«عبد الفتَّاح مُصطفى».. حالةٌ فريدةٌ في تاريخِ الغناء العربيّ، من حيث الشخصيَّة والموهبة والتركيبة الفنيَّة؛ فهو أبدًا ما سعى إلى اكتساب شهرةٍ فكان له ما أراد، وموهبته المُتميِّزة كانت تُزهر الكلماتِ في قريحته كما تشع الشمس عاكسةً أشعتها على الجميع قويةً وواضحةً ولا غنى عنها لبقاء الحياة، وعندما تسمعه يتحدث تحتار في أمره؛ فهل هو شاعر غنائيّ مِغوار يصارعُ كلَّ بحورِ الشِعْرِ العربيِّ فتستكين له دون مقاومة؟! أم هو عالِم لُغوي يعشق اللغةَ العربيَّة ويحارب كلَّ موجات الاستشراق للدفاعِ عنها بسيفِ شِعْره؟! أم هو رجلٌ زاهدٌ فهِم الدنيا واستوعب معادلتها فأصبح لا يأبه لها فاتخذ التصوُّف سبيله.
تستمر فرائد عبد الفتاح مصطفى تأخذنا أكثر وأكثر، فرغم عدم انتشار اسمه وذيوعه بالشكل الذي يليقُ بإبداعاته -فهو قد هجَر الشهرة فهجره الإعلام-؛ إلا أنّ أعماله تكاد تكون مُحتضِنةً لآذاننا، ومصاحبةً لنا على مدار اليوم دون أن نكون على درايةٍ بذلك، فلطالما كان نَسَمةَ صيْف خفيفةً سرعان ما تختفي على أملٍ في اقتفاء أثرها لتعود مرةً أخرى.
والكلمات التالية هي محاولة بسيطة لتقديم الامتنان لصاحب الموهبة العظيمة عبد الفتاح مصطفى.
بدايات عبد الفتاح مصطفى
لابُد أن حي الجماليَّة بقاهرة مصر فيه شيء يجعله يحمل عبقرية المكان التاريخيَّة ويصبغ بها قاطنيه، فنجده يخرج منه صاحب نوبل، وأديب الحارة المصريَّة «نجيب محفوظ»، ثم ينجب هذا الحي بعده بثلاثة عشر عامًا مُبدعنا عبد الفتاح مصطفى.
انتمى عبد الفتاح لأسرةٍ عائلها شيخٌ أزهريّ مرموق هو«الشيخ مصطفى الغمراوي»، التحق ابنها بكلية الحقوق ليتخرج فيها عام 1952م، ثم يعمد إلى الحصول على دبلومةٍ في الشريعة الإسلاميَّة عام 1954م(1)؛ ولكن موهبته كانت قد سبقت كلّ ذلك.
بدأت موهبة عبد الفتاح تظهر بصورةٍ جليَّة في مراحل عمرهِ المبكِّرة، حيث بدأ في سن صغيرة بنظم القصائد باللغة العربية الفصحى الرصينة، وانضم إلى الإذاعةِ في سن الرابعة عشر وهو ما يزال في المرحلة الثانويَّة، لتلتقط بدورها الإذاعة جميع إنتاجه الفنيّ.
وكانت ضربةُ البداية لعبد الفتاح قويَّةً؛ فقد تحقَّق حُلمٌ له طالما كان مستحيلًا؛ ففي أحد الأيام شكَّلت الإذاعة المصرية لجنة لاختيار مجموعة من الأغنيَّات ليقوم بتلحينها الفنَّان «محمد عبد الوهاب»، وكانت هذه اللجنة برئاسة كلٍّ من «سعيد لطفي باشا» رئيس الإذاعة آنذاك، و«محمد صلاح الدين» وزير الخارجية الأسبق، و«عبد الحميد عبد الحق» وزير الشؤون الاجتماعية الأسبق، ووقع اختيارهم على عددٍ من الأغنيَّات أولها «العروس والملاح» أو «عروس النيل» كما كانت شهرتها التي كتبها عبد الفتاح مصطفى، وبذلك تحقق الحلم وقابل الأخير موسيقار الأجيال في منزله وجهًا لوجه، بعد أن كان أقصى ما يطمح إليه أن يراه من بعيد؛ حيث كان ملتحقًا بمدرسة فؤاد الأول المقابِلة لمنزل عبد الوهاب.(2)
بعد تلك الواقعة بدأت الإذاعة المصرية في الاحتفاء بأعمال عبد الفتاح مصطفى التي ما لبثت أن اشتهرت وتلقفتها الجماهير بحُب، وهي لا تزال تمثل كنزًا في مكتبات الإذاعة.
