عُثر على ثلاث كنائس قديمةٍ وأماكن للمعيشة مجاورةٍ لها في مصر. بعض هذه الكنائس منقوشٌ عليها كتاباتٌ توراتيّةٌ قديمةٌ، في كشفٍ يُسلّط الضّوء على حياة الرّهبان المبكّرة الّذين قادوا الكنيسة في مصر القبطيّة. وذلك وفقًا لما صرّحت به وزارة السّياحة والآثار المصريّة.[1]
غالبًا ما ارتبطت الجذور التّاريخيّة للمسيحيّة في مصر بمدينة الإسكندريّة في القرن الأوّل الميلاديّ، وعلى الرّغم من قلّة الأدلّة المادّيّة والوثائقيّة لهذه الفترة؛ إلّا إنّ التّقاليد اللّاحقة تشير إلى أنّ القدّيس «مرقس الإنجيليّ» هو أوّل بطريركٍ في الإسكندريّة، ويُنسب إليه دخول الدّين المسيحيّ إليها. ولم يظهر أوّل سردٍ كاملٍ لدخول المسيحيّة إلى مصر إلّا في القرن الرّابع الميلاديّ عندما أشار يوسابيوس أسقف قيصريّة في تاريخه إلى قصّة إنشاء القدّيس مرقس للكنيسة في الإسكندريّة ومن خلفه من الأساقفة.[3]
موقع الاكتشاف
عثر فريقٌ أثريٌّ نرويجيٌّ-فرنسيٌّ على مباني كنسيّةٍ مبنيّةٍ بالطّوب اللّبِن وحجر البازلت والحجر الصّخريّ المنحوت، يعود تاريخها إلى ما بين القرنين الرّابع والسّابع الميلاديّين، وذلك في منطقة تلّ جنوب قصر العجوز بالواحات البحريّة، على بعد حوالي 230 ميل (370 كم) في الصّحراء الغربيّة جنوب غرب العاصمة المصريّة القاهرة. وكشف أسامه طلعت، رئيس قسم الآثار الإسلاميّة والقبطيّة واليهوديّة في مصر، في بيانٍ أدلى به في 17 مارس الحاليّ، عن طبيعة الاكتشاف وتحليل الموادّ والأماكن المكتشفة وأماكن معيشة الرّهبان والنّقوش الموجودة على الجدران ذات الدّلالات القبطيّة. والجدير بالذّكر أنّ هذا الاكتشاف ليس الأوّل من نوعه في نفس المكان؛ ففي العام الماضي اكتشفت نفس البعثة 19 غرفةً منحوتةً في الصّخر بالإضافة إلى اكتشاف كنيسةٍ بها رسوماتٌ على الجدران أيضًا.[1]
تطوّر الاهتمام الأثريّ بمصر المسيحيّة في وقتٍ متأخّرٍ نسبيًّا، مقارنةً بالاهتمام الأثريّ للتّاريخ الفرعونيّ المصريّ؛ حيث اعتبر الماضي الفرعونيّ لمصر تاريخًا استثنائيًّا للبحث والتّنقيب، في حين اعتُبرت الآثار المسيحيّة والإسلاميّة لاحقًا بدائيّةً وغير شيّقةٍ للبحث أو التّنقيب في بداية الأمر. وقد أدّى هذا الموقف الازدرائيّ تجاه آثار ما بعد الفرعونيّة من قِبل المنقّبين وهواة جمع الآثار، إلى تجاهلٍ عامٍّ للبقايا المسيحيّة حتّى أوائل القرن العشرين الميلاديّ عندما أدركت المتاحف ورعاة الآثار وعلماؤها قيمة الموادّ البيزنطيّة الأثريّة والتّاريخيّة.[3]
تفاصيل الاكتشاف
هذا وتمثّل الكتابات المكتشفة في الموقع والمكتوبة بالحبر الأصفر كتاباتٍ دينيّةً من الكتاب المقدّس باللّغة اليونانيّة. وهي تعكس طبيعة حياة الرّهبان المبكّرة في تلك المنطقة. وبحسب فيكتور جيكا (رئيس البعثة وأستاذ العصور القديمة والدّراسات المسيحيّة المبكّرة في المدرسة اللّاهوتيّة في النّرويج) فإنّ الإشارات المكتوبة على الجدران تشير إلى قيام مستوطَنةٍ كاملةٍ للرّهبان في تلك المنطقة المكتشفة، وقد عاشوا فيها خلال القرنين الخامس والسّادس الميلاديّين.[1]
