هناك أكثر من 2 مليار شخص يعيشون في الأقاليم الاستوائيّة، غالبيّتهم على اتصال مباشر بالبيئة الجيولوجية المحيطة؛ يأكلون ويشربون منها. تُؤثّر الخصائص الجيوكيميائية لتلك المناطق على صحة سكّانها، وقد تؤدّي في بعض الحالات إلى إصابة ملايين الأشخاص بالأمراض، والسبب الرئيسي وراء ذلك هو سبب جيولوجي. من أمثلة هذه الأمراض: تسمّم الأسنان والهيكل العظمي بالفلور، واضطرابات نقص اليود، والأمراض الناتجة عن اختلال توازن العناصر الزهيدة؛ لهذا السبب ظهر علم الجيولوجيا الطبية. [1]
علم الجيولوجيا الطبية
هو فرع من فروع علم الجيولوجيا، يهتم بدراسة تأثير المواد البيئيّة، والعمليات الجيولوجية على صحة الإنسان. [2]
فروع علم الجيولوجيا الطبية
تنقسم الجيولوجيا الطبية -من حيث مصدر العناصر في البيئة- إلى فرعين:
الفرع الأول: يدرس العناصر المتواجدة طبيعيًا في البيئة (مثل: أكل ثمار كانت مزروعة في تربة يقلّ أو يزيد فيها عنصر معيّن عن المعدل الصحي الطبيعي).
الفرع الثاني: يدرس العناصر التي دخلت إلى البيئة عن طريق الكوارث الطبيعيّة (مثل: الزلازل، والبراكين، والفيضانات، والانهيارات الأرضية). [3]
علم الجولوجيا الطبيّة عبر التاريخ
عُرفت العلاقة التي تربط بين الجيولوجيا وصحة الكائنات منذ قديم الأزل؛ حيث أدرك الفلاسفة والأطباء في بعض البلاد مثل: الصين، واليونان تأثير الجيولوجيا على الصحة، إلا أنّ العناصر الضروريّة للصحة لم تُعرف إلا مع تقدم الطب في القرن التاسع عشر. [3]
أُنشئ علم الجيولوجيا الطبيّة بواسطة العالم اليوناني أبقراط (400 ق.م)؛ حيث لاحظ تأثير العوامل البيئيّة على توزيع الأمراض في الأماكن المختلفة. ذكر أبقراط في كتابه (الأهوية والمياه والبلدان) أنّ الماء يأتي في بعض الأحيان من التربة على هيئة ماء حراري، وقد يحتوي على عناصر مثل الحديد، والنحاس، والفضة، والذهب، والكبريت، والشب، والقار، ونترات الصوديوم؛ وهو لا يصلح للاستخدام في أي غرض. [3]
كشف علماء الآثار، وأخصائيّو العظام، والمؤرّخون المعاصرون -من خلال فحص أنسجة الجثث والمومياوات لعصور ما قبل التاريخ- أنّ السبب الغالب وراء ضعف صحة من عاشوا في الحقبة القديمة هو تدهور الأوضاع البيئيّة. على سبيل المثال: انتشر مرض تضخّم الغدّة الدرقية قديمًا في الصين، واليونان، ومصر، وإمبراطورية الإنكا، وهو داء يسبّبه النقص الحاد في اليود؛ ما جعلهم يفكّرون في علاجه باستخدام الطحالب البحرية؛ لغناها باليود. يشير ذلك إلى أنّ تلك الحضارات القديمة كانت تعالج الأمراض الناتجة عن نقص بعض العناصر في الغذاء باستخدام المكملات الغذائية الطبيعية. [3]
