كانت مسألة الجمع والتوفيق بين كبار الفلاسفة مسألة قديمة ؛ عرفت قبل الفارابي ؛ وظهر ذلك جليا في مدرسة الإسكندرية بوجه خاص على يد ” سمبلقيوس” الذي كان من كبار شراح أرسطو ؛ غير أنّ اتجاهه الفلسفي كان أفلاطونيا محدثا . كان قد تعلم على يدي ” أمونيوس” في الإسكندرية ؛ وعلى يدي ” دمسقيوس” في أثينا . وكان من الأمور التي أخذ “سمبليقوس” هذا على عاتقه القيام بها ؛ هو التوفيق بين فلسفة أفلاطون وأرسطو ؛ وهو بذلك يسير على نفس نهج أستاذه ” أمونيوس” الذي كان قد كتب رسالة مفردة في التوفيق بين أفلاطون وأرسطو؛ وترجمت هذه الرسالة إلى اللغة العربية وعليها اعتمد الفارابي في رسالته { الجمع بين رأيي الحكيمين }. و لقد لاحظ أيضا “فورفوريوس” أنه يوجد في مؤلفات أستاذه ” أفلوطين ” ؛ خلط بين آراء الرواقيين والمشائيين ؛ فوضع عدة مؤلفات للتوفيق بين أفلاطون وأرسطو ؛ وسار على هذا النهج عدد غير قليل من القدماء .
كان الفارابي بطبعه يميل إلى النظر في الأمور من كل ناحية ممكنة ؛ وإلى البحث في كل الإحتمالات ؛ وكان يسعى إلى التوحيد والتعميم ؛ وهذه العمل البنّاء يظهر جليا في إسلوبه ومنهجه . هذا ما جعله مقرِبا بين آراء الفلاسفة ومحاولا التوفيق بين نظرياتهم المختلفة ؛ فالحقيقة الفلسفية عنده واحدة ؛ مهما تعددت المذاهب وتباينت ؛ فهذا التباين والإختلاف هو محض اختلاف ظاهري من وجهة نظر الفارابي ؛ ومن أجل هذا كله كان كتاب { الجمع بين رأيي الحكيمين }.
يبدأ الفارابي في هذا الكتاب بالإقرار بمنزلة ومكانة الفيلسوفين العظيمين : أفلاطون وأرسطو ؛ واتفاق الآراء على الإشادة بهما . فيقول : { ونحن نجد الألسنة المختلفة متفقة في تقديم هذين الحكيمين . وإليهما يساق الإعتبار ؛ وعندهما ينتهي الوصف بالحكم العميقة ؛ والعلوم اللطيفة ؛ والإستنباطات ؛ والغوص في المعاني الدقيقة ؛ المؤدية إلى كل شئ في الحقيقة }. ثم بعذ ذلك أخذ الفارابي يبين ما قاله الناس عن اختلاف بين الحكيمين في بعض المسائل . فقال : { زعم بعضهم أن بين الحكيمين اختلافا في إثبات المبدع الأول ؛ وفي وجود الأسباب عنه ؛ وفي أمر النفس والتعقل ؛ وفي المجازاة على الأفعال : خيرها وشرها ؛ وفي كثير من الأمور المدنية والخلقية ؛ والمنطقية } . من أجل هذا كله أخذ الفارابي على عاتقه أن ” يجمع ” بين بين رأييهما . فقال : ” أردت في مقالتي هذه أن أشرع في الجمع بين رأييهما ؛و الإبانة عما يدل عليه فحوى قوليهما ؛ وليظهر الإتفاق بين ما كانا يعتقدانه ؛ ويزول الشك والإرتياب عن قلوب الناظرين في كتبهما ؛ وأبين مواضع الظنون ومداخل الشكوك في مقالاتهما “.
بدأ ” المعلم الثاني ” بتعريف للفلسفة فقال : ( إنها العلم بالموجودات بما هي موجودة ) ؛ فالمذهب يكون إذن صحيحا إذا انبطق على الموجود . بيد أنّ هذين الحكيمين قد اختلفا في بعض المسائل الفلسفية ؛ فما مرد ذلك من وجهة نظر الفارابي ؟ . أوضح الفارابي أنّ هذا الإختلاف لابد أن يكون راجعا إلى واحد من هذه الأسباب الثلاثة :
1_ إما أن يكون الحد المبين عن حقيقة الفلسفة غير صحيح . { أي يُفترض أن يكون تعريف الفلسفة نفسها غير صحيح } .
2_ إما أن يكون رأي الجميع أو الأكثرين واعتقادهم في تفلسف هذين الرجلين فاسدا وبغير أساس . { أو يُفترض أن فهم كل الناس أو معظمهم لفلسفة هذين الحكيمين مغلوط ومشوه وسخيف } .
