أولا: خطوط اللغة المصرية القديمة:
علي مدار تاريخها الطويل، لم تتطور المصرية القديمة فقط من ناحية قواعدها اللغوية بل أيضا تطورت الأساليب التي كتبت بها وفقا لاحتياجات الناس ومتطلبات عصرهم، و ببساطة فيمكن أن نشبه المصرية القديمة هنا باللغة العربية التي يكمن كتابتها بعدة خطوط مثل النسخ والرقعة والكوفي والثلث والديواني وغيرهم، فالمصرية أيضا كتبت بأربع خطوط تطوروا في عصور متتالية وإن لم يقضي أحدهم علي ما سبقه، و هذه الخطوط أو الأساليب الكتابية هي (الهيروغليفية –الهيراطيقية–الديموطيقية– القبطية) و فيما يلي سأتحدث عن كلا منهم بشيء من التفصيل.
-
الخط الهيروغليفي:
من الخطأ الشائع لدي أغلب الناس أن يشيروا إلى اللغة المصرية القديمة باعتبارها »اللغة الهيروغليفية« وهذا خطأ حيث أن الهيروغليفية أحد خطوط المصرية القديمة وليست لغة منطوقة بأي حال من الأحوال، وعلى أية حال فإن المصريين قد أشاروا إلى لغتهم بأسماء متعددة كان منها »مادو نثرو« والتي تعني »كلام الألهة« و »رن كمت« والتي تعني »فم مصر أو لسان مصر«.
استخدم المصريون الخط الهيروغليفي كخط أساسي وأوحد للكتابة علي المعابد والمنشآت الضخمة كالمسلات والأهرامات والمقابر، والحقيقة فإن لفظة «هيروغليفي» هي الإسم الذي أطلقه الإغريق علي هذه الكتابة فهي مقتبسة من تعبير (ἱερογλυφικὰγράμματαHieroglyphikagrammata) و التي تعني «الكتابة المنقوشة المقدسة» في إشارة إلي أنها كانت تنقش علي جدران المباني «المقدسة» و لهذا فبطبيعة الحال كانت الأحجار هي المادة المفضلة للكتابة عليها بالهيروغليفية حيث استلزمت رموزها التصويرية مهارة فنية خاصة لنقشها علي جدارين المنشآت الضخمة، كذلك استخدمها المصريون للكتابة علي البرديات إلا أنها كانت أصعب في الرسم باستخدام الحبر علي الورق لذلك فقد اخترع المصريون شكل مبسط من الهيروغليفية يعرفه علماء اللغة المصرية باسم «الهيروغليفية المتصلة-Cursive Hieroglyphs» و هي شكل يدوي من الرموز الهيروغليفية متحرر من المقاييس الجمالية القياسية التي تميز الكتابة الهيروغليفية علي الآثار العملاقة و يمكن تشبيهه -إذا جازت المقارنة- بالفرق بين خط الكتابة الإلكتروني بالكمبيوتر و خط اليد في عصرنا الحاضر، و قد شاع استخدام هذا الأسلوب في الكتابة علي الورق والأخشاب وقد بدأ استخدامه منذ عصر الدولة الوسطي تقريبا ومن أهم النصوص التي وصلتنا مكتوبة بواسطته، بردية كتاب الموتى التي تعرف باسم «بردية آني» و «نصوص التوابيت» التي تعود للدولة الوسطي وكتاب الإيميدوات (ما هو كائن بالعالم الأخر) الذي كانت تزين به بعض جدران مقابر ملوك الرعامسة (الأسرات 19 و20).