ومن المعروف أن عبد الفتاح ارتبط ارتباطًا وثيقًا بثورة يوليو، وكانت هناك ثورة فنية توازي هذه الثورة السياسيَّة؛ حيث تطوّر الإعلام وبدأ التلفاز في الانتشار إلى جانب وسائل الإعلام التقليدية ومحطات الإذاعة في الراديو، فأفرزت الثورة من خلال هذه العوامل مجموعة من الأعمالِ الفنيَّة التي تميَّزت بالحماسة الشديدة والقوة في التعبير والعمق في المشاعر، وكان عبد الفتاح من بين الذين أبدعوا في هذه الفترة.(1)
قصةُ عبد الفتاح مصطفى مع اللغةِ العربيَّة
كان الشاعرُ عبد الفتاح مصطفى عاشقًا للغته العربيَّة أشد أنواع العشق والتَيْم؛ حيث رأها لغةً مليئةً بالأسرار التي لا تنتهي، فهي لغة مجاز ولم تسطع أيّ لغةٍ أخرى أن تصلَ لما وصلت إليه العربية، فالمفردات التي يستخدمها الإنسان العربيّ في تعريف ماهية الأشياء من حوله، إنما جاءت من تفكُّر وتدبُّر في الحياة التي يعشيها، فها هو يسمي “القلبَ” قلبًا لأنه يتقلّب يمنةً ويُسرى، ويسمى “العقل” بهذا الاسم لأنه يحسم الأمور ويعقلها كما يعقل المرءُ بعيرَه وهكذا.(2)
فقد صدقَ «محمود عباس العقَّاد» عندما تكلم في كتابه «اللغة الشاعرة» عن العربية، فقد كان يرى أن كلامها العاديّ شعرًا، وبالتالي فشعرها هو شعر الشعر، كما شكى عبد الفتاح مصطفى بُعد الناس عن السليقةِ العربيَّة والتحسُّس اللُغويّ ظنًا منهم بأنها لا تواتيهم بما يريدون، مُسترسلًا بأن اللغة الفصحى لو تقاربت إلى الأسماع لأصبحت مثلها مثل اللغة العاميّة عند الناس.(2)
وحرصًا من عبد الفتاح على تحقيق هذا المسعى؛ كتب عشرات القصائد باللغة الفصحى التي ما تلبث أن تسمعها حتى تستشعر جمال الكلمةِ وعظمة البناء اللغويّ الذي أنعم الله به على هذا الشاعر.
ومن العجب أيّما عجب، أن الشاعر عبد الفتاح له العديد من الأعمال التي كتبها باللغة العامية إلى جانب الفصحى؛ لتصل إلى البسطاء، وعند الاستماع إلى تلك الأعمال، ستجد ذاتك في حيرة حول أفضليَّة أعمال عبد الفتاح الفصحى والعامية، فللحق الاثنان يتفوق كلٌّ منهما على الآخر.
إبداعات عبد الفتاح مصطفى مع الكبار
دائمًا ما كانت «أم كلثوم» لكلٍّ من يعمل معها محطةً مهمةً في تاريخه الفنيِّ، فلأنها كانت -وما زالت- فنَّانةً استثنائيَّة؛ فالمؤلف الغنائيّ أو الملحن بفطرته الفنيَّة كان يُستثار ويسعى إلى إخراج عصارة فنه مُستغلًا صوتها العذب، وقاعدتها الجماهيريَّة العريضة.
ولكن الأمر كان مختلفًا وفريدًا كعادته مع الشاعر عبد الفتاح مصطفى، فبفضله تغنّت أم كلثوم بكلمات جديدة لم تعتدها آذان مستمعيها، ومع ذلك نجحت نجاحًا كبيرًا، وظلّت علامةً فارقةً في مشوار أم كلثوم الفنيّ حتى يومنا هذا، فأدَّت بكلامته الأغنيات العاطفيَّة الراقية المعاني، والأغنيات الوصفيَّة التي تجعل مُتلقيها يعشق كلَّ ما هو جميل في الحياة، والأغنيات الوطنيَّة التي تشعل القلوب حماسةً، وكذلك الأغنيات الدينيَّة التي تزيد الإنسان خشوعًا لجلال الله.
