يقول الاقتصادي الشهير راسيل روبرت (Russell Roberts) يُعاني أولادي الثلاثة الذين تترواح أعمارهم بين السابعة والثانية عشرة من حالة مزمنة، سمعت وصفاً لها من الخبير الاقتصادي جون بايد والذي بدوره أطلق عليها (ولع المعادن)، وهي حب أي شيء مصنوع من المعدن، فهم مفتونون بالسيارات والشاحنات والجرافات والجرارات وما الى ذلك.
وفي يوم ما اقترح ابني الأوسط أن تكون سيارتي القادمة ذات سقف متحرك يمكن تحويلها إلى سيارة مكشوفة بسحب السقف. فقال شقيقه: إنها باهظة الثمن، وأن هناك طراز بغطاء متحرك يصل إلى 10.000 دولار، فسأل شقيقه، لماذا هي أكثر تكلفة؟ انه سؤال رائع وذكي للغاية، لماذا السيارة ذات السقف المتحرك أغلى من ذات السقف العادي؟ ولماذا الفلفل الأحمر أغلى من الفلفل الأخضر؟ لماذا تكون تكلفة البنزين في فصل الصيف أغلى من تكلفته في فصل الشتاء؟ لماذا البنزين أكثر تكلفة في أوربا عن الولايات المتحدة؟ لماذا يكون الورد أكثر تكلفة يوم 14 فبراير؟ لماذا البيرة أكثر تكلفة يوم الأحد؟ لماذا تكلفة المنازل في ضواحي العاصمة واشنطن أكثر تكلفة من المنازل في ضواحي ريتشموند أو فيريجينيا؟
كيف يتم تحديد الأسعار
غالبًا ما تكون الإجابة على هذا النوع من الأسئلة أصعب قليلاً مما تبدو، ولكن دعك من الأجوبة في الوقت الحالي، لاحظ فقط أنك تستطيع طرح الأسئلة وهذا شيء عظيم، فهناك إمكانية للتنبؤ بالأسعار، حيث أنها لا تتغير على نحو مرتب ومنتظم وإنما يمكن للأسعار أن تأخذ خليطاً عشوائيا تماماً. فتكون مرتفعة يوماً ومنخفضة في اليوم التالي. ففي بعض الأيام يمكن أن تكلّفك تذكرة السينما أكثر من ثمن قميص اكسفورد، ويمكن أن يكلفك البرتقال أكثر من ربع لتر من الحليب، إذن ما هو مصدر هذا الاختلاف؟ أو بالأحرى، من أين تأتي الأسعار؟
تبدو الإجابة للوهلة الأولى واضحة للغاية، فببساطة شديدة البائع هو من يحدد السعر. ولكن إذا مررت بتجربة أنك تحاول أن تبيع شيئاً ستُدرك أن ذلك ليس صحيحًا على الإطلاق، فلنفترض مثلًا أنك تحاول بيع منزلك، فبالطبع يمكنك أن تضع الرقم الذي تريده على القائمة، وبالطبع أيضاً كل منزل له صفاته التي تميزه ويتفرّد بها عن المنازل الأخرى، ولكن في كل الأحوال عليك أن تجد شخصاً واحدًا يحب منزلك ليشتريه، شخص يحب الطريقة التي صممت بها مطبخك والطريقة التي نسقت بها حديقة منزلك ومئات الأشياء الأخرى التي تجعل أي منزل مميزًا، ووفقا لهذه الفكرة، يمكنك بالطبع أن تطلب سعرًا مرتفعًا للغاية مقابل منزلك، لأنه كما أشرنا كل ما تحتاج إليه هو شخص واحد على استعداد لدفع هذا السعر المرتفع.
ولكنك سرعان ما ستجد أنك إذا اخترت سعرًا مرتفعًا للغاية، فلن تبيعه، حتى لو وُجِد ذلك الشخص الذي صادف أنه يحب منزلك ويرغب في دفع 500000 دولار أمريكي مقابل شراءه، فهو بالطبع لن يشتريه إذا وجد منزلًا آخر بنفس جمال وجاذبية منزلك ولكن بسعر 300000 دولار، لأن القيمة الاضافية للمشتري في هذه الحالة إذا ما اشترى المنزل الآخر هي 200000 دولار، وبالتالي لن يُباع منزلك. فالناس لا يدفعون ما هم على استعداد لدفعه ما لم يضطروا لذلك، أما اذا كان لديهم بدائل أخرى متاحة فلن يضطروا لذلك. فالمنافسة تحمي المشتري كما تحمي كذلك البائع، فلنفترض أنك كنت تنوي بيع منزلك بمبلغ 100000 دولار، فإذا علمت أن هناك منازل مشابهة لمنزلك تباع ب 300000 دولار لن تفعل ذلك بالتأكيد.
البائعون والوكلاء العقاريين يفهمون هذه المعادلة جيداً، إن أي منزل يعتبر في منافسة مع المنازل الأخرى، بما فيها تلك المنازل التي تعتبر أقل جمالًا من منزلك والأكثر جمالًا أيضًا، لذا فإن البائعين ووكلاء العقارات ينظرون إلى سعر المنازل المنافِسة التي تكون في نفس الحي بنفس عدد الغرف، وتقريبا نفس نفس الحجم والمساحة ونفس كمية السحر والجاذبية التي يمتاز بها منزلك والتي هي كلها صفات مميزة وموضوعية.
