نصل في هذا المقال إلى ختامِ تلك السلسلة القصيرة التي حاولنا فيها أن نُلخص سيرةَ المدارس التي اِهتمت بدراسة وتفسير التاريخ الإنساني، وفي هذا الجزء الأخير نناقش آخرَ تلك الاتجاهات، وسنحاول في آخره أن نجيبَ على السؤال الذي بدأت به تلك المقالات.. كيف نقرأ التاريخ؟ وهل هناك طريقةٌ مُفضَّلة لذلك؟
سادسًا: الاتجاه النفسي في تفسير التاريخ (الفرويدية)
برزت الفرويدية –نسبةً إلى فرويد- كمنهجٍ للدراسة التاريخية في ثلاثينيات القرن الـ20، إلَّا إنها لم تكن الأولى التي اهتمت بالجوانب النفسية في التاريخ؛ حيث نجد مساهماتٍ مُهمة في هذا المجال لدى المُفكِّرين الإغريق القدماء أمثال أرسطو وثوسيديديس، ويُعدُّ العالم النمساوي سيجموند فرويد وتلميذه (كارل يونج –Carl Jung) هم أهم مُنظِّري هذا الاتجاه حديثًا(13).
رفعت الفرودية شعار أن العقل وحده ليس ما يُحدِّد سلوكَ الإنسان، بل يشترك معه الّلا وعي في ذلك، فالتاريخ وفقًا لهذا التفسير، هو دراسةٌ للدوافع النفسية التي تُحرِّك أشخاص التاريخ، فالإنسان دائمًا هو محور التاريخ، حيث يحاول المنهج أن يجمع بين التأثيرات الاجتماعية والشخصية للإنسان كالأبوة والأمومة وغيرها، وبين السلوكيات الاجتماعية في فتراتٍ لاحقة؛ فالدافع للغزو أو الحرب قد يكون مَبَعَثه إساءة معاملة أو قسوة تَعرَّض لها الشخص سابقًا.
يسعي المنهج أيضًا لفهم دوافع مجموعاتٍ كبيرة، بما في ذلك الدول، في التاريخ وفي الشؤون الجارية. وذلك بتحليل الخطب السياسية، والرسوم السياسية وعناوين وسائل الإعلام، والاستعارات والكلمات المتكررة التي تُقدِّم أدلةً على تفكير العقل الباطن وسلوكياته في فترةٍ ما. ومن أهم مبادئه أنه يعتبر الماضي والحاضر متداخلان وليسا منفصلين.
أخذ بعضهم على هذه المدرسة عِدَّةَ أشياءٍ ومنها: أن المؤرخ الفرويدي اعتبر وجودَ طبيعيةٍ بشريةٍ واحدة عبر العصور، وأيضًا أنه إذا جاز تطبيق هذا التفسير على الأفراد فإنه لا ينطبق بالضرورة على الجماعات بنفس الصورة، بالإضافة إلى تركيزه على شخصياتٍ وحالاتٍ استثنائية وإهماله الأشخاصَ العاديين، وأخيرًا كان أبرز مأخذ هو أن المنهج أعطى أهميةً مُطلقةً للّا وعي على حساب حرية الأفراد، مما يجعل الإنسان رهينة لعقله الباطن طبقًا لهذا النقد(14).
سابعًا: التفسير البيولوجي للتاريخ (شبلنجر)
قام شبنجلر (1880-1936) بنقد نظرية التقدم، والعناية الإلهية، في تفسير التاريخ، وقدّم منهجًا جديدًا في تفسير التاريخ، ويعتبر أن الحضارة -وليس الدولة- هي وحدة الدراسة التاريخية، وأن حضارة أيّ جماعة تتبلور في دينها وفلسفتها وفنونها، وتُشكِّل لها شخصيتها.
واعتبر شبنجلر أن الحضارات مُغلقة تتوالى عليها الفصول الأربعة، ومن خلال تَتَبُّع مسار أيِّ حضارة نعرف ما قطعته من أطوارِ حياتها، وبالتالي نُحدِّد ما تبقى لها من عمر. كان شبلنجر يرى أن الحضارة تنحط عندما تنحدر طبقة النبلاء، وهو بذلك متأثر بأفكار نيتشه(15).
يؤكد هذا المنهج أن الحضارة هي وحدة الدراسة التاريخية، لأن الحضارة هي ظاهرة روحية لجماعةٍ من الناس لها تصوُّرٌ مُوَّحد عن العالم، ويتبلور هذا التصور في تفاعلاتهم ومظاهر حضارتهم. لذا، فلكل حضارةٍ سماتها الذاتية الخاصة التي تختلف عن غيرها من الحضارات، وتاريخ العالم يتكوَّن من وضع تلك الحضارات إلى جانب بعضها بعضًا، ورغم كون كل منها مستقلة عن الأخرى، فهذا لا ينفي وجودَ بعض العناصر المتشابهة بينها يمكن المقارنة على أساسها.