وقد بدأت علاقة الشاعر عبد الفتاح مصطفى بالسيدة أم كلثوم في أواخر فترة الخمسينيات، وقدما سويًّا اثنتى عشرة أغنية متنوعة، وذلك في الفترة ما بين عاميّ 1959م و1967م. (1)
شوف هنا جنب المصانع والمداخن والزحام
الغيطان اللي أخرها المادنة وأبراج الحمام
والسواقي اللي ما نامت ليلة من كام ألف عام
شوف جمال الريف وأمِن بالمحبة والسلام
من أغنيَّة “طوف وشوف” لأم كلثوم من ألحان السنباطي
أول التعاون بينهما كان بشكلٍ غير مباشر؛ حيث انتقت أم كلثوم أغنيتيّ «لسه فاكر، وتائب تجري دموعي” من الإذاعة دون أن ترى عبد الفتاح، بعدها حدث اللقاء بينهما وأنتَّجا معًا عدد من الأغنيات(2) مثل: «ليلي نهاري، وأقولك إيه عن الشوق يا حبيبي، وطوف وشوف، ومنصورة يا ثورة أحرار، والزعيم والثورة» للملحن «رياض السنباطي»، و«يا سلام على الأمة» للملحن «محمد الموجي»، و«إنَّا فدائيون» للملحن «بليغ حمدي» (1)، بالإضافة إلى عدد من الأغنيات الأخرى مثل: «يا حبنا الكبير، ويا صوت بلادنا»، وتُوفِّيت أم كلثوم قبل أن تغني أغنيةً أخيرة لعبد الفتاح كانت في طريقها للتنفيذ بعد الاطّلاعِ على رأي الملحن رياض السنباطي بها. (2)
خليني كلمة تصحّي الناس وتهديها
خليني رحمة تمس جراح وتشفيها
خليني بسمة تهني قلوب وترضيها
خليني همَّة لكل عزيمة تحيها
يا رب..
من ابتهال “خليني كلمة” لعبد الحليم حافظ من ألحان الموجي
تمتَّع الفنَّان «عبد الحليم حافظ» بذكاء فنيّ جعله مُتجددًا في عيون جمهوره وآذان مستمعيه طوال تاريخه الفني، وقد كتب الشاعر عبد الفتاح مصطفى اسمه في صفحات تاريخ عبد الحليم من خلال تقديم عدة ابتهالات دينية قصيرة من ألحان محمد الموجي، وقد لاقت إقبالًا كبيرًا منذ وقت عرضِها، وحتى الآن، وكان من هذه الابتهالات: «أدعوك يا سامع دعايا، وأنا من تراب، وبين صُحبة الورد، وبيني وبين الناس، وخليني كلمة، وع التوتة والساقية، ونفضِت عنيَّا المنام، والجنة في الأرض، ورحمتك في النسيم، وورق الشجر، ويا خالق الزهرة».
عبد الفتاح مصطفى.. مِصْرُ تغني كلماته
طبيعة التكوين الخاصة لشخصيَّة الشاعر عبد الفتاح مصطفى لم تسمح له بأن يدور في فلكٍ واحدٍ، فهو هائم في السماء، يقف على غصن أحدهم مرة، وعلى غصن غيره مرةً أخرى، وهو ما أدّى إلى عدم تلحين الموسيقار محمد عبد الوهاب مرة أخرى له، فالمعروف عن عبد الوهاب أن من يكتب له ينقطع عن الكتابةِ لغيره وهو ما لم ترضه موهبة عبد الفتاح.
هذه الطبيعة أفقدت عبد الفتاح عَلَمًا كبيرًا في سماء الفن مثل عبد الوهاب؛ لكنها أكسبته مصر جميعها، فمعظم فناني مصر تغنُّوا بكلماته التي أصبحت تتردد على الألسُن طيلة الوقت، كما لحَّن كلماته كثيرٌ من عباقرة التلحين.