3_إما أن يكون معرفة أولئك الظانين بأن بينهما خلافا هي معرفة مقصّرة . { وهنا يُفترض أن من يعتقد أن بينهما خلافا ؛ معرفته لهذه النقطة معرفة سطحية ؛ لم يضع يده على لب فلسفتهما المتفقتان في الجوهر } . لذلك يفحص المعلم الثاني هذه الإحتمالات الثلاث فيتبين لنا أنّ :
1_ الحد الذي بيناه للفلسفة صحيح ؛ كما هو بين لمن يفصح أجزاء هذا العلم . إذ موضوعات العلوم إما إلهية ؛ أو طبيعية ؛ أو منطقية ؛ أو رياضية أو سياسية . و { الفلسفة هي المستنبطة لهذه العلوم جميعا ؛ حتى أنه لا يوجد شئ من موجودات العالم إلا وللفلسفة فيه مدخل ؛ وعليه غرض ؛ ومنه علم } . غير أنه هنا تتجلى أولى نقاط الخلاف في الظاهر بين أفلاطون وأرسطو .ذلك أن أفلاطون أثناء دراسته للعلوم الفلسفية ؛ فضل استعمال القسمة الثنائية من أجل انتظام مجموع الأحوال الجزئية . بينما فضل أرسطو استخدام القياس والبرهان . غير أنّ هذا لا يعني أن أرسطو رفض القسمة الثنائية ؛ أو أن أفلاطون أنكر قيمة القياس والبرهان .
2_الغرض الثانب باطل أيضا . أية ذلك أن الإتفاق بين معظم العقلاء دليل على الحق ؛ بشرط أن ألا يكون هذا الإتفاق ناتجا عن التقليد ؛ بل عن البرهان العقلي الدقيق . يقول الفارابي : ” ونحن نجد الألسنة المختلفة ؛ متفقة في تقديم هذين الحيكين ؛ وفي التفلسف بهما تضرب الأمثال ؛ وإليهما يساق الإعتبار ” .
3_ فلم يبق إلا الغرض الثالث وهو أن من ظن أن بينهما خلافا هي معرفة تتصف بالقصور .
ويذكر لنا الفارابي الأسباب التي حملت إلى ظن من ظنّ أن بينهما خلافا ؛ ثم يحاول بعد ذلك التوفيق بين هذه الخلافات المزعومة على حد قوله .
1_ أول نقط الخلاف هي في السلوك في الحياة . فإن أفلاطون قد تخلى عن كثير من الأسباب الدنيوية ؛ بينما أرسطو قد انغمس في علائق الدنيا ؛ ونال الكثير من مفاخرها ؛ وحاز المال الوفير ؛ وتزوج وأنجب أولادا (يرفض برتراند رسل في كتابه تاريخ الفلسفة الغربية الروايات التي تذكر زواجه لأنه كان خصيا ) ؛ واستوزر للإسكندر . ومن هنا يبدو لأول وهلة أن بين الرجلين خلافا في النظر إلى السلوك الواجب على الفيلسوف اتخاذه في الحياة . غير أن الفارابي يرى الأمور هنا بمنظار أخر ؛ فإن أفلاطون قد اهتم بأمور الدنيا أيضا ف” دون السياسات وهذبها ؛ وبين السيرة العادلة والعشرة الانسية المدنية …” وكتبه في هذا الباب معروفة ؛ ومختلف الأمم تدرسها منذ أيامه حتى يومنا هذا . لكنه لما رأى أن المهمة للإنسان هي تقويم ذاته ؛ ثم تقويم غيره بعد ذلك ( على أنه متى فرغ من الأهم الأولى ؛ أقبل على الأقرب الأدنى ) . لكنه ( لم يجد في نفسه من القوة ما يمكنه الفراغ مما يهمه من أمرها ؛ لذا أفنى أيامه في أهم الواجبات عليه ) : تقويم نفسه .
وأرسطو اتبع تعاليم أفلاطون كما وجدها في مؤلفاته ؛ { هكذا يعتقد الفارابي ؛ غير أن الحقيقة أن أرسطو قد انتقد الكثير من فلسفة أفلاطون لاسيما نظرية المُثُل ؛ بل وصل الأمر إلى تبرير هجومه المتصل على فلسفته أن قال : ” أحب أفلاطون ، وأحب الحق ، وأوثر الحق على أفلاطون ” ؛ وبدأ يشير إلى أن ( الفلسفة سوف لن تموت بموت أفلاطون ” } ؛ ولما عاد إلى ذاته ؛ وجد في نفسه قوة على تقويم نفسه ثم التعاون مع الأخرين ؛ والإشتغال بأمور السياسة . لذلك : من تأمل هذه الأحوال علم أنه لم يكن بين الرأيين والإعتقادين خلاف ؛ وأن التباين الواقع لهما كان سببه نقصا في القوى الطبيعية في أحدهما ؛ وزيادة في الأخر .
