الانحياز المعرفي
«الإنسان ما هو إلا نتاج أفكاره، مايفكِّر به يُصبح ما هو عليه» – غاندي.
لا شك أن حياتك كلها هي نِتاج ما يدور ضمن حدود رأسك، فالتصرُّفات في المواقف المُختلفة، والآراء التي تتبنّاها في شتى أمور الحياة، وحتى طريقة التعاطي مع المعلومات المُتلقاة، كُلها عبارة عن أفعال مرتبطة في تفاعل مُباشر مع أفكارك ومُعتقداتك الأولى، بل يمكننا القول أنها- بطريقة أو بأُخرى- تكون نتيجة أو ثمرة لتلك الأفكار والمُعتقدات.
أما الأفكار ذاتها فهي بطبيعة الحال حصيلة عدة مُتغيرات في معادلة النشأة الخاصة بالفرد، كالبيئة المحيطة والظروف الاجتماعية، والعادات والتقاليد والمُعتقدات الدينية، ومدى الانفتاح على الثقافات المختلفة… إلخ، وهذا يُفسِّر الاختلافات الكبيرة والتنوُّع الفكري بين البشر، وحتى اختلاف آرائهم و تصرُّفاتهم تجاه الموقف الواحد.
وفي هذا السياق، يحدث أن يُظهِر الفرد ميولًا نحو تفسيرات أو آراء معيَّنة تجاه قضية أو موقف بناءً على تلك الخلفية الفكرية الخاصة به، بحيث تؤثِّر هذه الميول في قدرته على اتخاذ قرارات بعيدة عن الحُكم المسبق والتأثيرات الخارجية، تلك الحالة التي يوصَف فيها الفرد بكونه «مُنحازًا».
وعليه، فإن مُصطلح «الانحياز» يشير إلى إظهار تفضيل لمنظور أو أيدولوجية مُعيَّنة عند إصدار الأحكام والأفعال، أو تحديدًا عندما تتدخَّل تلك التفضيلات الشخصية لتؤثِّرعلى النزاهة والموضوعية؛ بطريقة أخرى يمكننا القَول أن الإنحياز هو الحُكم من منظور واحد مما يؤدي إلى عدم الدقة في الحكم ووجود أخطاء، وفي علم النفس الاجتماعي تُعرف هذه الظاهرة باسم «الانحياز المعرفي-cognitive bias».
«تأثير الهالة – Halo effect»:
لفهم الانحياز المعرفي بشكل أعمق يمكننا أن نلقي نظرة على ظاهرة «تأثير الهالة» التي تعتبر أحد الأشكال التطبيقية للانحياز المعرفي، وهي تشير إلى الأفراد الذين يميلون إلى الحُكم على الأشياء أو الأشخاص بشكل كُلّي، فهي إما أن تكون جيدة تمامًا أو تكون سيئة تمامًا. على سبيل المثال؛ فإن مشاعرهم الإيجابية تجاه المظهر الحسن لشخص ما تنعكس على الصفات الأخرى لهذا لشخص حتى لو كانت تلك الصفات لا علاقة لها بحُسن المظهر، فهُم يفترضون أنه بالضرورة مُجتهد في أداء عمله ويُحقق الكثير من الإنجازات.
«إدوارد لي ثورندايك – Edward L. Thorndike»، عالم النفس الأمريكي، كان أول من دعم تأثير الهالة بالأبحاث التجريبية، وذلك في دراسة نُشِرَت عام 1920م حيث طلب ثورندايك من القادة العسكريين أن يقيّموا جنودهم في مُختلف النواحي؛ بنية الجسم والذكاء، والقدرة على القيادة والشخصية، وعند الحصول على النتائج لاحظ وجود ارتباط عالٍ في التقييم بين كل الصفات الجيدة وبين كل الصفات السيئة. فعلى ما يبدو هناك شريحة كبيرة من الناس لا يعترفون بنسبية الصفات واختلاطها عند الحُكم على غيرهم، بدلاً من ذلك يميلون إلى التصنيف الحاسم ناحية الجيد أو السيء عبر كل درجات المقياس.
أنواع الانحياز المعرفي:
توجد قائِمة طويلة تحتوي عدة أنواع من الانحياز المعرفي تصل إلى 100 نوع مُختلف، في هذا المقال سنركِّز على عدد محدود منها، وبشكل خاص سنركِّز تحديدًا على تلك التي تمَس حياتنا بشكل مُباشر؛ وهيَ الأنواع التي لها التأثير الأكبرعلى اتخاذ القرارات وقد تؤدي في أحيانٍ كثيرة إلى اختيارات خاطِئة وقرارات غير سليمة.