يعد الخط الهيروغليفي هو أقدم الأساليب التي كتبت بها اللغة المصرية القديمة، فقد أسفرت بعض الاكتشافات الحديثة التي قامت بها بعثة ألمانية في منطقة أبيدوس بالقرب من محافظة سوهاج، عن اكتشاف بطاقات من العاج وأختام طينية تعود لحوالي 3400 عام ق.م تحمل علامات هيروغليفية بسيطة، وهذا يثبت أن الخط الهيروغليفي يعود تاريخه إلي منتصف الألفية الثالثة ق.م و ربما أقدم، و هو أسلوب يعتمد علي «العلامات التصويرية-Ideograms» المقتبسة من البيئة المحيطة للمصريين، وكان في بدايته أسلوب بسيط للغاية حيث كانت العلامة التصويرية تعبر عن كينونة الشيء الذي تصوره، بمعني أن رمز الشمس يعبر عن كلمة شمس، ورمز القطة يعبر عن كلمة قطة وهكذا، لكن مع تعقد اللغة نتيجة لتعقد الحضارة البشرية بدأت الرموز التصويرية تعبر عن قيم صوتية كذلك بجانب دلالتها التصويرية فتحولت لتصبح رموز ذات «دلالة صوتية-Phonograms» فأصبحت العلامات تدل علي دلالة صوتية معينة وانقسمت الرموز إلي رموز تصويرية تعبر عن صوت واحد مثل علامة طائر العقاب التي تعبر عن صوت الألف (أ)، و علامات مزدوجة الصوت أي علامة واحدة نطقها عبارة عن دمج صوتان معا، مثل علامة الأرنب التي تنطق (ون)، وعلامات ثلاثية القيمة الصوتية أي أنها تدمج ثلاثة أصوات أحادية معا، مثل العلامة الشهيرة التي يطلق عليها العامة خطأ «مفتاح الحياة» و هي تنطق (عنخ).
كانت الهيروغليفية في مرحلة المصرية القديمة تتكون من حوالي 1000 علامة وقد انخفض هذا العدد في مرحلة المصرية الوسيطة الكلاسيكية ليصبح حوالي 700 علامة، وفي مرحلة المصرية المتأخرة اخذ عدد العلامات يزيد ليصبح عدة ألاف في العصر البطلمي والروماني، ومن أهم الخصائص التي تميز الكتابة الهيروغليفية أنها كانت علي النقيض من نظم الكتابة المعاصرة لها في الحضارات الأخرى فقد اقتصرت علي كتابة اللغة المصرية فقط، وليست ككتابة الرافدين المسمارية مثلا التي كتبت بها السومرية و البابلية والعيلامية وغيرها من اللغات، وربما يكون الاستثناء الوحيد هو اللغة المروية «لغة مملكة كوش» التي استعارت بعض الرموز الهيروغليفية و الديموطيقية المصرية لتكون نظامين لكتابة لغتهم التي مازال العلماء يعانون صعوبة في كشف غموضها إلي الآن.
من خصائص الكلمة الهيروغليفية انها كانت تتكون من رمز أو عدة رموز يمثلوا مجموع الأصوات المكونة للكلمة ويضاف إلي نهاية الكلمة رمزا لا يحمل قيمة صوتية، يسميه علماء المصريات «المخصص-Determinative» وظيفته إعطاء دلالة تصويرية لمعني الكلمة، فمثلا كلمة «رع» التي تعني كلا من «شمس» و«إله الشمس رع» تكتب عن طريق علامتين، الأولي علامة الفم والتي تحمل القيمة الصوتية الأحادية «ر» و الثانية علامة الذراع ذات الكف المفتوح و التي تحمل القيمة الصوتية الأحادية «ع» و لكن ما سيجعل الكلمة تحمل إحدى المعنيان هو المخصص، فإذا احتوت نهاية الكلمة علي مخصص رمز قرص الشمس إذا فهي تعني «الشمس» إما إذا حملت مخصص رمز الراية الذي يرمز لرايات الآلهة التي تعلو صروح المعابد أو رمز مصور لرجل يجلس القرفصاء فهي تعني الإله رع، و قد انتقل المخصص أيضا إلي الهيراطيقية و الديموطيقية ولكن بشكل أقل وضوحا من الهيروغليفية.