2_ طريقة التأليف . وهي ثاني نقط الخلاف الظاهري ؛ فإن أفلاطون _حسب اعتقاد الفارابي _ كان يوصي بعدم التأليف ؛ لأنه أراد بث الحكمة في القلوب الطاهرة والعقول الصحيحة . غير أنه لما خاف ضياع كلمته أو نسيانها ؛ عمد إلى الرموز لتدوين معارفه وحكمته بحيث لا يفهمها إلا القادرون عليها . وذلك على العكس من أرسطو الذي عمد على التأليف والتدوين والوضوح .
3_ مشكلة الجواهر . وهذه النقطة الثالثة في الخلاف بينهما ؛ فأيهما أشرف : الكلي أم الجزئي ؟ . هنا يقر الفارابي بوجود خلاف حقيقي بينهما ؛ غير أنه يعزوه لإختلاف السياق بينهما . فأرسطو يجعل المفرد هو الجوهر الأشرف حين يتحدث في المنطق والطبيعيات ؛لأنه يهتم حينئذ بالأمور القريبة من الحس . على خلاف أفلاطون ؛فيؤكد أن المفرد هو الأشرف حسن يتحدث في الأمور الإلهية وما بعد الطبيعة . فهنا يقع الخلاف في الظاهر ؛ أما في الواقع فلا خلاف فيه ؛ بل مرجعه إلى إختلاف سياق الكلام فحسب .
4_ القمسة والبرهان . يرى أفلاطون أن الحد التام يكون بالقسمة ؛ بينما أرسطو يراه بالبرهان والتركيب . ويشبه الفارابي هذا الأمر بسلم يصعد عليه وينزل منه ؛فالمسافة واحدة .
5_ مسائل منطقية . القياس ؛ تقابل القضايا .
6_ مسائل في الطبيعيات : الإبصار . إذ يقول أفلاطون أن عملية الإبصار إنه يكون خروج شئ من العين يلقى موضوع الإبصار . بينما أرسطو يرى أن الإبصار يتم بإنفعال يحدث في العين .
7_الأخلاق .يرى أفلاطون أن الطبع يغلب العادة ؛ بينما أرسطو رأى أن العادات كلها تكتسب وتتغير ؛ وأنه ليس شئ منها بالطبع .ويلاحظ الفارابي أنه لا خلاف هنا في حقيقة الأمر ؛ فأرسطو يتكلم هاهنا في الأمور المدنية و ” القوانين تكون أبدا ثابتة كلية ومطلقة ” .
8_ تحصيل العلم . فهنا يختلف الحكيمان في عملية تحصيل العلوم ” نظرية المعرفة ” . فأفلاطون يرى أن كل علم تذكر ؛ بينما أرسطو يرى أن الحواس مصدر العلم ومن فقد حاسة فقد علما . والفارابي هنا يوفق بينهما بقول لأرسطو في كتاب البرهان : ( كل تعليم وكل تعلم فإنما يكون عن معرفة سابقة متقدمة الوجود ” . ويقول الفارابي : أليست هذه نظرية التذكر عند أفلاطون بعينها . وهنا يعلق عبدالرحمن بدوي بقوله : لم نجد هذا النص في كلام أرسطو في كتاب “البرهان” فلسنا ندري من أين استقاه !.
9_مسألة أزلية العالم وأبديته .يظن الناس أن أرسطو قال بأبدية العالم ؛ بينما أفلاطون قال بأنه مخلوق في الزمان .
10 _ المُثُل الأفلاطونية . وهنا لكي يوفق الفارابي بينهما ؛ يلجأ إلى كتاب ” أثولوجيا ” المنسوب خطأ إلى أرسطو ؛ بينما هو في الحقيقة تلخيص ” التاسوعات ” لأفلوطين .
11_الثواب والعقاب في العالم الأخر . هنا يعتقد الناس أنه لا أفلاطون ولا أرسطو يعتقدان باليوم الأخر والثواب والعقاب . لكن الفارابي يرى أن هذا الزعم خطأ ؛فالنسبة إلى أرسطو يلجأ الفارابي إلى الرسالة التي بعثها أرسطو إلى أم الاسكندر يعزيها في ولدها ؛ غير أن عبدالرحمن بدوي يقول بأن هذه الرسالة منحولة على أرسطو .
اعداد : Emad Elsaeid
تصميم : Bothaina Mahmoud
المصادر :
موسوعة الفلسفة ؛ الجزء الأول ؛ عبدالرحمن بدوي .
معجم الفلاسفة ؛ جورج طرابيشي .
الفارابي والتوفيق : دراسة لكتابه الجمع بين رأيي الحكيمين ؛ سعيد زايد ؛ مقالة في الكتاب التذكاري عن أبى نصر الفارابي في الذكرى الألفية لوفاته .
الفلسفة والفلاسفة ..عبدالرحمن بدوي ..