قانون العرض والطلب
ولكن لنفترض أنه تم بالفعل تحديد سعر منزلك من خلال أسعار المنازل المماثلة، فما الذي يحدد أسعار تلك المنازل المماثلة؟ يبدو الأمر لوهلة أن كل شيء يدور في دائرة متصلة، فالأمر كله مترابط تمامًا، إذًا ما الذي يجمع سوق العقارات مع بعضه البعض؟
الإجابة واحدة وهي أنه بالنسبة لسلعة محددة بجودة محددة -على سبيل المثال- منزل من أربع غرف نوم في ضاحية مورقة في واشنطن العاصمة بمنطقة بها مدرسة جيدة في شارع هادئ، في هذه الحالة يتغير السعر ليوازن بين عدد الناس الراغبين في البيع وعدد الراغبين في الشراء.
فالسعر إذًا هو ما يوازن بين مقدار ما يود الناس بيعه وما يود الناس شراءه، فإذا كان الناس يريدون أن يشتروا أكثر ممّا كانوا يشترونه من قبل ارتفعت الأسعار، والعكس صحيح إذا ما أراد الناس بيع اكثر ممّا كانوا يبيعونه من قبل انخفضت الأسعار.
بصيغة أكثر تخصصاً إنه العرض والطلب، فالمشترون يتنافسون مع بعضهم البعض، والباعة يتنافسون مع بعضهم البعض. وتنتج الأسعار التي نراها من خضم هذه المنافسات.
ولكن الجواب بكلمتي (العرض والطلب) هي إجابة غريبة نوعًا ما، لأنها تفترض أننا نستطيع التحدث عن سلعة محددة بجودة محددة، ولكننا نرى في العالم الحقيقي أن كل سلعة تمتلك بعض الصفات التي تميّزها عن غيرها، حتى تلك السلع المتطابقة تماماً، فمن المؤكد أنها ستكون مرتبطة بمستويات مختلفة من الخدمة.
والجواب بكلمتي (العرض والطلب) إجابة غريبة أيضًا لأنها تفترض أننا نسطيع الحديث عن سعر واحد بعينه، مثلاً سعر قميص قطن بنسبة 100%، أو سعر سيارة مريحة بأربعة أبواب تقطع 25 ميلا للجالون، أو سعر ذاك البيت المكون من أربع غرف، ولكن في العالم الحقيقي دائماً ما يكون هناك أسعار متعددة للسلعة الواحدة، وهناك أيضاً مساومات وصفقات ومبيعات، فيقوم البائعون والمشترون بما يبدو أنه تجارية، فيبيعون بأسعار قليلة جداً عن السوق أو بأسعار مُبالغ فيها.
كما أنها إجابة غريبة لأن رغبات الناس ومواقفهم ودخولهم وبدائلهم تتغيّر باستمرار، وبالتالي فإن الكميات التي يرغب الناس في شرائها وبيعها لا يمكن أن تكون ثابتة على الاطلاق، حتى لو ظننت أنك بامكانك التحدث عن السعر فهو أيضاً متغير باستمرار.
وهي إجابة غريبة لأنها تتطلب الكثير من المعلومات الدقيقة للغاية، وإلا كيف ستتمكن من من تحديد السعر إذا كنت أنت البائع، أو كيف ستقرر قبول المبلغ المطلوب من عدمه إذا كنت أنت المشتري؟
تؤدي غرابة قانون العرض والطلب إلى استنتاج البعض أنه قانون لا يسير إلا على بعض الحالات الخاصة من السلع المتجانسة، حيث يكون هناك عدد محدد من البائعين، وحيث توجد أيضاً معلومات دقيقة للغاية عن نوعية وأسعار كل السلع والبدائل، وعليه، فمن الممكن ان يسير قانون العرض والطلب على القمح مثلاً.
أما الرأي البديل فيرى أن قانون العرض والطلب قانون غير واقعي، وإلا فلا توجد طريقة لفهم المعاملات التي لا تُعد ولا تُحصي التي تحدث باستمرار، حيث يجب أن يكون هناك صورة واقعية لكل عملية فردية في سوق العقار تحدث في العاصمة واشنطن، إن ذلك لن يكون مستحيلاً فحسب، بل إنه غير مفيد ايضاً، فما اذاً العلاقة بين كل هذه المعاملات؟
قانون العرض والطلب هو طريقة لرؤية العلاقة التي تتجاهل كل شيء باستثناء حقيقة ان ما يرغب الناس في دفعه وما يجب عليهم دفعه يعتمد في المقام الأول على البدائل، فقانون العرض والطلب هو طريقة لتنظيم تفكيرنا حول ذلك الشيء الغريب الذي يُطلق عليه الاقتصاديون «السوق والمنافسة»، دعونا الآن نُعمِل آلية العرض والطلب بدون أن نستخدم الرسم البياني ونرى ماذا سيحدث.