ظلت الكتابة الهيروغليفية مستخدمة في مصر القديمة طوال عصورها التاريخية ويرجع آخر نص دون بالهيروغليفية في مصر إلي عام 394 م وقد دون علي إحدى بوابات الإمبراطور هادريان بمعبد إيزيس بجزيرة فيلة جنوب محافظة أسوان، وهذا النص عبارة عن «مخربشة-Graffito» دونها شخص يدعي «إسمت-أخوم-Esmet-Akhom» ذكر في النص أنه يشغل منصب «كاتب في بيت سجلات أيزيس» و بجانب النص يوجد رسم ركيك للإله «مندوليس» الذي كان مقدسا عند قبائل البليميز النوبية الوثنية الذين ظل اعتناقهم للديانة المصرية القديمة سببا في استمرار سماح الحكومة البيزنطية بفتح معبد جزيرة فيلة -الذي كان مركزا لعبادة مندوليس إلي جانب إيزيس في ذلك العصر المتأخر- علي الرغم من مرسوم الإمبراطور ثيوديسيوس الصغير الصادر عام 392 م والذي يقضي بإغلاق المعابد الوثنية في أراضي الإمبراطورية.
إعداد: محمد جمال
مراجعة وتصميم: عبدالله طه
المصدر:
-
Hart-Davis, Adam. History: The Definitive Visual Guide. New York: D.K Publishing, 2012. Digital.
-
Green, Jen. “EARLY CIVILIZATIONS: The Story of Writing” in Smithsonian Timelines of History: The Ultimate Visual Guide to The Events that Shaped The World. London: D.K Publishing, 2011. Digital.
-
Loprieno, Antonio. Ancient Egyptian: A linguistic Introduction. Cambridge University Press, 1995. Print.
-
Trombley, Frank (R.). Hellenic Religion and Christianization c. 370-529: Volume.II paperback. Leiden: Brill Publishing, 2014. Print.
-
Junge, Friedrich &Behlmer, Heike. “Language”in The Oxford Encyclopedia of Ancient Egypt, Edited by Donald B. Redford. Volume. II. Oxford, New York, and Cairo: Oxford University Press and The American University in Cairo Press, 2001. Print.
-
Orlandi, Tito. “GRAMMAR: Coptic”in The Oxford Encyclopedia of Ancient Egypt, Edited by Donald B. Redford. Volume. II. Oxford, New York, and Cairo: Oxford University Press and The American University in Cairo Press, 2001. Print.
-
Wente, Edward (F.). “SCRIPTS: Hieratic”in The Oxford Encyclopedia of Ancient Egypt, Edited by Donald B. Redford. Volume. III. Oxford, New York, and Cairo: Oxford University Press and The American University in Cairo Press, 2001. Print.
-
Johnson, Janet (H.). “SCRIPTS: Demotic” in The Oxford Encyclopedia of Ancient Egypt, Edited by Donald B. Redford. Volume. III. Oxford, New York, and Cairo: Oxford University Press and The American University in Cairo Press, 2001. Print.
-
Callahan, Allen Dwight. “SCRIPTS: Coptic” in The Oxford Encyclopedia of Ancient Egypt, Edited by Donald B. Redford. Volume. III. Oxford, New York, and Cairo: Oxford University Press and The American University in Cairo Press, 2001. Print.
-
“Egyptian language.” Encyclopædia Britannica. Encyclopædia Britannica Ultimate Reference Suite. Chicago: Encyclopædia Britannica, 2014.
-
Ishaq, Emile Maher. “Coptic Language, spoken” in The Coptic Encyclopedia, Edited By Aziz SuryalAtiya. Volume. II.New York: Macmillan Publishing Company, 1991. Print
-
أديب، سمير. موسوعة الحضارة المصرية القديمة. القاهرة: العربي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولي، 2000م.
-
نور الدين، عبد الحليم. اللغة المصرية القديمة. القاهرة: الطبعة التاسعة، 2011م.
One Response