ذُكر التسمّم بالرصاص في الألواح الطينيّة للإمبراطورية الآشورية الوسطى والحديثة (1550 إلى 600 ق.م)، وفي أوراق البردي الطبية للحضارة المصرية القديمة، والنصوص السنسكريتية التي تعود إلى أكثر من 3000 سنة. استخدم الرومان الرصاص في السباكة والهندسة المعمارية وبناء السفن، وكانوا يستهلكون منه كميات هائلة؛ ما أدى إلى تفشي الأمراض في عصرهم مثل: النقرس، والعقم، والإملاص؛ حتى إنّه يُقال أن أحد أسباب سقوط الإمبراطورية الرومانية هو زيادة استهلاكها للرصاص. [3]
لاحظ ماركو بولو (بالإنجليزيَّة: Marco Polo) أثناء زيارته للصين عام 1275 م مرض الأحصنة ببعض النطاقات بداء أدّى إلى إصابتها بالوهن والضعف، لكن سبب المرض كان مجهولًا آنذاك، وحديثًا ارتبط وجود المرض في تلك النطاقات بارتفاع نسب عنصر السيلينيوم فيها. [3]
في الثلاثينيّات، ظهرت أول حالة لمرض كيشان في الصين (وهو مرض اعتلال عضلة القلب الذي قد يسبب الوفاة في بعض الحالات)، ثم في السبعينيّات، اكتُشف ارتباط المرض بقلّة تركيز عنصر السيلينيوم في البيئة. [3]
في أواخر الخمسينيّات، كان قد تم تحديد 9 عناصر من العناصر الزهيدة الضروريّة للحياة، وفي السبعينيّات، وصل عددهم إلى 14 عنصر، ثم ازدادوا إلى 20 عنصر في الثمانينيّات، وفي عام 1993 كان قد تم تحديد 30 عنصر أساسي لصحة الكائنات الحية وبقائها. أشهرهم: الأكسجين، والكربون، والهيدروجين، والكالسيوم، والصوديوم، والبوتاسيوم، والماغنيسيوم، والمنجنيز، والحديد. [3]
أهمية الجيولوجيا الطبية وتطبيقاتها الحديثة
عام 1999، أوضح عالِما الجيولوجيا ديسانايك وتشاندراجيث (بالإنجليزيَّة: Dissanayake and Chandrajith) أهميّة الجيولوجيا الطبية وبعض تطبيقاتها، يمكن تلخيصها فيما يلي:
- هناك أكثر من 30 مليون شخص في الصين يعانون من تسمّم الأسنان بالفلور؛ نتيجة زيادة نسبة الفلور في مياه الشرب. يرجع ذلك بشكل واضح إلى الخصائص الجيوكيميائيّة للمياه الجوفية بجانب عوامل أخرى. تعاني دول أخرى مثل: جنوب الهند، وسريلانكا، وغانا، وتانزانيا من تسمّم الأسنان، وأيضًا تسمّم الهيكل العظمي في بعض الحالات. [1]
- يوجد نحو مليار شخص -غالبيتهم في الدول النامية- يعانون من اضطرابات نقص اليود؛ بسبب نقصه الشديد في النظام الغذائي. من أمثلة هذه الاضطرابات: تضخّم الدرقية المتوطن، ومتلازمة نقص اليود الخلقي، والتشوّهات الجنينية. تُعنى الدراسات العلميّة في الوقت الحالي بالعلاقة بين توزيع اليود في الصخور، والتربة، والماء، والبحار، والغلاف الجوي، وبين أمراض نقص اليود. [1]
- عنصر الزّرنيخ هو أحد العناصر السامّة المسرطنة المتواجدة في المعادن المكوّنة لبعض الصخور. يتواجد هذا العنصر في أكاسيد الحديد، ومعادن الطين، وبعض معادن الكبريتيد. يمكن وصوله إلى المياه الجوفية عن طريق الأكسدة، ثم ينتقل إلى جسم الإنسان عن طريق شرب الماء؛ ما يؤدي إلى التسمّم. رُصدت العديد من حالات التسمّم بالزرنيخ في جنوب بنغلاديش، وغرب البنغال، وفيتنام، والصين، وتشيلي، والأرجنتين، والمكسيك. يتسبب تسمّم الزرنيخ عادةً في أمراض جلدية، أبرزها: التصبّغات الجلدية، وفرط التقرّن، وسرطان الجلد، ولكن يمكن ظهور أعراض أمراض أخرى مثل: الأمراض الكلوية، والمعوية، والعصبية، وأمراض الدم، والأمراض القلبية، والتنفسية؛ لذا تهتم الدول الآن اهتمامًا بالغًا بدراسة الجيوكيمياء الطبية لعنصر الزرنيخ. [1]
