي» اكتشافًا في نثر الحروب، ويصفان الحرب من منظوري المرأة والأطفال ويستكشفان مزيدًا من المشاعر والأفكار.
وفي عام 1989 نشرت الكاتبة كتابًا آخر هامًا وهو «فتيان الزنك» الذي يُعد سيرة لحدث الحرب السوفييتية الأفغانية، وسافرت سفيتلانا لمدة أربعة أعوام لمناطق مختلفة من بلدها لمقابلة أمهات ضحايا الحرب وخبراء الحرب الأفغانية-السوفييتية.
ثم في عام 1993 أصدرت كتابها «مسحور بالموت» الذي يتناول محاولات عدد من الأشخاص للانتحار بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. وتطرقت سفيتلانا في هذا الكتاب إلى الأشخاص الذين شعروا بأنهم ملازمين للأفكار الشيوعية وغير قادرين على تقبل أي نظام آخر في بلدهم.
اقتُبسِت أعمالها في عدد من الأعمال الفنية من المسرح والسينما وحتى الأفلام الوثائقية.
صلاة تشرنوبل.. الحياة بعد الكارثة
«لكني أنظر إلى تشرنوبل كبدايةٍ لتاريخٍ جديد. الأمر لا يقتصر على المعرفة، إنما أسبقية المعرفة، ذلك لأن الإنسان دخل في جدالٍ مع تصوره عن نفسه وتصوره عن العالم. عندما نتناول الماضي أو المستقبل، فإننا نضيف إلى هذه الكلمات تصوراتنا عن العصر، لكن تبقى تشرنوبل على الدوام -وقبل كل شيء- هي كارثة العصر دون منازع. إن النويدات المشعّة التي تناثرت على أرضنا ستحيا على مدار خمسين، مائة، مائتي ألف عام وربما أكثر… ومن منظور الحياة الإنسانية فإنها خالدة.»
مقابلة المؤلفة مع ذاتها، صلاة تشرنوبل، سفيتلانا أليكسييفيتش
بعد أحد عشر عامًا على كارثة انفجار المفاعل النووي تشرنوبل، وفي عام 1997 أصدرت سفيتلانا أليكسييفيتش كتابها الأكثر شهرة وانتشارًا «صلاة تشرنوبل» وفيه حكت الكاتبة عن آثار كارثة تشرنوبل بصوت معاصريها، ومن عايشوها وتذوقوا مرارة أضرارها وفداحة الخسارة التي لحِقت بهم.
يحمل الكتاب شهاداتٍ مؤلمةً لأشخاص فقدوا منازلهم وعائلاتهم وحياتهم نتيجةً لحادثة تشرنوبل. كما تتناول في كتابها كيفية تكيُّف الناس مع الوضع الجديد بعد الحادثة، فالأشخاص فيما بعد تشرنوبل اكتسبوا معرفة جديدة، وصارت لهم رؤية مختلفة لبلدهم وللتطور العلمي وللإنسان وحتى لنظام الشيوعية الذي ظلّ يهيمن على حياتهم طوال عقود عدّة.
في كثيرٍ من الشهادات المرصودة في الكتاب مقارناتٌ لجنود شاركوا في الحرب الأفغانية- السوفيتية وكذلك كُلِّفوا بالتعامل مع الكارثة النووية، إلى جانب أشخاص أصابتهم الإعاقات من آثار الإشعاع. بل يغوص الكتاب أيضًا في تفكير الناس عن هذه الكارثة، وعجز عقولهم عن إدراك خطرها في بعض الأوقات، ويُظهر مشاعرًا مركبةً تخصّ العديد من الشهود الذين تحدثت إليهم الكاتبة.
خاتمة
وتستمر سفيتلانا في دعم أصوات المُهمّشين والمستضعفين، فمن دورٍ رائدٍ في تخليد ذكرى الأحداث الكبرى، وجمع الشهادات من مختلف الأطراف في موطنها إلى دورٍ رائدٍ جديدٍ في إعلاء صوت النساء من خلال الكتابة. فأعلنت سفيتلانا أليكسييفيتش في يناير العام الماضي عن نيتها افتتاح دار نشرٍ جديدة مخصّصة للكاتبات النساء فقط. وحسبما ترى فإن الكُتاب الرجال في كل مكان، في حين لا تُنشر إلا أعمالٌ قليلةٌ للنساء. وتهدف أليكسييفيتش إلى بث الثقة لدى النساء الكاتبات، وتقوية رغبتهم في الكتابة.