واحدة من أهم مميزات العرض والطلب هو أنه يُجبرك على تذكر ما أطلق عليه الاقتصادي ألفريد مارشال (Alfred Marshall) علاقة (طرفي المقص)، حيث أنه- ومع بعض الاستثناءات القليلة- يلعب كل من المشترين دورًا هامًا في تحديد الأسعار، عندما سألني ابني لماذا تكون السيارة ذات السقف المتحرك باهظة الثمن؟ أوضح شقيقه لأن الناس يحبونها للغاية، إذاً ها هو جانب الطلب في المعادلة، لكن بالتأكيد لا يمكن ان تكون هذه هي القصة بأكملها أو حتى معظمها، فمكن المؤكد أن هناك الكثير من الناس يعيشون في مناخات أكثر برودة أو حتى مناخات حارة حيث تكون قيادة السيارات ذات السقف المتحرك أمر غير مرغوب فيه. إذاً لماذا تظل السيارات ذات السقف المتحرك باهظة الثمن؟ إنها التكلفة، نعم فهي أكثر تكلفة من السيارات العادية بسبب آلية التصنيع التي تتيح للسائق سحب السقف في أي وقت، ولذلك فان سعرها أغلى بكثير من السيارات العادية.
كذلك ينطبق نفس المنطق على الفلفل الأحمر والأخضر، لماذا الفلفل الأحمر أكثر تكلفة دائماً من الفلفل الأخضر؟ لماذا هناك علاقة بين السعرين من الأساس؟ فلو فكرنا في الأمر سنجد ان الفلفل الأخضر يتم استخدامه في الكثير من عمليات الطهي الصناعي لعمل نكهات مكثفة، ألا يجب بذلك ان يكون الفلفل الأخضر أغلى؟ ولكن اتضح ان الفلفل الأحمر ما هو الا فلفل أخضر ناضج، البائع دائماً ما يفضل المال اليوم على المال غداً بمنطق أن المال اليوم يمكن استثماره لكسب فائدة عليه، فلو كان الفلفل الأخضر والفلفل الأحمر يباعان بنفس السعر فلن يكون هناك بائع على استعداد لتقديم فلفل أحمر مرة أخرى. ولذلك يجب ان يباع الفلفل الاحمر بسعر اغلى.
إنها الأسعار، الأسعار غير ثابتة على الإطلاق، قانون العرض والطلب يساعدنا على تذكر ذلك دائما.
واحدة من أبسط الأمور التي تترتب على قانون العرض والطلب هي توافر السلع في السوق باستمرار. فعندما يريد الناس المزيد من سلع محددة، نادرًا ما يشتري المشترون الأكثر حماسًا كل الكمية المعروض في السوق من هذه السلع. فالأسعار تعمل على تحقيق التوازن بين مقدار ما يرغب الناس في شرائه ومقدار ما يرغب الناس في بيعه. وبذاك إذا زاد طلب الناس فجأة علي شيء ما، فإنه لا يختفي من السوق. وانما يرتفع سعره مما يؤدي إلى زيادة الكمية المتاحة منه.
ولأن الأسعار تقوم بضبط الأسواق فإن الرفوف نادرًا ما تكون فارغة في ظل اقتصاد السوق. طالما أنك على استعداد لدفع ثمن السلعة، فبالتأكيد يمكنك الحصول عليها. نعم ربما في بعض الأحيان، عليك أن تدفع أكثر من ذلك بقليل، وفي بعض الأحيان، أقل قليلاً مع تغير الظروف، ولكن الأمر الأكيد أنه يمكنك العثور عليها في السوق.
تحدث آدم سميث عن ميل الإنسان إلى المقايضة والتبادل. فالناس دائما يبيعون ويشترون اشياء. دائماً يبحثون عن صفقة مربحة، يبحثون عن صفقة أفضل. دائماً ينظرون إلى البدائل. فالبحث عن صفقة جيدة من قِبَل كل من البائعين والمشترين الذين يدرسون البدائل هو ما يسميه الاقتصاديون بالمنافسة. ونتيجة لذلك فإن كل التعاملات في السوق مرتبطة ببعضها البعض.
لذا فالإجابة على سؤالنا، من أين تاتي الأسعار؟ تأتي الأسعار من التفاعل بين المشترين والبائعين وبدائلهم، كيف يمكننا إذًا تصوير حقيقة غريبة مفادها أنه لا توجد صفقة من فراغ؟ كيف يمكننا الحصول على الترتيب الناتج من كل هذه التعاملات؟
فالعرض والطلب هو عبارة عن طريقة بسيطة وقوية لوصف الطرق التي تحدث من خلالها التعاملات المترابطة عبر الزمان والمكان، وهي طريقة قوية لتنظيم تفكيرنا حول التعقيد الذي يترتب على الميل إلى المقايضة والتبادل، ولكنه تعقيد ناتج عن العمل البشري وليس عن التصميم البشري.
المصدر
The Library of Economics and Liberty
ترجمة وإعداد: محمد عبدالناصر
مراجعة: عبدالله أمين
تحرير: زياد الشامي