لطالما سيظل الكون مستودع للكثير من الأسرار… ما إن يتم حل لغز، حتى يظهر لنا العشرات.. ومن بين جميع تلك الألغاز، ستظل نشأة الكون واحدة من أكبر الألغاز التي يعجز العلماء عن حلها بدقة.. في عصرنا الحالي على الأقل.
في البداية.. نشأ الكون من انفجار كبير، ليتغير حجمه من جسيم أولي إلى فقاعة في حجم ثمرة العنب. هذا مايعتقده الفلكيون بشأن نشأة الكون، فمن الصعب التأكد من هذا الأمر بواسطة التجارب النظرية او المعملية، حيث يصعب توفير نفس الظروف الصعبة لتلك اللحظات.
والآن تمكن الفيزيائيون من عمل نموذج معملي لمحاكاة هذا التمدد، عن طريق تصميم نموذج كمي يتكون من ذرة شديدة البرودة؛ فقد تم نشر ورقة بحثية الأسبوع الماضي ف المجلة الفيزيائية الشهيرة (Physical Review X)، أنه بزيادة حجم سحابة دائرية من هذه الذرات فائقة البرودة، فإنها تقوم بتحفيز نشاط الموجات المنتشرة خلالها، مشابهة في ذلك كيفية تمدد الموجات الضوئية بتمدد الكون في فتراته الأولى.
تمكن هذا النموذج من محاكاة تلك الظاهرة بنجاح، اإلا أنه في المستقبل يتوقع أن يساعد في الاجاية عن المزيد من الأسئلة المعقدة مثل كيف كان لتغير كثافة الكون في أول مراحله أن يكون السبب في تشكل المجرات والأجسام الكونية لاحقا؟ هذا ما أوضحته الدكتورة (سيلكي وينفرتر – Silke Weinfurtner) أستاذة الفزياء الكمومية بجامعة نوتنجهام بالولايات المتحدة. والتي لم تكن ضمن الفريق البحثي لهذه الورقة؛ ولكنها أبدت اعجابها بهذا النموذج قائلة انها تجربة مثيرة ومفيدة للغاية.
يقوم الفريق البحثي المكون من عدد من الباحثين من المعهد القومي للمعايير والتكنولوجيا بمدينة جيثرزبيرج بولاية ماريلاند بالولايات المتحدة، باستخدام أحد حالات المادة تسمى (بوز- أينشتين المكثف Bose–Einstein condensate)، وبخفض درجة حرارة مئات الآلاف من الذرات إلى جزء في المليار من الدرجة الكلفينية (-270) أقرب ما يكون لصفر كلفن -يستحيل إيصال حرارة أي جسم في الكون إلى صفر كلفن- ففي هذه الدرجة تتغير هيئة وطبيعة الذرات إلى موجات، ثم تبدأ هذه الموجات في التداخل مع بعضها لتشكل لنا نظام كمومي متفرد. وقد تم استخدام هذه الطريقة من قبل في عمل محاكاة لثقب أسود في المختبر، وأيضا من أجل انشاء الموصلات الفائقة لتوصيل الحرارة المرتفعة للغاية.
مرايا الماضي
يعتبر مرور موجات الصوت عبر وسط بوز اينشتين المكثف، مشابه لمرور الموجات الضوئية في الفراغ في اللحظات الأولى للكون. ومن أجل عمل المحاكاة، اعتمد الباحثون على استخدام أشعة الليزر لمحاصرة الذرات في حلقة تحيط هذا الوسط الكمي، على أن يتم التحكم في هذه الأشعة بواسطة عدة صفوف من المرايا، حيث يتردد بينهم شعاع الليزر كي يتمكن من عمل مناورة للذرات الهاربة من تلك الحلقة. ولمحاكاة تمدد الكون، تم زيادة قطر تلك الحلقة بسرعة الصوت، الأمر الذي كان يعتبر تحديا كبيرا، ثم يتم ادخال الموجات الصوتية للنظام الكمي وأخذ العديد من الصور لمراقبة تطورها بتمدد الحلقة.
لاحظ الفريق زيادة طول الموجات الصوتية بزيادة قطر الحلقة، وهي ظاهرة تحدث للموجات الضوئية في الفضاء تسمى (الانزياح الأحمر redshift) حيث يزيد طول الموجة الضوئية تدريجيا ليتغير لونها من الأزرق إلى الأحمر. كما لوحظ أيضا انخفاض كثافة الموجات نفسها بزيادة التمدد، مشابها في ذلك لظاهرة اخرى تسمى (معامل احتكاك هابل Hubble friction )، وهو يوضح كيفة انخفاض كثافة الموجات الضوئية بانخفاض طاقتها نتيجة تمدد الكون
أخيرا، لاحظ العلماء ظاهرة أكثر تعقيدا، تعرف بظاهرة (التسخين الأولي- preheating )؛ ويعتقد أنها تحدث في نهاية عملية التمدد، حيث يحدث تشتت للطاقة المسببة للتمدد الأولي للكون، لتتحول إلى عدد من الجزيئات المعروفة لدينا اليوم. وفي نظام المحاكاة، حين تم إيقاف التمدد، بدأت الموجات بالتحرك عشوائيا يمينا ويسارا ثم أخذت في التحرك في صورة دوامات ملتفة حول الحلقة حتى تبعثرت تماما.
تقول الدكتورة (جريتشين كامبيل – Gretchen Campbell) الفيزيائية بالمعهد الوطني القومي للمعايير والتقنية، والمشرفة على هذه التجربة:
تعرف عملية انتشار جزيئات الطاقة تلك بالتسخين، لكنها حدثت في وقت أسرع من المتوقع، وبطريقة لم تقوم أي نظرية بتفسيرها من قبل. من الظاهر أننا وجدنا ما كنا نبحث عنه في هذه التجربة، ولكن في الحقيقة، كانت أكثر تعقيدا مما توقعنا.
يأمل الفريق في المستقبل من استخدام الذرات فائقة البرودة في قياس معامل احتكاك هابل بدقة أكبر، وراسة المواد المتكونة بعد عملية التسخبن، إضافة إلى العثور على ظاهرة فلكية جديدة.. وعند سؤالها عن ما اذا كان من الممكن أن يقوم علماء الفيزياء الذرية بتعليم الفلكيون شيئا جديدا، أحابت الدكتورة كامبل:
لا أعلم بعد، لكن الأكيد أن التسابق سيكون كبيرا بيننا، كما أن نظام المحاكاة هذا يعد مهدا لاستكشافات قادمة؛ وعلى كل الأحوال، فإن هذا النوع من التعاون سيساعد كلانا لرؤية الأشياء بصورة جديدة كليا.
المصادر
ترجمة: مجدي ممدوح
مراجعة: آية غانم
تحرير: زياد الشامي