وبجانب هياكل الكنائس المكتشفة؛ عُثِر على قاعاتٍ لتناول الطّعام وغرفٍ سكنيّةٍ للرّهبان، وأيضًا قطعٍ فخّاريّةٍ مكتوبٍ عليها رسائل يونانيّةٍ، مثل رسالةٍ نصّيّةٍ قديمةٍ يعود تاريخها إلى القرنين الخامس والسّادس الميلاديّين. وأدلت وزارة السّياحة والآثار المصريّة في بيانٍ لها أنّ هذا الاكتشاف يسلّط الضّوء على حياة أوائل الرّهبان في مصر عامّةً، وفي تلك المنطقة بشكلٍ خاصٍّ.[1] ووفقًا للمعهد الفرنسيّ للدّراسات الشّرقيّة، أحد الجهات القائمة على الاكتشاف، فإنّ الموقع البعيد في الصّحراء جنوب غرب العاصمة كان مستوطنًا منذ القرن الرّابع الميلاديّ إلى القرن الثّامن الميلاديّ، ومن المحتمل أن يكون قد شهد ذروته في حوالي القرنين الخامس والسّادس الميلاديّين.[4]
يُمثّل هذا الاكتشاف المرحلة الثّالثة من مراحل الحفريّات الّتي تُجرى في منطقة تلّ جنوب قصر العجوز. حيث ينقسم الموقع الأثريّ إلى ستّة أقسامٍ، كلّ قسمٍ منها يحتوي على غرفٍ متعدّدةٍ. ويقع الموقع في منطقةٍ معزولةٍ نوعًا ما، بعيدًا عن الحياة الحضريّة. ووفقًا لنيفين العارف (من موقع الأهرام أون لاين) فإنّ هذا الاكتشاف في ذلك المكان البعيد، إلى جانب الرّموز الدّينيّة المسيحيّة والخربشات الّتي شوهدت على جدران المكان المُكتشف، يدعم آراء العلماء بأنّ ذلك المكان كان مجتمعًا رهبانيًّا مبكّرًا في مصر.[2]
ويضيف فيكتور جيكا: «استنادًا إلى تحليل الكربون المشعّ للكنيسة المكتشفة تبيّن أنّ تاريخها يعود إلى منتصف القرن الرّابع الميلاديّ ممّا يجعل هذا الموقع أقدم مجتمعٍ رهبانيٍّ محفوظٍ تمّ تأريخه حتّى اليوم على وجه اليقين.»[2]
كما أشارت دارلين بروكس (القائمة على دليل أكسفورد لعلم الأثار المسيحيّ) أنّ العلماء يتتبّعون أصول المسيحيّة في مصر منذ القرن الأوّل الميلاديّ وخاصّةً في الإسكندريّة، حيث أوضحت التّقارير أنّ المدينة كانت جيّدةً ومناسبةً للدّين المسيحيّ عندما جذبت مكتبتها الكبرى مجموعةً من المثقّفين المسيحيّين مثل كليمنت الأوّل الإسكندريّ -المتوفّى في 215 م تقريبًا-، وأوريجانوس -المتوفّى في 254 م-.[2]
أظهرت الحفريّات السّابقة المكتشفة في تلّ جنوب قصر العجوز كيف كان سكّان المنطقة يصنعون النّبيذ ويربّون الماشية ويتاجرون مع الحضارات الأخرى عبر الإمبراطوريّة البيزنطيّة. ويشير الموقع المنعزل خارج السّيطرة الرّومانيّة، والتّنظيم الدّاخليّ للمساحات، والتّرتيب المنظّم للهياكل المبنيّة، والكتابات المحفورة على الجدران، بما لا يضع مجالًا للشّكّ، أنّ المنطقة كانت مجتمعًا رهبانيًّا بامتيازٍ.[2]
دلالات الاكتشاف
تشير مجموعات الأدلّة الآثاريّة حتّى الآن في ذلك الموقع وغيره إلى أنّ وجود المسيحيّين في المراكز الحضريّة كان متزامنًا مع وجودهم في المناطق غير الحضريّة. ومن المحتمل أنّ التّجمّعات المسيحيّة الأولى في مصر حدثت بشكلٍ فرديٍّ وفي منازل خاصّةٍ جدًّا، كما حدث من قبل في عاصمة الإمبراطوريّة الرّومانيّة. لذا نجد أنّ العثور على أقدم الأمثلة للكنائس المسيحيّة وقع اكتشافه بعيدًا كلّ البعد عن مركز السّلطة الكنسيّة في الإسكندريّة في مواقع مثل كيلس (المنطقة المعروفة حاليًّا بـ«أسمنت الخراب» في الوادي الجديد) ومنطقة الفيران (الفيران الحديثة في سيناء) ومنطقة الشّيخ عبادة (في المنيا صعيد مصر).[3]
ويأتي هذا الاكتشاف في وقتٍ يتوق فيه المسؤولون المصريّون إلى تسليط الضّوء مرّةً أخرى على الاكتشافات الأثريّة في البلاد، بسبب ما ترتّب على جائحة كوفيد-19 من انخفاض أعداد السّيّاح في مصر من 13.1 مليون سائحٍ في عام 2019 م إلى 3.5 مليون في عام 2020 م.[2]