- تُشير الأدلّة الحديثة إلى أن مرض السرطان يعتبر من أبرز الأسباب المؤدية للوفاة بعد أمراض القلب. وقد انتشر مؤخرًا في البلدان الصناعية؛ نتيجة لعوامل بيئية. اعتمدت الدراسات التي أُجريت في الماضي بشأن أسباب الإصابة بمرض السرطان على أن المُسبّب الرئيسي للمرض هو سوء الأوضاع البيئية، حتى يثبت غير ذلك. ومن هنا تظهر أهمية علم الجيوكيمياء في بحث أسباب مرض السرطان، فمثلًا: في الدول النامية يصاب ملايين الفقراء بالسرطان؛ بسبب شرب الماء الملوث بالمواد النيتروجينية الناتجة عن فضلات الإنسان، والحيوان، والأسمدة النيتروجينية، التي تؤدي إلى سرطان المعدة، والمريء، وزيادة نسبة الهيموغلوبين في الدم. إنّ عملية انتقال هذه المواد الكيماوية من البيئة إلى السلسلة الغذائية ثم إلى جسم الإنسان، هي عملية متعلقة بعلم الجيوكيمياء بشكل كبير؛ لذا تحوز الجيوكيمياء الطبية الآن على اهتمام كبير من قِبَل أبحاث مرض السرطان. [1]
- ظهر داء الفيل في بعض الدول مثل: إثيوبيا، وكينيا، وتنزانيا، ورواندا، وبوروندي، والكاميرون، وجمهورية كابو فيردي. بملاحظة المناطق التي انتشرت فيها الإصابة بالمرض وُجد أنّ جميعها تتّسم بوجود تربة طينية حمراء، كما أنّه بتحليل العقد اللمفاوية لنسيجٍ مُصاب، وُجدت جسيمات دقيقة تحتوي على ألومنيوم، وسيليكون، وتيتانيوم؛ ثم أُشير إلى معدن إكرمانيت من مجموعة معادن أمفيبول (Amphibole eckermannite)، الموجود في صخور الأساس البركانية، على أنّه هو العامل المُسبّب لداء الفيل. تتجلّى هنا أيضًا أهمية أبحاث الجيولوجيا الطبية. [1]
- يرتبط انخفاض الإنتاجية من رعاية المواشي في الدول النامية بشكل أساسي بسوء التغذية، لكن هناك عوامل أخرى تساهم في ذلك، مثل: نقص المعادن، وعدم توازنها في العلف. من أجل ذلك، تم تقدير المناطق التي تعاني قلة العناصر الزهيدة، ومشاكل التلوث عن طريق رسم خرائط توضح اختلافات التربة، والعلف، والنسيج الحيواني، ومكونات الماء من مكان لآخر. تقوم العديد من الدول النامية أيضًا بجمع البيانات الجيوكيمائية حول رواسب الأنهار المحلية؛ لاستكشاف المعادن بها، والآن تُستخدم هذه البيانات في الدراسات المعنيّة بصحة الحيوان في الأقاليم الاستوائيّة. [1]
- من الجدير بالاهتمام وجود علاقة جيوكيميائية بين الإصابة بأمراض القلب وصلابة الماء. لم يثبت أن هذه العلاقة هي السبب الأساسي للمرض، ولكن لا ينبغي أن نتجاهل تأثير بعض العناصر الزهيدة الموجودة في ماء الشرب على الإصابة بأمراض القلب، وأهمية البحث بهذا الشأن. [1]