من أشهر أعماله الغنائية التي قدَّمها: «أمجاد يا عرب أمجاد» ل«كارم محمود» وألحان «أحمد صدقي»، و«وردك يا جار الهوى فتّح على عُودُه» ل«محمد عبد المطلب»، و«أجمل سلام» ل«سعاد محمد»، و«مصر نعمة ربنا» ل«شادية» وألحان «محمد الموجي» وقد تغنَّت بها عقب اغتيال الرئيس المصري الأسبق «محمد أنور السادات». و«سَحَب رمشه» ل«محمد قنديل» وألحان الملحن والمُمثّل «عبد العظيم عبد الحق» التي اعتبرها الموسيقار «عمار الشريعي» من أحلى ما تم تقديمه في تاريخ الغناء العربيّ من خلال استخدام البلاغةِ الشعريَّة واللحنيَّة.(3)
سَحَب رمشه ورد الباب كحيل الأهداب
نسيت اعمل لقلبي حجاب وقلبي داب
رموشه تميل على خده جناح رفرف على ورده
ولو طلب القمر ودُّه أمل كدَّاب
من أغنيَّة “سحب رمشه” لمحمد قنديل من ألحان عبد العظيم عبد الحق
كما أبدع الشاعر عبد الفتاح مصطفى لشهر رمضان كلمات تليق بعظمته مثل: أغنية «كريم المعاني يا شهر الصيام» ل«فايزة أحمد» وألحان الموسيقار «محمد فوزي»، وأغنية «رمضان يا بو المواكب» ل«إسماعيل شبانة» وألحان «شوقي إسماعيل»؛ ولكن لم تنته كلماته المعبرة عن هذا الشهر الفضيل عند هذا الحد، فقد سطّر اسمه كمَعْلَم من معالم هذا الشهر لسنين كثيرة، فأضاف اسمه إلى قائمة ذكريات رمضان التي تتجدّد كل عام بحلوله بأصواتٍ طالما اعتادها المستمعون مثل: «الشيخ محمد رفعت، والشيخ سيد النقشبندي».
سعى جميع مؤلفي أغنيات شهر رمضان إلى نشر البهجة بين الناس بقدوم شهر الصَّوم، وهو ما فعله عبد الفتاح في بعض أغنياته؛ لكن بروحه النقيَّة التي عرفها عنه جميع من حوله، استطاع أن يستجمع الشاعر عبد الفتاح مصطفى المشاعر المختلفة والمتناقضة التي تتملَّك الإنسان في نهاية هذا الشهر المُبارك من عرض لمحاسنه التي يتمنّى الجميع أن تظل حتى بعد انتهائه مثل الإحسان على اليتامى والفقراء، والحزن على اقتراب رحيله والتوسُّل بأن يبقى قليلًا، وفي نفس الوقت الفرح من أجل العيد الذي أوشك مجيئه هديةً من الله سبحانه وتعالى إلى عباده الصائمين، كل تلك الأحاسيس أمسك خطوطَها ببراعةٍ شديدةٍ وكتب كلمات أغنية «تم البدر بدري»، وكان من الممكن أن يجني الثروات من وراء هذه الأغنية وحدها فقط؛ لكنه والفنَّانة «شريفة فاضل»، والملحن «عبد العظيم محمد» جمعوا الأكثر من حب الناس الشديد لهذه الأغنية التي لا تزال تلقى صدىً كبيرًا حتى بعد وفاة أصحابها، حيث تعتبر إذاعتُها النداء الرسميّ لاقتراب مغادرة شهر رمضان.