1- الارتساء أو وهم التركيز «Anchoring effect»:
«تأثيرالارتساء» معناه أن يعتمد الشخص بشكل كبير جدًا في اتخاذ القرار أو تشكيل وجهة النظرعلى أول معلومة أو جزء بسيط من المعلومات تصل إلى مسامعه، وتسيطر تلك المعلومة على صناعة القرار دون النظر إلى الجوانب الأخرى، فبمجرَّد أن يرسَخ هذا التأثير يبدأ بتشكيل انحياز نحو تفسير- وأحيانًا تعديل- المعلومات الأخرى لكي تتماشى مع المعلومة الأولى وتؤكِّدها.
2- التوافر الإرشادي «Availability heuristic»:
هذا المصطلح يشير إلى الناس الذين يبالغون في تقدير أهمية المعلومات المُتاحة لهم فقط لأنهم يملكون تلك المعلومات، فهُم يميلون إلى وضع توقُّعات وتعميمات ليحصلوا على أمثلة تدعم أو تنفي شيئًا ما. مثلًا، قد تجد شخصًا يظن أن التدخين لا يضر بصحته لأن جده الذي كان مُدخِّنًا شَرِهًا عاش لـ 89 عامًا.
3- تأثير عربة الموسيقى «Bandwagon effect»:
هذا التأثير هو أحد أقوى أشكال التفكير الجَمعي، ومعناه أن يتبنى الفرد اعتقادًا يعتمد فيه بشكل أساسي على كثرة عدد المؤمنين بهذا الاعتقاد، وقد أظهرت الأبحاث كيف يُمكن لهذا الانسجام الاجتماعي أن يُشكِّل الطريقة التي يفكِّر ويتصرَّف بها الناس، وفي الواقع أن هذا قد يُفسِّر الإقبال على بعض أشكال الموضة الحديثة في الأزياء مثلًا، أو حتى بعض البِدَع الشعبية، وقد يصل التأثير أبعد من ذلك إلى أن يصل إلى تصويت الجماهير على القضايا الهامة! فقد وُجِدَ أن بعض الناخبين يُفضِّلون- ببساطة- مُحاكاة اختيارات الآخرين عوضًا عن دراسة الاختيارات وجمع المعلومات قبل التصويت.
4- انحياز النقطة العمياء «Blind spot bias»:
إن الفشل في إدراك انحيازاتك المعرفية الشخصية هو إنحياز في حد ذاته، وفي العادة يلاحظ الناس تلك الانحيازات المعرفية في غيرهم أكثر بكثير مما يلاحظونها في أنفسهم.
5- الانحياز لإيجابيات الاختيار «Choice supportive bias»:
عندما يختار الناس شيئًا ما فإنهم يميلون إلى التفكير في إيجابيات اختيارهم ويغضون الطرف عن سلبياته، فمثلًا لو كنت تحب الكلاب وتفكِّر في اقتناء واحد فإنك ستتغاضى عن بعض عيوبه، كمقدرته على أن يقوم بعَضّ الناس أحيانًا.
6- وهم التشابُك «Clustering illusion»:
يُعرف بأنه ميل الناس إلى التركيز على الأنماط المتكررة في الأحداث العشوائية وبناء آرائِهم عليها، فهُم يجمعون عينات صغيرة من المعلومات المشتركة في تلك الأحداث ويجدون رابطًا بينها. «توماس جيلوفيتش – Thomas Gilovich»، أستاذ علم النفس بجامعة كورنيل في أمريكا، وجَد أن فئةً كبيرة من الناس يعتقدون بوجود تسلسل أو ترابط مُحدد بين بعض الأحداث التي تبدو لهم غير عشوائية، ولكن في الواقع تكون تلك الأحداث لديها العديد من الصفات التي تمنحها سمة العشوائية إلى حد كبير.
7- الانحياز التأكيدي «Confirmation bias»:
أحد أهم أنواع الانحياز المعرفي وأكثرها انتشارًا، ويشير إلى مَيل الناس نحو سماع المعلومات التي تؤكِّد أفكارهم المُسبقة أو فرضياتهم وقناعاتهِم فقط بغض النظر عن كونها معلومات صحيحة أم لا، وكنتيجة لذلك فإنهم يجمعون الأدلة ويتسحضرون المعلومات من الذاكرة بشكل انتقائي ليؤكِّدوا صِحة أفكارهم بصورة متحيِّزة، ويتجاهلون البحث وراء المعلومات التي قد تُضعِف تلك الأفكار أو تُعارضها.
الانحياز التأكيدي يظهر بصورة واضحة في القضايا المرتبطة بالعاطفة تحديدًا، وفي الجدليات المُتعلِّقة بالقناعات الراسخة لدى الأشخاص، ويؤثِّر على التعاطي مع المعلومات بشكل سليم، وبالتالي يؤثِّرعلى السلوك وقد يؤدي إلى قرارات كارثية، خاصةً في المجال التنظيمي أو العسكري أو السياسي.