تُمكِّن المقارنة من وضع أنماطٍ يُمكن من خلالها التعرف على أحداثٍ ماضية كانت مجهولة، والتنبؤ بالمستقبل عن طريق تتبع سياق تطور الحضارة ومسارها.
ثامنًا: الاتجاه الحضاري في التفسير (التحدي والاستجابة عند توينبي)
اعتبر توينبي (1889-1975) أن تاريخ كل أمة كان استجابةً لتحدي الظروف التي وُجِدَت فيها، وذلك لأن كل مخلوق بمجرد ولادته، يجد نفسه أمام عوامل تعمل على فنائه والقضاء عليه، والإنسان بدوره يبدأ المواجهة، فإما أن يتغلب ويتنتصر، وإما العكس.
درس توينبي التاريخ على أنه كل واحد، أو تجربة واحدة تمت على مراحل أو دورات. وبالفعل درس توينبي تجارب الأمم الشرقية، والهنود الحمر، وجاءت دراسته عن إحساسٍ عميقٍ بوحدة الإنسانية، استنتج أن الأمم تتقدم ما دام قادتها محتفظين بقدرتهم على الاستجابة الإبداعية أو الخلَّاقة. ورأى توينبي أن الحضارة يمكن أن تستمر في الاستجابة الخلاقة ولا تموتُ أبدًا.
ويضع توينبي العواملَ الفكرية والروحية في المقدمة من عوامل تحريك التاريخ، ويرى ذلك المنهج أن الحضارات التي يضمحل بنيانها تنتقل تجربتها للأمم الأخرى، ورغم تعويله على دور القادة والنُخب، إلَّا إنه اعتبر أن الحضارة لا تتجلَّى في مبتكراتِ العباقرة، قَدْرَ ما تتجلَّى في معيشة الناس، ولذلك لم يتحمس لعصرِ النهضة رغم أنه أنجب أنجلو ورفائيل، لأن الفلاح الإيطالي كان يعيش أتعس أيامه خلال هذا العصر.
التاريخ عند توينبي هو سلسلةٌ من التحديات والاستجابات، وهي نوعان: تحدياتٌ بشرية وأخرى طبيعية، ويؤكِّد على أهمية الأديان في بناء الحضارات، ويُقلِّل من أهمية الجغرافية والعِرق. أدانَ الحروب والدكتاتوريات، ورأى أنها السبب الرئيسي لسقوط الحضارات(16).
ختامًا.. كيف نقرأ التاريخ؟
يأخذ التاريخ شكلَ نسيجٍ هائل التعقيد من العوامل التي تلعب مع بعضها، وضمن قوانين بالغة الصرامة، ولكنها في الوقت نفسه بالغة الحرية لتصنع التاريخ البشري. ليس بوسعنا أن نضع قانونًا واحدًا لحركة التاريخ، وما ظهر من تعميماتٍ ورؤًى تتناول عددًا من القرون، أو منطقةً من الأرض، أو لونًا من ألوان الحضارة.
لكن هل معنى هذا أن القانون غير موجودٍ في التاريخ؟
كلا، التاريخ يخضع لقانون، لكن المشكلة هي مقدرتنا على كشف هذه القوانين.
وعلى أيِّ حال، فإن مسألة عدم وجود القانون لا تُلغي قيمة التعميمات والتفسيرات التاريخية التي اتخذت شكل اتجاهات ونظريات عامة في التفسير. يسيء الكثيرون الفهم عندما يتصورون أنه يمكن التوصل إلى حقيقةٍ واحدة واضحة ومُفصَّلة ونزيهة عن حادثة تاريخية معينة، أو شخصية بارزة عاشت في زمنٍ آخر. فالحقيقة الوحيدة هي أنه لا وجود لتلك الحقيقة الواحدة السليمة المُنزَّهة، بل هي لا توجد في أي علمٍ اقترن به لفظ «إنسان» في اِسمه أو محتواه. لذا علينا دائمًا أن نفتح عقولنا لنتقبل دائمًا كل جديد، وننظر إلى ما تعلمناه لنستفيد من أخطاء الماضي ونعرف أوجه القصور فينا، لعلَّنا يومًا نصل إلى تلك الطريقة المثالية. ولكن حتى تأتي هذه اللحظة، فإن الجواب على ذلك السؤال الذي طرحناه في البداية هو أنه ليس هناك منهجٌ أوحد أو سبيلٌ أفضل عند قراءة تاريخ البشر وتفسيره، ذلك لأن البشر لم يكونوا أبدًا مثاليين، وكذلك تاريخهم!
رابط الجزء الأول:
https://www.egyres.com/articles/مدارس-تفسير-التاريخ-الجزء-الأول-الدي
رابط الجزء الثاني :
https://www.egyres.com/articles/مدارس-تفسير-التاريخ-جـ-2-عصر-العقل
المصادر :
.13التيمومي، مرجع سابق، 164
.14 زناتي، مرجع سابق، 113
.15زناتي، مرجع سابق، 119
.16زناتي، مرجع سابق، 127
#الباحثون_المصريون