تحلِّف يتيمك ما تلمح دموعه
و تسرُّه بقدومك و تنور شموعه
و تسيب يوم وداعك فوق الأرض عيد
يا هالل بفرحة و مفارق بفرحة
من أغنيَّة “تم البدر بدري” لشريفة فاضل من ألحان عبد العظيم محمد
رأي عبد الفتاح مصطفى في الأغنيَّات الدينيَّة
الكثيرون ممن عاصروا الشاعر عبد الفتاح مصطفى وأعماله وصفوه بالجديّة الشديدةٍ التي تغلِّف شخصيته الإنسانيَّة؛ ولكنه كان يرى الجدية التي يتمتعُ بها ليست بجديته هو؛ بل بجديَّة الفكْر، وكان قد سعى طوال مشواره الدنيويّ من خلال الفنِ الذي قدّمه إلى أن يكون صادقًا مع خالقه ومع نفسه، حيث لم يغب عن ناظريه الرجل الذي ارتضاه مثلًا أعلى له، وهو سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، الذي -من وجهة نظره- عاش ومات من أجل عقيدته، وأثار هذه القضية حتّى صارت الدنيا تدوِّي من حوله، وأصبح إمَّا أن يحيا لهذه القضية أو يموت عليها، فلم يكن هناك من هو أجدّ منه، ورغم ذلك لم تفارقه الابتسامة فكان أهش خلقِ الله.(2)
وعندما سُئل عبد الفتاح عن سر إبداعه قال:
«وجدتُ سبيلي إلى الله، فسيدنا مُحمَّد أخذ بمجامع قلبي وبعيْن قلبي فوجَّهها الى الله تعالى، وتامُّلي في رحمة الله في كل خلقه جعلني أصل إلى طريق الله.»(2)
كلٌّ ذلك من طبائع شخصيَّة الشاعر عبد الفتاح مصطفى جعلت منه فنانًا مُتصوّفًا؛ حيث كانت له دراسات مُستفيضة في الشعراء الصوفيين، كما جعلته ممن لهم باع ورأي يؤخذ به في مجال الأغنية الدينية.
فقد كان يرى أن الأغنيات بسياقها العام تنقسم إلى قسمين: إمَّا حلالٌ فهي دينية، وإمَّا حرامٌ فهي ليست من الدين في شيء، وبهذا المعنى يتسع مدلول “دينية” لتشمل كلَّ أغنيةٍ لا تعطب النفس ولا تسيء إلى الخُلُق، ولا تخرج الإنسان عن حدود اللياقة، ولا تثير فيه الغرائز والنزوات؛ وإنما قد تهدهد من غلوائه، أو تريح أعصابه، أو تدفعه إلى التأمُل الجميل في خلق الله أو في بشاشة الحياة، عندئذ هذه الاغنية تكون للترويح أو للتنشيط أو للعمل أو للحرب او للسلم فهي دينية بهذا المعنى.
ودائمًا ما كان يؤكد عبد الفتاح إلى أن الدين الإسلامي ليس له شرائط أو شعائر أو طقوس ترتبط بالغناء، وليس له أغنية تسمى “أغنية دينية”؛ لأن الاسلام دين الحياة في كل ما يستقيم في الحياة بدون لبس شيطانيّ ولا انحراف، وأن مستقبل الاغنية الدينية رهن بيقظةِ مؤسسات الإعلام ورهن بيقظة الضمير العام وتربية النشء ع المبادئ الطيبة وزيادة النزعة الخلقية والكلام الصالح.
عبد الفتاح مصطفى.. كلمة السر في ابتهال “مولاي”
كان الشيخ «سيد النقشبندي» حالةً نادرةً في تاريخ الابتهالات، فكثيرًا ما أمتّعنا بنور صوته الشجيّ في الليالي الظلماء بابتهالاته الخاشعة التي لا تزيد الإنسان إلا إيمانًا راسخًا بقدرةِ الخالقِ وتجلِّياته على عباده، وكان لابتهال «مولاي» خصوصيَّة شديدة في النفوس، خاصةً في شهر رمضان؛ حيث حرصت الإذاعة لفترةٍ طويلةٍ على إذاعته عقب أذان المغرب، فربط الناس بينه وبين ليالي رمضان وأصبح أيقونة من أيقوناته دون أن يدري الننقشبندي أن هذا الابتهال الذي طالما تخوَّف من أدائه سيكون أشهر أثرٍ لقدمه على الأرض.