8- الانحياز نحو المُحافظَة «Conservatism bias»:
يُفضِّل الناس الركون إلى الأدلة السابقة القديمة على تصديق الأدلة أو المعلومات الجديدة التي ظهرت حديثًا، والتي ربما تُخالف تلك الأدلة القديمة.
من أشهر الأمثلة بهذا الصَدد: الناس في العصور الوسطى الأوروبية الذين استغرقوا وقتًا طويلًا وواجهوا صعوبة بالغة للاعتقاد في كروية الأرض، وهو ما يُخاِلف الاعتقاد القديم بأن الأرض مُسطَّحة.
9- الانحياز المعلوماتي «Information bias»:
هو سعي البشر إلى معرفة قدر كبير من المعلومات حتى لو لم يكن لها إنعكاس مؤثِّر في أفعالهم، كثرة المعلومات ليست دائمًا شيئًا جيدًا، بل أحيانًا تكون المعلومات القليلة أفضل في مساعدة الناس على اتخاذ قرارات أكثر دقة وتنفيذها في الواقع العملي.
10- انحياز النعامة «Ostrich effect»:
هو ميل الناس إلى تجاهل السلبيات على طريقة النعامة التي تدفن رأسها في الرمال عند استشعار الخطر، فهُم لديهم اعتقاد خاطىء بأن مشاكلهم سوف تنتهي إذا قاموا بتجاهلها بدلًا مواجهتها ومحاولة حلِّها، كمثال على ذلك فقد أظهرت الأبحاث أن المُستثمرين يتفقدون قيمة أرصدتهم بشكل أقل بكثير في حالة أزمات السوق، فهُم يحاولون بذلك تجاهُل أثرها السلبي عليهم.
11- الانحياز للنتائِج «Outcome bias»:
يمكن أن يتلخَّص هذا النوع في مقولة الفيلسوف الإيطالي «نيكولو ميكافيلي» في كتابه المشهور «الأمير»: «الغاية تُبرر الوسيلة»، حيثُ يميل البشر إلى اتخاذ القرارات بناءً على النتائِج التي ستُحققها بغض النظر عن الكيفية التي ستتم بها تلك القرارات والطريق الذي سيسلكه لتنفيذها، فعندما يكسب شخص ما مبلغًا كبيرًا من المال بعد المقامرة، فإن هذا لا يعني بأن مخاطرته بالدخول في تلك المقامرة كانت فِعلاً صحيحًا.
12- انحياز الثقة العمياء «Overconfidence»:
البعض منا لديه ثقة كبيرة بقدُراته، وهذا قد يجعلنا نقوم بمخاطرات كبيرة في حياتنا اليومية، وفي العادة يكون الخُبراء أكثر عرضة لهذا الانحياز من الأشخاص العاديين، لأنهم دائمًا على ثقة بصحة آرائِهم.
13- تأثير الوهم «Placebo effect»:
في عالم الدواء كلمة «placebo» تعني جرعة غير مؤذية لا تحتوي على أي تأثير علاجي، ولكنها تُستخدم لدراسة التأثير النفسي على المريض بعيدًا عن أي تأثير فسيولوجي حقيقي، وعليه فإن هذا النوع من الانحياز يُشير إلى اعتقاد الناس في أثر شيء ما عليهم، والذي لا يكون حقيقيًا، ولكنه نشأ نتيجة لمعتقد كاذب أو أفكار خاطِئة أدَّت إلى توهُّم حدوث هذا التأثير كنتيجة.
14- انحياز الابتكار «Pro- innovation bias»:
هو انحياز المؤيدين لابتكار أو اختراع ما، بحيثُ يبالغون في تقدير أهميته ويتجاهلون عيوبه أو محدوديته، المبتكرون في مجال السليكون مثال على ذلك.
15- انحياز الحداثة «Recency»:
يشير إلى المُبالغة في تقدير المعلومات الجديدة بشكل أكبر من اللازم وتفضيلها عن كل ما هو أقدم، بعض المُستثمرين قد يتخذون قرارات غير حكيمة بسبب اعتقادهم أن السوق سيظل على نفس شكله الحالي في المُستقبل.
16- الانحياز نحو الأشياء البارزة «Salience»:
هو ميل الناس نحو التركيز على أكثر السمات وضوحًا وبروزًا في الأشخاص أو المفاهيم، ومن ثم استخدامها للحُكم على المواقف والأشخاص، وقد ينشأ هذا الانحياز نتيجة لعوامل عاطفية أو إدراكية وليس بالضرورة أن يكون مرتبطًا بعوامل فيزيائية ملموسة.