ابتهال مولاي كان قرار دولة وقفت وراءه مؤسساتها بما فيها الإذاعة المصريَّة، وذلك بعد أن كلّف الرئيس السادات الإذاعي الكبير «وجدي الحكيم» بمتابعة كلٍّ من «بليغ حمدي» والنقشبندي في تنفيذهما لقراره الذي يتضمن عملهما معًا؛ حيث كان من المعروف عن الرئيس السادات ولعه الشديد بصوت النقشبندي.(4)
إن الابتهال بطبيعته يعتمد على إلقاء الشيخ مٌنفردًا، وعلى الارتجال اللحني حيث لا يوجد لحنٌ له، والشيخ النقشبندي كان منتميًّا إلى الطريقة الصوفيَّة النقشبنديَّة حيث الغناء أمر صعب عليه، فهو قارئ قرآن ومُبتهل، وبالتالي فالغناء مغامرة، فانزعج الشيخ النقشبندي من هذا الأمر، خاصة وأنه كان يعتبر بليغ حمدي ملحن الأغنيات الوطنيَّة والعاطفيَّة التي يدخل بها المقسوم والإيقاعات الراقصة، وذلك على عكس بليغ الذي كان يرى في هذا الأمر هديَّةً من السماء، فقد كان مُحبًّا لصوت الشيخ النقشبندي ويعرف قدره ويتمنّى أن يصنع له عملًا يعيش مئة عامٍ وهو ما يحدث الآن.(4)
اتضح ذكاء بليغ حمدي هنا في أمرين: الأمر الأول أنه استعان بشاعرِنا عبد الفتاح مصطفى لكتابة كلمات الابتهال فهو واحدٌ من أهم الشعراء في تاريخ الأغنية في المنطقة الصوفيَّة، وكان عبد الفتاح أيضًا من الذكاء أن يكتب كلمات مٌنتقاة بعناية شديدة، فهو يدرك قيمة الشيخ النقشبندي ويعلم إلى من يتوجه بكلماته، ويستوعب أن القاعدة العريضة لجمهور الشيخ من الطبقات الشعبيَّة البسيطة، فكتب كلمات مثّلت مفتاح كلماتٍ متداولةٍ، فأُعجب بها الشيخ.
الأمر الآخر كان يتعلق بموهبة بليغ حمدي ذاتِها، فقد وضع كلمات عبد الفتاح المعبرة على لحن ذي مقام “بياتي”، وهذا المقام من المقامات المصرية الصميمة؛ حيث يحوي نغمة الثلات أرباع التي لاحظها الفرنسيون أثناء حملتهم على مصر وقالوا أن المصريين يمتلكون نغمة “مرتعشة” وأطلقوا عليها «الفيتو»، وفوق ذلك كان هذا المقام من المقامات التي يفضلونها المشايخ ويطلقون عليه مقام “السلطنة”.(4)
ولأن صوت الشيخ النقشبندي يصعُب التحكُّم به وتقييده بنوتةٍ موسيقيَّةٍ، إذ أنه يتمتَّع بمقدرةٍ فائقةٍ على الارتجال، إلى جانب أن الشيخ لم يكن يستطيع حفظ التيمة الموسيقيَّة؛ فاستغل بليغ حمدي هذا الأمر وشكَّل كورال في أرضية اللحن يُبنى عليه صوت الشيخ ويرتجل ويُظهر إمكانيات صوته وفي نفس الوقت يمثِّل بطانة كتلك المعهودة في فن التواشيح الدينية، فأصبح الابتهال لحنًا لبليغ مُغلَّف بطبقة نقشبنديَّة، وسر صنعةٍ يكمن في كلمات عبد الفتاح مصطفى.
مُسلسلاتٌ وأفلامٌ بنكهةٍ موهبة عبد الفتاح مصطفى
موهبةُ الشاعر عبد الفتاح مصطفى لم تترك بابًا إلا طرقته وأبدعت كعادتها، ولأن التلفاز مثّل في فترة من الفترات أقوى وسائل الإعلام الجماهيريَّة قُربًا للناسِ؛ فقد سمح لعبد الفتاح أن يكون زائرًا مُترددًا على منازل الأُسر المصريَّة ليمنحهم فَيْضًا من إبداعاته التي من فرْط روعتها انتشرت في ربوع العالم العربيّ، وربما قد يعرف الناس أعماله ويرتبطون بها ارتباطًا شديدًا دون أن يدركوا بأنه صانعُها.
مسلسل «محمد رسول الله» من أقوى إنتاجات التلفاز المصري، وكان له من الأثر الكبير الذي جعل الناس يلتفون حوله، لما يقدمه من قيم دينيَّةٍ واضحةٍ، وقصص نبويَّة لرسائل الأنبياء والمرسَلين، وبالطبع كان لعبد الفتاح اليد البيضاء على هذا العمل الدينيّ الضخم، فقد تمكّن من تحويل القصة التي كتبها «عبد الحميد جودة السحَّار» إلى سيناريو وحوار على أفضل ما يكون إلى جانب كلمات تتريّ المقدمة والنهاية للمسلسل الذي قام بتلحينهما «جمال سلامة» وقامت بغنائهما «ياسمين الخيَّام».
وفيما يتعلق بالأفلامِ، شارك عبد الفتاح في كتابة حوار الفيلم الدينيّ المعروف «رابعة العدوية» الذي حظى بنجاحٍ كبيرٍ وجدلٍ واسعٍ في نفس الوقت؛ لكنه جسّد أمام الجميع رشاقة الكلمات التي يستخدمها عبد الفتاح.
فيلم “الشيماء” يعتبر من أفضل الأفلام الدينية التي تناولت قصة رسالة الرسول ورحلة الهجرة من مكة إلى المدينة من خلال سردِها في إطار استعراض قصة «الشيماء بنت الحارث» أخت الرسول في الرضاعة عن قصة «شادية الإسلام» ل«علي أحمد باكثير»، وقد شارك في أدائه فنَّانون كبار.
وقد حوى الفيلم مجموعةً متنوعة من الأغنيات التي رُصِّعت بأفضل الألحان على يد كلٍّ من: «بليغ حمدي، ومحمد الموجي، وعبد العظيم محمد»، وصوت الفنَّانة «سعاد محمد».
بطلُ هذا الفيلم بلا منازع هو الشاعر عبد الفتاح مصطفى، فهو صاحب كلمات الأغاني التي ألّفها بمهارةٍ رائعةٍ، فهو يعدّ الشاعر الأوحد الذي أعاد كتابة النشيد الأشهر في الإسلام «طلع البدر علينا» (1) وتقبَّله الناس خير القبول، كما تتجلّى موهبته مرةً أخرى في كتابته أغنية «رويدكم رويدكم» على غرار الأوبريت أو الديالوج.
طلع البدرُ علينا ومن النورِ ارتوينا
برسولِ اللهِ قرِّي يا رُبَى يثربَ عينًا
هبةُ اللهِ إلينا .. مَن يفي للهِ دَيْنًا
وجبَ الشكرُ علينا ما دعى للهِ داع
من نشيد “طلعَ البدرُ عليْنا” لسعاد محمد من ألحان عبد العظيم محمد
يظهر عبد الفتاح مرةً أخرى في فيلم «فجر الإسلام» لكتابة الأغنية الوحيدة به وهي «نشيد الهجرة» أو ما تُعرف ب«إلى رحاب اليثربِ»، التي أضفت بُعدًا فنيًّا في أخر دقائق الفيلم مُعلنةً انتصار كلمة الحق ودعوة الرسول، وفي هذا السياق الدرامي كان حتمًا لأيّ كاتبٍ أن يستخدم نشيد «طلع البدرُ علينا»؛ ولكنه بذكاء فنّي أبدع نشيدًا آخر حتى يقدِّم للناس كل ما هو جديد.