كمثال على ذلك: عندما يُشاهد شخص ما عدة نشرات إخبارية عن حدوث أعمال عُنف في المدينة التي يسكن بها، فإن هذه المعلومات عن العُنف تصبح بارزة جدًا في تفكيره فتؤدي إلى عدم شعوره بالأمان أثناء مغادرته للمنزل، على الرغم من أن احتمالية تعرُّضه لهذا العنف لم تتغير.
17- انحياز الإدراك الانتقائي «Selective perception»:
هو السماح لتوقُّعاتنا المُسبقة بالتأثير على طريقة إدراكنا لما حولنا، فنقوم باستقبال المعلومات التي نُريدها فقط ونتجاهل وجهات النظر الأُخرى. وفي تجربة تتضمن مباراة كرة قدم بين فريقين لجامعتين مُختلفتين، وُجِد أن مُشجعي كل فريق يُلاحظون أخطاء الفريق الآخر ويتجاهلون الأدلة التي تعارُض ما يريدون رؤيته.
18- انحياز الصورة النمطية «Serotyping»:
معناه توقُّع صفات معينة في شخص أو مجموعة دون أن يكون لديك معلومات حقيقة كافية عن هذا الشخص كفرد مُستقل بذاته، وهذا التوقُّع قد يكون بشكل أساسي بسبب أفكار مسبقة أو شيوع نمط ظاهري مُعين عن فئة معينة، وهو في أحيان كثيرة يُسبِّب التسرُّع في الحكم على الأشخاص ويؤثِّر في التفاعل مع الغرباء، حيث يسمح بتصنيفهم إلى أصدقاء أو إلى أعداء يجب تجنُّبهم، وهو الحكم الذي قد لا يكون دقيقًا.
19- انحياز البقاء «Survivorship bias»:
هو الميل إلى التركيز على النماذج الناجحة فقط، مما يؤدِّي إلى عدم الدقة في الحُكم على الأمور، فقد تظن أن القيام بعملٍ ما هو أمر سهل للغاية فقط لأنك لم تسمع بكل أولئك الذين فشلوا فيه.
20- انحياز عدم المخاطرة «Zero-risk bias»:
وجد عُلماء النفس أن الناس يحبون «اليقين» ويشعرون معه براحة أكبر، فعدم وجود أي مُخاطرة يضمن لهم عدم حدوث أذى أو ضرر غير متوقَّع.
يبدو جليّاً أن هناك العديد من التعقيدات والعوامل العاطفية التي تمنع الانسان من رؤية ما قد يكون واضحًا أمامه، وأننا نميل في كثير من الأحيان إلى التركيز على جانب واحد من المشهد، بل إن انحيازاتنا قد تعمينا عن وجود الأخطار الوشيكة، كما يبدو جليّاً كذلك أنه من الصعب جدًا وجود شخص عقلاني مُحايد بنسبة 100%.
من المُهم أن نفهم انحيازاتنا الشخصية ونعترف بوجودها، وأن نتعلَّم كيف نحد من آثارها السلبية على أفكارنا وتصرُّفاتنا في المواقف المختلفة، فليس من السليم أن يتلاشى صوت العقل أمام المشاعر والأحاسيس الشخصية عندما يتعلَّق الأمر بمواقفنا والأحكام التي نُصدرها، وأيضًا المُراجعات الفكرية من حين لآخر وسماع وجهات النظر المُختلفة، وتذكَّر دائمًا أن المُشكلة ليست في وجود قناعات أو آراء شخصية، وإنما المشكلة تكمُن في الجمود والتحيُّز اللذان قد يمنعان من مراجعة تلك الآراء وتعديلها حينما يكون ذلك ضرورة لا غِنى عنها.
_______________________________________________________
إعداد و تصميم: يُمنى أكرم
مراجعة علمية: ماريا عبد المسيح
مراجعة لغوية: Mohammad Marashdeh
المصادر:
http://psychcentral.com/encyclopedia/bias/
http://psychology.wikia.com/wiki/Cognitive_bias
http://psychology.wikia.com/wiki/Halo_effect
https://www.psychologytoday.com/blog/the-big-questions/201606/bias-about-bias
https://www.psychologytoday.com/blog/science-choice/201504/what-is-confirmation-bias
http://psychology.wikia.com/wiki/Confirmation_bias
http://mentalfloss.com/article/68705/20-cognitive-biases-affect-your-decisions
http://psychcentral.com/blog/archives/2013/07/27/the-anchoring-effect-how-it-impacts-your-everyday-life/
http://psychology.wikia.com/wiki/Anchoring
http://psychcentral.com/encyclopedia/availability-heuristic/
http://www.alleydog.com/glossary/definition.php?term=Ostrich%20Effect
http://www.alleydog.com/glossary/definition.php?term=Saliency%20Bias
https://goo.gl/G8OzSj
https://www.psychologytoday.com/blog/media-spotlight/201512/riding-the-bandwagon-effect