سعيًا إلى نورِ النبيّ الهادي
والرحمة الكبري على العبادِ
ومن يعادي الله فليعادي
صبرًا جميلًا يا أخا الجهادِ
من أنشودة “إلى رحاب اليثربِ” غناء المجموعة
وفيما يخص بحور الشعر، بنى عبد الفتاح نشيد الهجرة على بحر «الرَجَز»، وهو من البحور الصافية في الشعر العربيّ الذي يتكوّن من تكرار ست تفعيلات هي:
«مُستفعل مُستفعل مُستفعل .. مُستفعل مُستفعل مُستفعل»
لكنه استخدم البحر المجزوء أي ما يقع منه تفعيلة في كل شطر، وبالتالي فقد استعان بمشطور بحر الرجز الذي يتكون من أربع تفعيلات في البيت بواقع تفعيلتين في كل شطر:
«مُستفعل مُستفعل.. مُستفعل مُستفعل»
وهذا يزيد من إيقاع البيت وسرعته إلى حدٍ كبير؛ حيث تسقط تفعيلةٌ كاملةٌ في كل شطْر، ويأخد عبد الفتاح سرعةَ الإيقاعِ هدفًا له ويأتي بتفعيلة «مُتفعِّل» في بداية النشيد لأنها أسرع من «مستفعل»: ليكمل فكرة سرعة الإيقاع:
مُتفعل مُستفعل
مُتفعل مُستفعل
مُتفعل مُستفعل
مُتفعل مُتفعل
ليكمل بذلك عبد الفتاح فكرة سرعة الإيقاع، وهذه سمة من سمات الأناشيد والأغنيات الدينيَّة.(1)
عبد الفتاح مصطفى في أرقامٍ
فرس موهبة الشاعر عبد الفتاح مصطفى انطلق ووصل إلى غالبية ميادين الكتابةِ، فأصبحت أعماله عديدةً لدرجة يصعب معها الإحصاء والترقيم؛ لكن يكفي القول بأنه ألَّف حوالي ألف أغنيةٍ لكثير من المطربين خلال فترات زمنيَّة مختلفة امتدَّت -على حد وصفه- من «فتحية أحمد» حتى «عفاف راضي»، ومن «صالح عبد الحي» حتى «هاني شاكر».(2)
عمله بالإذاعة المصريَّة منذ فترة الأربعينيَّات سمح له بإنتاج أعمالٍ مثَّلت كنوزًا، لدرجة أنه إذا استمرت الإذاعة في تقديمها هي فقط لكفيتها، فقد قدَّم عبد الفتاح ستة وأربعين برنامجًا غنائيًّا مثل: «راوية، والشاطر حسن، وعذراء الربيع، وعوف الأصيل، والراعي الأسمر، وقِسَم»، وألَّف أربع وتسعين تمثيليَّة تراوحت مدتها بين النصف ساعة والساعة مثل «بطل بلا طبول»، وسبع عشرة مُسلسلةً أشهرها: «أغاني الأصفهاني التي كتبها في مئةٍ وخمسين حلقةً، وأبو الفتيان عن السيد البدوي، والشيخ أبو الحسن الشاذلي، والجليلة بنت مُرَّة، والخضرة الشريفة التي أظهر فيها موهبته اللحنيَّة أيضًا؛ حيث لحَّن ثلاثين أغنية للفنَّانة فايزة أحمد، وثلاثين أخرى للفنانة شريفة فاضل»، كما كتب قصة حياة الرسول بعنوان «يا حبيبي يا مُحمد»؛ ولكنها تحوَّلت إلى دراما غنائية أو أوبريت تعرض على التلفاز بعنوان «مسيرة الهُدى» (2)، وقد نال جائزة نجيب محفوظ للأدب عام 2008م.(1)
استمر الشاعر عبد الفتاح مصطفى يجول في دروب اللغة العربية الفصحى، وحدائق اللغة العربية العامية ويبتدعُ منهما أرقى الأشعار الغنائيَّة، والكلمات المُهذَّبة، لا تخمد نيران موهبته الملتهبة التي لا تأتي إلا بخير، حتى صعدت روحُهُ إلى بارئها في فجر يوم جمعةٍ مباركةٍ من عام 1984م بعدما ناهز عمره الستين.
ولأنه كان صادقًا كما كان يتمنّى لنفسه دائمًا، ستجدُ نفسك في كل مرة تستمع إلى عملٍ من أعماله، تستشعر صوفيته حتى في أغانيه العاطفيَّة الراقية.
المصادر:
- برنامج “شعراء تحت الأضواء”، القناة الثقافية السعودية، متاح من خلال: https://www.youtube.com /watch?v=BhDxsLiAxCo
- لقاء مع الشاعر الغنائي عبد الفتاح مصطفى في برنامج “سهرة مفتوحة” للإذاعي طاهر أبو زيد، متاح من خلال: https://www.youtube.com/watch?v=DQoSF7V5SVc
- برنامج “سهرة شريعي”، تحليل أغنية “سحب رمشه”، متاح من خلال: https://www.youtube.com/watch?v=hv8LAsxojc0&t=189s
- برنامج “حكاية أغنية”: مولاي إني ببابك، قناة الجزيرة الوثائقية، متاح من خلال: https://www.youtube.com/watch?v=y4y0JlDnZcQ